إنتهت الحرب لكن المعركة لم تنتهي، فالفكر الذي أنجب داعش قادر على أن يأتي بغيره وبأكثر قسوة وأكثر إجراماً وظلامية، وهذه قصة أخرى، الا أننا يجب ان لانفوت أهمية النصر المتحقق، الذي عده الكثير قبل ثلاث سنوات مستحيل، النصر الذي جاء بعد طريق طويل مضرج بدماء أبناء العراق وتضحيات شتى صنوف قواته العسكريه وحشده الشعبي، حتى اعلان النصر المؤزر في يوم العاشر من تموز لعام 2017، الذي سيكون يوماً خالداً يداوي بعض جراحات هذا البلد المشبع بالجراح والآلام، فحرب تحرير المناطق التي سقطت بيد داعش لم يكن بالأمر الهين، فبالاضافة الى الخسائر الكبيرة من الشهداء والجرحى والنازحيين، فخسائر الحرب الاقتصادية هي الاخرى كبيرة، اذ إن المبالغ اللازمة لأعمار المدن المحررة تصل الى 120 مليار دولار، بحسب اللجنة المالية البرلمانية، والرقم مشابه لماذكرته وزارة التخطيط والذي وصل الى 100 مليار دولار، في حين يرى البعض ان هذه التقديرات مبالغ فيها، وأن ماتحتاجه هذه المدن من أجل إعمارها يصل الى مابين ال، 30- 50 مليار دولار.
وبغض النظر عن صحة ودقة هذه التقديرات، يبقى السؤال الأهم والذي هو بشقين : من أين سيؤمن العراق هذه المبالغ اللازمة لاعادة هذه المدن الى عهدها السابق على الاقل قبل الدمار الذي لحق بها، في ظل التقشف المالي في الايرادات الناجن عن هبوط أسعار النفط في 2014، والمستمر لحد الأن؟ ونعم أن الوضع الخاص بأسعار النفط تحسن الأن عما هو عليه سابقاً الا أن تأمين هكذا مبلغ لايزال عسير على الحكومة العراقيه تأمينه! والشق الثاني من السؤال، يتمثل في قدرة العراق على اعمار هذه المناطق والمدن فيما لو افترضنا تأمين هذا المبلغ بمساعدة أجنبية او من خلال القروض الخارجية... الخ. في ظل التناحر والانشقاق السياسي والفساد الاداري والمالي الحكومي، مع رغبة الكثير في اعادة التصميم الديموغرافي والحدود لهذه المدن المحررة؟! وهنا قد ظهر لنا صعوبة أخرى تضاف الى تمويل الاعمار الا وهي مدى الثقة في أن الاموال ستذهب وبشكل سليم الى اعمار هذه المدن، وفي ظل غياب تام لهذه الثقة، فأن مشروع اعمار هذه المدن سيكون أمراً أشبه بالمستحيل، فضلاً عن امكانية استغلاله للترويج السياسي والاعلامي والانتخابي للعديد من المسؤولين والساسة والاحزاب.
اذن ماهو المطلوب، او بعبارة أصح ماهو الحل لذلك ؟
يجب أن نعلم أنه في البدء وبعد بسط وفرض السيطرة وبشكل تام على هذه المدن أمنياً وعسكرياً، ضرورة أن تتولى مسألة اعمار هذه المدن، وتقدير المبالغ والاشراف على صرفها، جهات مستقلة من خارج العراق، كأن تكون الأمم المتحدة، حتى لاتترك المجال لأي جهة في أن تأخذ مسألة الاعمار ذريعة أو حجه لها، مع التأكيد على أن مسألة الاعمار يجب أن تكون بعيدة كل البعد عن التنازع السياسي والاختلافات الحزبية وماشابه، الأمر الثاني والمهم، هو تحصيل المبالغ اللازمة للأعمار، وهنا يجب أن نعلم أن العديد من الدول أبدت رغبتها في مساعدة العراق في ذلك، منها دول الخليج وايران والهند وغيرها من دول الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة، وبالتالي يمكن الاستفادة من هذه المساعي عبر تشكيل صندوق يختص بإعمار هذه المدن وتحت مسمى (صندوق اعمار المدن المحررة)، وبإشراف الأمم المتحدة حصراً، على أن تفهم الحكومة أنه من الضروري أن لاتقع ضمن فخ هذه المساعدات في أن تكون شروط وبنود تحوي في طياتها الاخلال بسيادة واستقرار البلد.
وفي هذا الصدد أعلن وزير التخطيط في الحكومة العراقية، سلمان الجميلي، عن وضع خطة لإعادة إعمار المناطق المحررة من سيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي، تمتد لـ 10 سنوات قادمة، بكلفة 100 مليار دولار، وذكر الجميلي، على هامش لقائه المدير الإقليمي للبنك الدولي في الشرق الأوسط، ساروج كومار جها، إن "خطة إعادة الاستقرار والإعمار للمناطق المحررة ستكون في إطار خطتين تنمويتين، الأولى تمتد بين 2018-2022 والثانية بين 2023-2028"، وأضاف، بحسب بيان للوزارة نقلته وكالة "الأناضول" أن "الحكومة تسعى لتوفير المبلغ من خلال المنح والقروض الدولية، وما يتم تخصيصه من الموازنة العامة للدولة على مدى سنوات الخطة"، ويتولى "صندوق تمويل الاستقرار الفوري" التابع للأمم المتحدة (تأسس في 2015)، تنفيذ مشاريع فورية في المناطق المحررة من قبضة "داعش"، ويتطلع العراق إلى الدول المانحة لإعادة تأهيل مدنه المدمرة والمتضررة من جراء العمليات العسكرية وأسفرت عن دمار كبير في البنية التحتية لعدد من المدن، كما إن الكويت وافقت على تنظيم مؤتمر دولي للمانحين مخصص لإعمار مدن شمال وغرب العراق، بمشاركة نحو 30 دولة عربية وأجنبية، يرجح أن تكون مساهمة السعودية والولايات المتحدة وبريطانيا الأعلى خلال المؤتمر الذي سيشهد تأسيس صندوق مالي لهذا الغرض، كما يسعى إقليم كردستان إلى شمله بخطة الإعمار التي تعمل بغداد على وضعها، وتخصيص جزء من الأموال التي ستموّل الخطة لإعمار المناطق التابعة للإقليم، والتي تضررت بسبب سيطرة داعش عليها لفترات زمنية مختلفة.
وبالتالي يرى المختصين أنه يمكن حصر التحديات الخاصة في اعادة اعمار هذه المدن بالأتي :
1- توفير الأمن: من دون شك فإن سياسة "الأرض المحروقة" التي اعتمدها تنظيم داعش الارهابي ربما تعوق، بدرجة محدودة، تقدم القوات العسكرية المواجهة لـ"داعش" على المدى القصير، بينما في الأجل الطويل سيتطلب الأمر جهودًا مضنية لاستعادة وتحقيق الاستقرار الأمني قبل بدء مرحلة إعادة الإعمار، فلاخلاف على أن الفراغ التنموي والسكاني الماثل حاليا في المدن العراقية المحررة حديثا قد يمثل فرصة لانتشار البؤر والجيوب الإرهابية مجددًا. وكما ينتظر أن تنجح الجهود الدولية في طرد مقاتلي التنظيم من العراق وإزاحته نحو سوريا، فقد يصاحب إعادة تمركز مقاتلي التنظيم بسوريا تهديدات أمنية مباشرة للأراضي العراقية المجاورة عبر الهجمات الخاطفة والعمليات التفجيرية الواسعة والألغام المزروعة التي يتكلف إزالة الواحد منها نحو 1000 دولار بحد أقصى أي بما يعادل 13 مرة من تكلفة إنتاجها حسب بعض التقديرات، ويضاف إلى السابق، أن طرد التنظيم ربما لن يكون كافيًا لإعادة الاستقرار الأمني والسياسي بهذه المناطق دون التأسيس لنظام تشاركي للحكم يقوم على تمثيل الجماعات الدينية والعرقية المختلفة مثل العرب والأكراد والأيزيديين والتركمان وغيرها.
2- حشد التمويل: تفرض سياسة "الأرض المحروقة" أعباءً مالية إضافية على الاقتصاد المتردي بكل من سوريا والعراق، من أجل توفير المخصصات المالية اللازمة لإعادة تأهيل المدن المحررة. وحتى الآن، تشير التقديرات العراقية إلى أن تكلفة إعادة إعمار المدن العراقية المحررة من "داعش" تبلغ نحو 40 مليار دولار، قد يضاف إليها لاحقًا التقديرات الخاصة بمحافظة نينوى. وهذه المبالغ لم يتلق منها الجانب العراقي حتى الآن سوى 2.2 مليار دولار.
3- التعامل مع المشاكل البيئية: تقتضي تلك السياسة التعامل مع الخسائر البيئية، حيث أدى التدمير العمدي للمدن إلى حدوث تلوث واسع للمجال الجوي والمائي بالعراق وهو أمر من شأنه أن يخل بالتوازن البيئي ويلحق أضرارا صحية بالسكان، فكما أعلنت منظمة الأمم المتحدة في أواخر أكتوبر 2016، فقد تم تسجيل أضرار بيئية خلال عملية استعادة الموصل، حيث تسبب إشعال التنظيم للنار في جزء من معمل الكبريت بالمشراق واستمرار اشتعال 19 بئرا نفطية قرب الموصل حتى الآن في إطلاق غازات سامة بالهواء مثل ثاني أكسيد الكبريت وكبريتيد الهيدروجين، فقد تسبب إقدام تنظيم "داعش" على ضخ كميات من النفط من حقل القيارة من أجل تدمير الجسر العسكري العائم بنهر دجلة، الذي أنشأه الجيش العراقي عليه، في حدوث تلوث واسع بمجرى النهر.
4- إعادة إدماج السكان: بطبيعة الحال، أدى تصاعد حدة الصراع مع التنظيمات الإرهابية مثل "داعش" إلى نزوح عدد كبير من السكان بجانب تزايد عدد اللاجئين بالخارج. وطبقا لتقديرات الأمم المتحدة، فقد بلغ عدد النازحين بالعراق نحو 4.4 مليون نازح، ومن المرجح أن تتزايد هذه الأرقام بعد معركة الموصل، حيث تتوقع الأمم المتحدة نزوح مليون شخص من أصل 1.5 مليون من مدينة الموصل فقط بسبب عملية تحريرها.
في ظل كل هذا وعلى الرغم مما تقدم من مصاعب وتحديات علينا أن نفكر ان الطريق طويل نحو إعمار هذه المدن الا أنه يمكن أختصار الوقت اذا ماتم التفكير بشكل يمكن من تحويل كل نقاط الضعف والسلب الى ايجاب وقوة، فبدل ان نفكر فقط في اعمار هذه المدن، يجب أن نفكر في ان تكون هذه المدن بوابة استثمارية كبيرة، نظراً لما تحويه هذه المدن من ثروات طبيعية ومادية قادرة أن تجعلها تقف على قدميها من جديد والانطلاق نحو المستقبل وبشكل أسرع، عبر بوابة فتح الاستثمار فيها، لاسيما الموصل التي تعد من المدن الغنية بالثروات، وهذا يتم من خلال تأسيس مجلس استشاري استثماري مشترك بين العراق والدول الاعضاء في اعمار وتطوير هذه المدن، وبالتالي يمكن أن يتم الاستفادة من المبالغ المقدمة لاعمار المدن في تنميتها وتطويرها، من خلال انشاء المصانع وتأهيلها وتطويرها وتطوير القطاع الزراعي والصحي والتعليمي من خلال فتح باب الاستثمارات الاجنبية، فمن شأن هذا أن يقلل من الثقل الواقع على عاتق الحكومة في اعمار هذه المدن، بل وأن يمتد ذلك الى حتى توفير الخدمات الاخرى، وبالتالي تخفيف العبء عن كاهل الحكومة، والانصراف الى اعادة هيكلة الجيش وفرض الامان في هذه المدن والمناطق، فضلاً عن إمكانية انشاء صناديق خاصة بالتبرعات محلياً وعالمياً من أجل ضمان المبالغ الخاصة بالأعمار وتمويل التنمية في هذه المدن وبالسرعة الممكنة.
اضف تعليق