قبل ان يكتب الفيلسوف الألماني هيجل عن موضوع المجتمع المدني، كان هذا المصطلح مرادفا في معناه تقريبا لمصطلح الدولة. وكان هيجل في استخدامه لهذا المصطلح يشير إشارة ضمنية الى المجال الاجتماعي لظاهرة التبادل التجاري في السوق (أي اقتصاد السوق، وهي فكرة مستمدة من بعض الكتابات السابقة، مثل كتاب ثروة الأمم لادم سميث). وفي اقتصاد السوق ينهمك الفاعلون المدنيون، كل بصفته الفردية وبصورة ارادية، في السعي الحثيث لتحصيل الثروة المالية، والملكية، وتبادل السلع. ويضع هيجل المجتمع المدني في مقابل مجال الاسرة ، الذي تقوم فيه الروابط التي تجمع بين أعضائها على أساس المحبة المتبادلة "أي روابط الحب".
وعلى النقيض من الاسرة يتميز المجتمع المدني بانه يمثل عالم الاشتباك الذي يسعى كل فرد فيه لتحقيق غاياته الخاصة به وحده، وهو بهذا التصرف يواجه الاخرين الساعين بدورهم لإشباع حاجاتهم الذاتية "وبتعبير اخر تكون العلاقات القائمة بين افراد هذا المجتمع من نوع العلاقات الذرائعية او النفعية". وبهذا الشكل يكتسب الفرد في المجتمع المدني إحساسا بهويته يستمده من استقلاله النسبي عن الاخرين.
ومع هذا فان هذا الاستقلال ينطوي في رأي هيجل على سمة مشتركة، ذلك لان الافراد يقومون، من خلال سعيهم الحثيث لتحقيق غاياتهم الذاتية، بتطوير إحساس بالاعتماد المتبادل بين كل فرد والاخرين. ومن هنا لا ينظر هيجل الى المجتمع المدني على انه مجرد حصيلة وجود افراد منهمكين في السعي بحرية لتحقيق رغباتهم، ولكنه يفهمه على انه بجانب ذلك، مجتمع يجلب معه إحساسا بالمصالح المشتركة، بمقتضاه يدرك الافراد واجبهم تجاه بعضهم البعض (من ذلك يستطيع الافراد في المجتمع المدني، المطالبة بحقوق معينة مثل الحق في تامين العمل لكل منهم، والحق في التعليم، والحق في الحماية من الشدائد الاجتماعية كالفقر مثلا).. يميل بعض المعلقين المعاصرين الى تبني وجهة النظر الهيجلية، الا وهي ان المجتمع المدني يمثل مجالا للارتباط الفردي الحر بالأخرين مقابل مجال قوة الدولة.
انشغل بمفهوم المجتمع المدني فلاسفة التنوير في مرحلة مقاومة أنظمة الحكم المطلق، ولم تحل النظرة الفلسفية دون إضفاء الطابع السياسي على هذا المفهوم، إذ جعلوه مقابلا للدولة الاستبدادية، وانتشر تداول هذا المصطلح في أوربا في القرن السابع عشر مع نشوء الديموقراطيات التي أقيمت على أنقاض الأنظمة السياسية التي كان يسودها الحكم المطلق، ونفوذ الكنيسة، وهيمنة الإقطاع؛ وفي هذا السياق يأتي كتاب المفكر الاسكتلندي (آدم فرجسون) حول تاريخ المجتمع المدني الصادر سنة 1767، والذي أثار فيه تساؤلات حول تمركز السلطة السياسية، واعتبر أن الحركة الجمعوية هي النسق الأفضل للدفاع ضد مخاطر الاستبداد السياسي؛ وفرق (توماس هوبز) بين الدولة والمجتمع المدني في كتابه حول حقوق الإنسان الصادر سنة 1791، ودعا إلى حكومة محددة الوظائف ومجتمع مدني حر وسام، غير أن هذه الدعوة لم تجد صداها مع نمو المجتمع الرأسمالي.
في الفكر الماركسي فإن مفهوم المجتمع المدني ظل يستعمل كسلاح في مواجهة السلطة الشمولية، واعتبر (كارل ماركس) أن المجتمع المدني هو « ساحة الصراع الطبقي» وعالج المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي موضوع المجتمع المدني من منظور جديد، فاعتبره ليس ساحة للتنافس الاقتصادي، وإنما ساحة للتنافس الإيديولوجي، ويقول (غرامشي) أن المجتمع المدني هو مجموعة من البنى الفوقية، مثل النقابات، والأحزاب، والصحافة، والمدارس، والكنيسة، ويعتبر أن الفاتيكان أكبر منظمة خاصة في العالم، ويفصل بين أدوار ومهام المجتمع المدني ووظائف الدولة، ويفسر ذلك المفكر الألماني المعاصر (يورغن هابرماس) بقوله إن وظائف المجتمع المدني في مفهوم (غرامشي) تعني الرأي العام غير الرسمي، أي الذي لا يخضع لسلطة الدولـة.
بالنسبة الى المنظرين السياسيين على غرار جين كوهين وتشارلز تيلور وايريس ماريون يونغ، يستمد المجتمع المدني أهميته كذلك من الأسلوب الذي يمكنح به المواطنين الفرادى وسيلة فاعلة للتاثير في السياسات العامة. فعندما يجتمع الناس معا في تجمع، يبدأون التفكير حول مصلحتهم الخاصة والمشتركة باعتبارها مصلحة عامة جماعية، ويحاولون التأكد منم ان هذه المصلحة العامة مطروحة بالفعل في المناقشات السياسية.
هناك عدة تعاريف للمجتمع المدني، من بينها التعريف الذي يقترحه دومنيك كولاس ، المجتمع المدني « يعني الحياة الاجتماعية المنظمة انطلاقا من منطق خاص بها وبخاصة الحياة الجمعوية التي تضمن دينامية اقتصادية وثقافية وسياسية»، ويعرفه (برتراند بادي) بأنه « كل المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن من الخيرات والمنافع دون تدخل أو وساطة من الدولة» ، ويعرفه (وايت جوردون) بأنه « مملكة توسطية تقع بين الدولة والأسرة، وتقطنها منظمات منفصلة عن الدولة، وتتمتع باستقلال ذاتي في علاقتها معها، وتتشكل طوعا من أفراد يهدفون إلى حماية مصالح أو قيم معينة»، ويعرفـه عبد الغفار شكر بأنـه «مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة، التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح، والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف» ، ويعرفه سعد الدين إبراهيم بأنه: « المجال الذي يتفاعل فيه المواطنون، ويؤسسون بإرادتهم الحرة، تنظيمات مستقلة عن السلطة، للتعبير عن المشاعر، أو تحقيق المصالح، أو خدمة القضايا المشتركة»، ويفيد مصطلح المجتمع المدني في الأدبيات السياسية الحديثة، معنى «الوسائط المبادرة» .
ويرى محمد عابد الجابري أنه مهما كان الاختلاف في تعريف المجتمع المدني، فإن ما هو بديهي ولا يمكن أن يكون محل اختلاف، هو أن المجتمع المدني أولا وقبل كل شيء «مجتمع المدن» ، وأن مؤسساته هي التي ينشئها الناس بينهم في المدينة، لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فهي إذن مؤسسات إرادية، أو شبه إرادية، يقيمها الناس وينخرطون فيها، أو يحلونها، أو ينسحبون منها، وذلك على النقيض تماما من مؤسسات المجتمع البدوي التي هي مؤسسات «طبيعية» يولد الفرد منتميا إليها، مندمجا فيها، ولا يستطيع الانسحاب منها كالقبيلة والطائفة.
اضف تعليق