لا يبخس أمير المؤمنين حق أصحاب الكفاءات واختلافهم المهني والاجتماعي، ولكنه في الوقت ذاته يرى أن هذه "الطبقية" يجب ان لا تدعو إلى التفاوت وإنما العكس إلى التعاون؛ فيعطي الحق لمن لا يملك حقه أن يطالب به، ويدعو الولاة أن يتلطفوا بمن دونهم من الطبقات الأخرى بل يصف...
ما هو المقصود بأزمة التفاوت الطبقي، وما هي أسبابها وتأثيراتها في الاستقرار الاجتماعي؟
ما هي الأسس والمبادئ التي اعتمدها الإمام علي (عليه السلام) في معالجة التفاوت الطبقي، وكيف يمكن الإفادة منها في واقعنا المعاصر؟
اللا عدالة وعدم تكافؤ الفرص في مختلف مجالات الحياة من عمل ودراسة وتقسيم الثروات وما شابه يؤدي إلى إجحاف في حق من لم يحصل على نفس تلك الفرص، وفي نفس الوقت يؤدي بالآخرين إلى أن يحصلوا على أكثر من حقهم في تلك المجالات وبالتالي يحوّلهم إلى حيتان تبلع الأسماك الصغيرة..
هذه الحالة لا تؤدي إلى الحرمان الاقتصادي والمادي والمعيشي عند فئة معينة فحسب وإنما تنتج الحقد والكراهية وطلب والانتقام ممن يشعر الإضطهاد ضد المتمكنين، إذ لا يقف الأمر عند هذا الحد بل قد يحوِّل كل ناجح في الحياة إلى طعمة وضحية حتى وإن حصل على ما حصل نتيجة كده ومثابرته ولم يأخذ أكثر من حقه ولم يستخدم أي ريع أو فرصة عدا جهده الشخصي، وبالتالي فإن ذلك يهدد الاستقرار الاجتماعي والشعور بالأمان.
من هنا فإن الحل هو اجتثاث جذور اللاعدالة من الأساس ومنح فرص متكافئة للجميع من دون أي تمييز أو انحياز، ليحصل كل فرد على امتيازات تتناسب مع جهده وكفاءته الحقيقة، وبذلك لن يصعد أحد على كتف أحد بالاستبداد أو العنصرية، ولن يُفتح باب الحقد أو الكراهية وإنما سيكون هناك جو من التنافس الصحي البنّاء.
وكان الحكم العلوي الفريد خير مجسّد وأوضح مثال في تطبيق هذا النهج، فحينما استلم أمير المؤمنين عليه السلام الحكم بعد انتخاب الخاص والعام، أعلن في باكورة أعماله عن أنه سيحكم بالعدل وستكون بيعته وطاعته على حفظ الحقوق، وهكذا كان في توزيعه العادل للمال والفرص، فلم يفضل القريب على البعيد، ولا الخواص على العوام، ولم ينحز لفئة فكرية أو اجتماعية أو سياسية على حساب أخرى.
وفي نفس الوقت سنَّ قانون الضمان الاجتماعي؛ ونموذجه الحادثة المعروفة حينما رأى نصرانيا يتكفف فأبدى تعجبه من حالة الظلم الإجتماعي الاقتصادي نتيجة الإهمال الذي حصل بحق الكتابي، فأدخله في قائمة الضمان الاجتماعي المسمى اليوم بـ" الشؤون الاجتماعية " وهو عبارة عن راتب يخصص للعاجز والأرملة واليتيم والمحتاج ممن لا يزال يبحث عن فرصة عمل، وبهذا النظام يكون المجتمع في أمان من العنف والسرقة وحالات قتل النفس والأولاد من إملاق، ولم يكتف بهذا المقدار وإنما أعلن ضمن قائمة وصاياه في العهد الأشتري عن منع أي احتكار يسبب الجوع أو يؤدي إلى الطبقية المجحفة.
وفي نفس الوقت أمر بإبقاء السنن القديمة التي اعتادها الناس ولا تخالف الدين وتؤدي إلى الوئام قائلا: "ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية".
ذلك لأن الفطرة الإنسانية مشتركة لدى جميع الأمم، وهي تميل إلى عطف السلطان ورعايته، وحينما تأتي فئة جديدة للحكم فإنها عادة لغاية في نفسها تريد الابتعاد عن هذه الفطرة مما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي، فجاءت هذه الوصية في سبيل الحفاظ على هذا الاستقرار.
وفي الوقت ذاته لا يبخس أمير المؤمنين عليه السلام حق أصحاب الكفاءات واختلافهم المهني والاجتماعي، ولكنه في الوقت ذاته يرى أن هذه "الطبقية" يجب ان لا تدعو إلى التفاوت وإنما العكس إلى التعاون؛ فيقول سلام الله عليه: "واعلم أن الرعية طبقات؛ لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض..".
ومع حفظ هذه الشأن فإنه سلام الله عليه يعطي الحق لمن لا يملك حقه أن يطالب به، ويدعو الولاة أن يتلطفوا بمن دونهم من الطبقات الأخرى بل يصف ذوي الهمم من العامة بأنهم خواص الخواص!
ويطلب من الوالي تحمل العي والحمق من الرعية والجلوس إليهم واستماع شكواهم وإنصافهم من ظالمهم بقدر الإمكان وبأعلى مستوى من العدل والأمان منه ومعه فيقول عليه السلام: "حتى يكلمك متكلمهم غير متعتِع، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في غير موطن: لن تقدَّس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتِع..".
من هنا فإنه؛ لا شك ان العالم المعاصر لو ركَّز على كيفية الحفاظ على الأمن والاستقرار الاجتماعي أكثر من تركيزه على كيفية استمرار ودوام السلطة، سيكون باستطاعته معالجة التفاوت الطبقي ليتحول إلى التعاون المجتمعي.



اضف تعليق