هذه الرسالة لو حملت عنوانا آخر غير عنوان التسامح، لكان حظها من الاهتمام أقل، ولما لفتت الانتباه في وقتها وما بعد وقتها، لأن الأعمال تعرف بأسمائها، وأول ما يستوقف الانتباه فيها هو أسماؤها، والتسامح كان اسما يستوقف الانتباه كثيرا في عصره، وما زال يستوقف الانتباه حتى في عصرنا...

في سنة 1689م نشر الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632-1704م) باللغة اللاتينية كتابه الوجيز (رسالة في التسامح)، صدر في مدينة خودا الهولندية بمتابعة وإشراف من صديقه فيليب فان لمبروش (1633-1712م)، وكان في الأصل عبارة عن إجابة موسعة لسؤال منه وجهه إلى صديقه لوك، يطلب فيه رأيه حول التسامح المتبادل بين المسيحيين.

سلم لوك الرسالة إلى صديقه لمبروش وعاد إلى موطنه، وبطلب منه صدرت الرسالة في كتاب من دون أن تحمل اسمه، وعرفت الرسالة ولم يعرف صاحبها، وظلت على هذا الحال إلى ما قبل وفاة لوك بشهر واحد، حين صرح بهذا الأمر في حاشية وصيته حسب رواية الدكتور عبدالرحمن بدوي.

بعد عودته إلى إنجلترا، علم لوك أن نسخة من الرسالة وصلت إلى التاجر الإنجليزي وليم بوبل وأنه بصدد ترجمتها إلى الإنجليزية ونشرها، مع ذلك اتخذ لوك موقف الصمت، وفضل عدم التدخل حتى لا ينكشف أمره.

 وترجمت الرسالة وصدرت في كتاب بالإنجليزية سنة 1689م، ولم يدون عليه اسم المترجم، وبعد أن لقيت الرسالة رواجا، وقيل أنها نفدت خلال شهور قليلة، وصدرت في طبعة ثانية سنة 1690م.

وما إن عرفت الرسالة في المجال الأوروبي حتى تتابعت ترجماتها، فقد ترجمت إلى الفرنسية والألمانية والإيطالية والهولندية، وتأخرت ترجمتها إلى العربية لسنة 1987م، أنجزها الدكتور عبدالرحمن بدوي، وقام بترجمتها عن الأصل اللاتيني وراجعها على الترجمتين الإنجليزية والفرنسية، وضمنها مقدمة موسعة وصفها بالمستفيضة، وهي تعادل حجم الرسالة، إلى جانب تعليقات على المتن في الهامش.

وبهذا الجهد يكون الدكتور بدوي قد قدم إسهاما مهما في التعريف بهذه الرسالة هو الأبرز في المجال العربي، وفي دعم وتدعيم موقف التسامح عند لوك، وبات اسمه حاضرا في كل حديث يتعلق بهذه الرسالة في المجال العربي المعاصر.

وفي سنة 1997م صدرت ترجمة ثانية للرسالة، أنجزتها الباحثة المصرية الدكتورة منى أبو سنة، راجعها وقدم لها الدكتور مراد وهبة، صدرت ضمن المشروع القومي للترجمة في مصر.

من الواضح والثابت أن رسالة لوك تنتمي إلى مجال التسامح الديني، وتتصل من ناحية الموضوع بنطاق الدين المسيحي، وتتحدد أطروحتها بصورة رئيسة في ضرورة الفصل التام بين مؤسسة السلطة الدنيوية ومؤسسة الكنيسة الدينية، والكشف عن حدود سلطة الحاكم المدني من جهة، وحدود سلطان الكنيسة من جهة أخرى.

وعن هذه الأطروحة يرى لوك أن الدولة هي جماعة من الناس، تكونت لغرض وحيد هو المحافظة على خيراتهم المدنية وتنميتها، وأنها مقصورة على رعاية شؤون هذه الدنيا، ولا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تمتد إلى نجاة النفوس، وتمس أي شيء يتعلق بالحياة الآخرة.

أما الكنيسة فهي في نظر لوك، جماعة حرة مؤلفة من أناس اجتمعوا بإرادتهم لعباده الله علنا، على النحو الذي يرونه مقبولا عنده، ويكون كفيلا بتحصيلهم للنجاة، ويجب أن تنحصر كل قوانين الكنيسة داخل هذه الحدود، وفي هذه الجماعة لا يمكن فعل شيء يتعلق بامتلاك خيرات مدنية، ولا يجوز استخدام القوة هنا لأي سبب كان، لكون أن القوة هي كلها من اختصاص الحاكم المدني.

وعن الحدود الفاصلة بين هاتين الجماعتين أو المؤسستين، يرى لوك وبنوع من القطع والجزم والتشدد أن هذه الحدود على كلا الجانبين ثابتة ولا يمكن تغييرها، ومن يخلط بين هاتين الجماعتين المختلفتين كل الاختلاف في الأصل والغاية والجوهر، إنما يخلط بين السماء والأرض، بين أمرين هما في غاية البعد والتضاد.

وعند النظر في هذه الرسالة فحصا وتبصرا، يمكن الإشارة إلى الملامح والعناصر والملاحظات الآتية:

أولا: إن من عناصر أهمية هذه الرسالة أنها حملت في عنوانها تسمية التسامح، وتفردت بهذه التسمية، وجاءت ولفتت الانتباه إلى هذا المفهوم، وجعلته في دائرة الضوء، وصنعت له ذاكرة، وحفرت له تاريخا، وكونت له إرثا، وشكلت له وجودا، وسجلت له أثرا ظل باقيا وممتدا وعابرا بين الأمكنة والأزمنة.

كما أن هذه الرسالة مثلت نصا مهما في موضوعه، وسدت فراغا حيويا، وبات من الممكن القول إن الفكر الأوروبي الحديث أنتج نصا في التسامح، يمكن الرجوع له، والاستناد إليه، والانطلاق منه، والبناء والتراكم عليه، نصا أصبح يؤرخ له في تاريخ تطور الفكر الأوروبي الحديث.

وتأكدت هذه الملاحظة وتجلت في الاهتمام المبكر بهذه الرسالة، التي تتابعت ترجماتها باللغات الأوروبية المختلفة، وأول ما استوقف الانتباه فيها هو عنوانها، الذي جاء ومثل في وقته مطلبا ملحا، وعبر عن حاجة ضرورية، شعر بها وتلمسها الواعون والمتنورون الأوربيون في ذلك العصر، سواء المنتمين إلى العلم الديني أو المنتمين إلى العلم المدني.

وأظن أن هذه الرسالة لو حملت عنوانا آخر غير عنوان التسامح، لكان حظها من الاهتمام أقل، ولما لفتت الانتباه في وقتها وما بعد وقتها، لأن الأعمال تعرف بأسمائها، وأول ما يستوقف الانتباه فيها هو أسماؤها، والتسامح كان اسما يستوقف الانتباه كثيرا في عصره، وما زال يستوقف الانتباه حتى في عصرنا الراهن، فهو الذي قادنا لهذه الرسالة، وجعلنا نجدد الاهتمام بها بعد ما يزيد على ثلاثة قرون.

ثانيا: في هذه الرسالة قدم لوك رؤية معتدلة ومتوازنة وبعيدة عن التحيز الديني والسياسي، فلم يظهر أنه كان متحيزا لمؤسسة السلطة على حساب مؤسسة الكنيسة، أو أنه كان متحيزا لمؤسسة الكنسية على حساب مؤسسة السلطة، وإنما كان متحيزا لمؤسسة السلطة ومدافعا عنها في مجالها الدنيوي، وضمن نطاق صلاحياتها وحدودها في تنمية الخيرات المدنية، وحسب القوانين المشرعة لها، ومتحيزا كذلك لمؤسسة الكنيسة ومدافعا عنها في مجالها الروحي، وضمن نطاق صلاحياتها وحدودها في تحصيل النجاة، وحسب القوانين المشرعة لها.

ولا شك أن الخلفية الفلسفية والمجال الفلسفي الذي ينتمي له لوك ويعرف به، قد أسهم في اعتدال هذه الرؤية وفي توازنها، وحتى في بلورتها وتنضيجها، وتجليتها بالمستوى الذي ظهرت عليه.

فقد حاول لوك في هذه الرسالة أن يقدم رؤية حول قضية معقدة وحساسة وخطيرة تتصل بالمجالين الديني والسياسي، رؤية جاءت بعيدا عن فكرة المصلحة لا من جهة مؤسسة السلطة ولا من جهة مؤسسة الكنيسة، ويتأكد هذا الموقف من عدم كتابة اسمه على الرسالة حتى لا يعرف بها، ولا تعرف به، وتكتم على هذا الأمر ما يقارب عقدا ونصف العقد، ولم يفصح عنه إلا مع اقتراب أجله.

وأظن أن هذا الاعتدال والتوازن في الرؤية، من العوامل التي أسهمت في رواج هذه الرسالة ومتابعتها في عصرها وما بعده، والعناية بنشرها وترجمتها، والإحتفاء بها باللغات الأوروبية المختلفة.

وهذا ما يحدث عادة مع الرؤى والأفكار التي تتسم بالاعتدال والتوازن، فهي أقدر من غيرها على البقاء في التاريخ كما يبرهن التاريخ نفسه.

ظهر جون لوك في رسالته حول التسامح ملتزما بالإيمان الديني، ومدافعا عن التجربة الدينية، ومتمسكا بالتعاليم الأخلاقية، كما لو أنه مفكر ديني وينتمي إلى الفكر الديني، أما الرسالة فهي أقرب إلى مجال الفكر الديني، أو أنها تقف على تخومه، ولا تتفارق معه أو تعانده وتخاصمه.

وما لفت الانتباه إلى هذا التعلق بالجانب الديني في رسالة لوك، كون أن لوك فيلسوف وفي عداد الفلاسفة الكبار في تاريخ الفلسفة الأوروبية الحديثة، وحين تحدث الباحث الأمريكي وليم كلي رايت (1877-1956م) في كتابه (تاريخ الفلسفة الحديثة) الصادر سنة 1941م، عن موجز سيرته تمهيدا للحديث عن أفكاره، ختم كلامه بالقول: وعرف لوك بوجه عام بأنه فيلسوف العصر العظيم.

من جانب آخر، أن الأطروحة التي دعا إليها لوك في الفصل التام بين المؤسسة المدنية المتمثلة في السلطة ومجالها الدنيوي، وبين المؤسسة الدينية المتمثلة في الكنيسة ومجالها الروحي، هذه الأطروحة هي التي حصلت وتحققت في العالم الأوروبي، وأسهمت في إنقاذ الدولة الأوروبية الحديثة، وأخرجتها من محنة الفتن والحروب الدينية، كما أسهمت كذلك في إنقاذ مؤسسة الكنيسة، وأعادت التوازن الديني والسياسي في العلاقة بين السلطة والكنيسة.

هذه الأطروحة اتخذت من التسامح حكمة وفضيلة، مبدأ وأساسا، وجهة ومسارا، بقصد تعطيل ومنع استعمال القوة والإكراه في فرض الآراء على الناس، وفي العلاقات بين الجماعات الدينية المتعددة، وهكذا في العلاقات بين الجماعات الدينية والجماعات المدنية، ودعت في مقابل ذلك لإضافة قاعدة العدالة في التعامل مع الآخرين المختلفين، إلى جانب العمل بالإحسان والمحبة.

ومن هذه الجهة، تكون هذه الأطروحة قد حققت نجاحا يذكر لها ويسجل في هذا الشأن، وباتت تعرف به وتمتاز، ما جعل هذه الأطروحة تصبح في دائرة التذكر، النجاح الذي دعم مفهوم التسامح، ودفع به إلى الواجهة.

ومن جهة النقد، حصر لوك خطاب التسامح في المجال الديني، وتحدد في نطاق التسامح الديني المسيحي، وعرفت رسالته بهذه الصفة، وانحصرت بهذا الموضوع وتحددت به، وأفصح لوك عن هذا الأمر في مفتتح رسالته، ومنذ السطر الأول بقوله: سألتني أيها الرجل النبيل -يقصد صديقه فليب فان لمبروش- عن رأيي في التسامح المتبادل بين المسيحيين، وإني أجيب بإيجاز أن هذا فيما يبدو لي هو المعيار الأعلى للكنيسة الحقة.

هذا الحصر والتحديد تكشف بسهولة عند كل من نظر في هذه الرسالة ودرسها وبحث فيها، وأصبح أمرا موضع اتفاق بين الكتاب والباحثين، أوروبيين وغير أوروبيين، لا يجادلون عليه ولا يختلفون.

وكان واضحا ومفهوما لماذا اعتنى لوك وركز على قضية التسامح الديني، باعتبارها القضية التي مثلت في عصره أخطر معضلة واجهت المجتمعات الأوروبية، إذ شهدت حروبا دامية وعنيفة وصفت بالحروب الدينية، كحرب الثلاثين عاما التي عاصرها لوك وحصلت بين الكاثوليك والبورتستانت في ألمانيا خلال الفترة الممتدة ما بين (1618-1648).

لهذا فإن لوك كان محقا حين اعتنى وركز على قضية التسامح الديني، لكن الذي لم يكن مفهوما هو أن لوك لم يوضح لماذا هذا الحصر والتركيز على التسامح الديني؟ ولماذا لم يتطرق أو يقترب لا من قريب ولا من بعيد من الأقسام الأخرى للتسامح؟

فهل في نظر لوك أن التسامح ينحصر ويتحدد في المجال الديني فحسب! أم أن التسامح في نظره ليس إلا نوعا واحدا يتحدد في التسامح الديني، وليس هناك أنواع أخرى ولا أقسام متعددة!

ولو كان لوك من طبقة رجال الدين وينتمي إلى مؤسسة الكنيسة، وكتب ما كتب في رسالته، لأصبح مفهوما لماذا حصل الحصر والتركيز على التسامح الديني من دون الالتفات إلى الأقسام الأخرى! لكن لوك يعد من طبقة رجال الفلاسفة ومن كبار هذه الطبقة في عصره، وهذا ما أثار الانتباه إلى هذه الملاحظة، وضاعف من التأكيد عليها.

عرفنا أن موضوع الرسالة يتصل بالمجال الديني المسيحي، ويتعلق بمفهوم التسامح الديني، والسؤال ماذا عن الإسلام والموقف منه بوصفه دينا عالميا وقد عرف عنه احتكاكه المتواصل ولقرون عدة مع المسيحية في مجتمعاته وفي مجتمعاتها؟

هذا سؤال جاد وفي غاية الأهمية، وينبغي طرحه وإثارة النقاش حوله، وأظنه لم يطرح من قبل، فهل حضر الإسلام في رسالة لوك أم كان غائبا، وإذا كان حاضرا فما هي صورته وتمثلاته؟

هذه الملاحظة كنت قد تنبهت لها حين طالعت الرسالة، وبقيت متتبعا لها، قاصدا تكوين المعرفة بها، ووضعها في دائرة الفحص والتحليل.

وبعد الفحص والتدقيق وجدت بعض الإشارات، ويمكن تحديد ملامحها وصفا وتوصيفا، حسب الترجمة العربية التي أنجزها الدكتور بدوي على النحو الآتي:

أولا: وردت كلمة “مسلم” وتكررت أربعة مرات، ثلاث مرات من دون ال التعريف، ومرة واحدة مع ال التعريف، ووردت كلمة “الإسلام” مرة واحدة فقط ، ووردت كلمة “القرآن” مرة واحدة كذلك في نهاية الرسالة.

ثانيا: وردت كلمتان لهما علاقة بعالم الاجتماع الإسلامي، هما: كلمة “السلطان العثماني”، وكلمة “التركي” بصيغة المفرد، وكلمة “الأتراك” بصيغة الجمع. في إشارة إلى أن صورة المسلم كما وردت في الرسالة قد تحددت من ناحيتي المثال والاجتماع في المسلم التركي على عهد الدولة العثمانية.

ثالثا: في حالتين وردت كلمة “مسلم” وجاءت عطفا ومتصلة بكلمتي “وثني ويهودي”، وهما: في الحالة الأولى وردت على هذا النحو: (وماذا إن بدا لأمير وثني أو مسلم أن الدين المسيحي باطل وإهانة لله؟ أفلا يحق له إذن بمقتضى هذه الحجة أن يستأصل المسيحيين بنفس الطريقة؟)

وفي الحالة الثانية وردت بهذا النحو: (لا يجوز استبعاد وثني أو مسلم أو يهودي من الدولة بسبب دينه، إن الإنجيل لا يأمر بشيء كهذا).

رابعا: إن الخطاب في جميع هذه الحالات التي وردت فيها كلمات “مسلم، المسلم، الإسلام، التركي، الأتراك” كان موجها حصرا وتحديدا إلى الجماعة المسيحية، فالخطاب عنها ولها، ولم يكن موجها أبدا إلى الإنسان المسلم أو الجماعة المسلمة، أو إلى الطرف الآخر المختلف.

وحاصل الكلام في هذه الملاحظة، أن في خطاب الرسالة وردت إشارات لها علاقة بعالم الإسلام، لكنها إشارات جاءت عابرة ومحدودة، وخلت من الكلام والبيان، ولا تقدم صورة عن عالم الإسلام، ولا تكشف عن رؤية لوك تجاه عالم الإسلام.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة

http://www.almilad.org

اضف تعليق