q

لحظات صمت.. سماء ملبدة بالغيوم، صوت نعيق الغراب والدفان الذي كان يحفر قبراً لميت سوف ينزل غدا الى منزله الجديد، كان يحدق بنظره إلي وكأنني مدين له أو ربما كنت كقاتل في نظراته الدامية، في كل مرة كان ينظر إلي، كان يتمتم بتعويذات مبهمة مما يزيد في رعبي منه، ربما أراد ان أكون طعامه للغد، كنت أصاب بالقشعريرة من نظراته الغامضة، ويرتجف بدني من رؤيته، كأنه ملك الموت وجد هنا ليقبض روحي ببطء وصمت.

جلست على قبره، الدموع كانت تجري من ينبوع عيني، مع خروج كل قطرة كنت أتذكر ضحكاته وأفعاله الحسنة من جانب وصراخي وأفعالي القبيحة من جانب آخر، اقتربت الشمس من الرحيل وكأنها تريد ان تخبر الخلائق بأن أيامكم معدودة وكل شيء سوف يزول في يوم ما، فاحضنوا أحباءكم قبل ان يرحلوا وقبّلوهم قبل أن تقبّلوا جبينهم في المغتسل اعتذارا! ارفقوا بهم قبل فوات الأوان.

غربت الشمس.. بل غربت شمسان من حياتي، شمس أظلمت الدنيا برحيلها وشمس أظلمت دنياي برحيلها، اعتذرت منه عن كل الأخطاء التي اقترفتها بحقه، عله يسامحني لأكمل مسيرتي بسلام.

منذ رحيله لم استطع ان أغمض عيني بطمأنينة، منظره أمامي أينما أذهب، صورته كابوس يلاحقني في كل مكان! ليتني لم افعل.. ليتنا نقدر وجود أحبائنا قبل رحيلهم!.

آه طويلة فلتت من بين أضلاعه مما تبين لي انه نادم بعدد كل شُعَيْرة توجد فوق رأسه، منذ الصغر كنت ابحث في كل حفرة وزاوية عن تجارب الآخرين، كنت أصغي جيداً لكل كلمة تخرج من أفواه قائليها، لذلك لم اخرج من الساحة فارغ اليدين، تجارب الآخرين قدمت لي الكثير مما جعلتني أكون أكثر وعيا من قريناتي دائماً كما يقال لي هنا وهناك.

مسح دموع الفراق من وجنتيه او ربما كانت دموع الخجل، ذرفت مجازاة لطغيانه، طغى وسرعان ما سُحِق رأسه تحت أرجل الدهر كي يتعلّم أن من يتجرأ ويتكبر على والديه سوف يصغر ويُحتقَر بطريقة ما، انه قانون الطبيعة لا يذهب أي شيء سدى لكل فعل رد فعل .

تكلمت معه كثيرا ولكن دون جدوى، قال كلامك كمسكن للألم ربما يهدئني فقط، ولكن لا يزيل عني عاهتي.

عن أي عاهة تتكلم يا رجل؟.

عن جنون الشباب!.

أي جنون هذا؟.

جنون أعمى، كلما كنت اكبر كان يزداد إعجابي بنفسي، كنت أقف أمام المرآة وأتفحّص عضلاتي، كنت في القمة آنذاك وانظر الى الجميع نظرة دونية، لم يعجبني أي تصرف من تصرفاته، ربما كان هو السبب في عقوقي وعاهتي، سجل اسمي في مدرسة أهلية لأكون الأفضل، ولكن كيف كان باستطاعتي أن اذهب الى تلك المدرسة وارى أحذية زملائي وحقائبهم المدرسية من أفضل الماركات وأنا أكون كالأهبل بينهم، كانوا يضحكون عليّ ويسخرون مني، اذكر أول مرة صرخت عليه بشدة، كم كنت فرحا لأنني أصبحت قويا، اكتملت فرحتي في اليوم التالي عند حصولي على الحذاء الذي كنت أريده.

كانت تلك نقطة البداية لشقائي عندما شعرت انه يلبي طلباتي اذا صرخت او تركت البيت، سكوته كان بمثابة وسام لي يدفعني لأطغي أكثر فأكثر. وكم كنت أعمى، حسبت أن الدنيا بدونه سوف تكون أجمل بكثير، لم أكن اعرف انه هو (الدنيا) بذاتها.

صوت شخيره كان يزلزل كياني، كأنه كان شيئا إضافيا في بيتي، كنت اعد أصابعي لأرميه خارج البيت، كنت اشعر انه أصبح بلا فائدة كالحيوان، ولا جدوى من وجوده ولكن كنت أنا كالحيوان بأخلاقي وأسلوبي (ان هم كالأنعام بل هم أضل).

لم أنسَ عينيه الدامعة عندما توسل لأقلّه معي الى المجمع، توسل لأشتري له شيئا ما، ولكن أردت أن اثبت رجولتي في تلك اللحظة وأصبح قلبي كالحجر، لم اهتم به بتاتاً ليته كان يرجع كنت أفدي نفسي وكل ما لدي لأجله، كنت اشتري له ما يريد ليته لم يرحل.........

تذكرت الآن لماذا نظر إليّ الدفان، هكذا هو نفسه الذي اقترب إلينا في المجمع ليشتري له ما يريد عندما لم اقبل ان ادفع له المبلغ الذي كان يريده، يا لتعاستي يا لقسوة قلبي!.

تحولت حياتي الى جحيم، لم أدرك أن وجوده بركة في البيت إلا بعد خروجه، كم كنت فقيرا عندما فكرت أن وجوده يتطلب مني بذل أموالي فقط، ربما كنت اصرف مبلغا ضئيلا على أدويته وطعامه، ولكن وجوده كان يبعد عني مصارف السوء ونيران البلايا.

خنقتني العبرة، أهكذا وصى ديننا المبين؟ (ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما).

وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ كيف للمرء ان يجازي والديه بهذه الصورة المؤلمة، هل هذا جزاء من يهدي شبابه لثمرة حياته؟ سلام الله على أمير الكلام علي عندما قال: (من أحزن والديه فقد عقّهما).

كبرنا ثم أدركنا ان من يرحل لم يرجع أبدا، كبرنا ثم أدركنا أن هناك أشياء أكثر رعبا من الظلام، كبرنا ثم أدركنا أن وراء كل ابتسامة لوالدتنا كانت تسكن ألف عبرة ودمعة، ووراء أي فعل قام به آباؤنا كان يكمن مرض ولم نعرف ذلك لصغر عمرنا.

كبرنا وأدركنا ان مشاكلنا لم تتغير بقطعة حلوى (شوكولاته) او حقيبة او ملابس جديدة، بل إنها أعظم من ذلك، كبرنا وأدركنا لا يوجد احد يأخذ بأيدينا لنعبر الشارع، بل يجب ان نمضي وحدنا في أزقة الحياة المزدحمة بلا معين، كبرنا ثم أدركنا أننا وحدنا لم نكبر، بل كبر معنا والدانا وأوشكا على الرحيل ام رحلا؟؟

كبرنا كثيرا ثم أدركنا أن وراء كل ابتسامة لوالدنا كان ظهر دؤوب، عجيب أمر الدنيا والأعجب من ذلك (قصر أعمارنا). عذرا فيثاغورس، أبي هو أصعب معادلة في الكون، عذرا نيوتن، أمي هي سبب جاذبية الأرض، عذرا إديسون، إن أول مصابيح حياتي أمي وأبي.

اضف تعليق