كيف تتولّد (هوية الفشل) ومن يصنعها ويكتب تفاصيلها ويعرِّف بها شخصية ما، هل الجميع يحصلون على هذا النوع من الهويات، وهل هي امتياز أم انهزام ورداءة، أسئلة كثيرة يطرحها الإنسان على نفسه وعلى غيره من العلماء المختصين وغيرهم...
كيف تتولّد (هوية الفشل) ومن يصنعها ويكتب تفاصيلها ويعرِّف بها شخصية ما، هل الجميع يحصلون على هذا النوع من الهويات، وهل هي امتياز أم انهزام ورداءة، أسئلة كثيرة يطرحها الإنسان على نفسه وعلى غيره من العلماء المختصين وغيرهم، لماذا (أنا فاشل)، ومن الذي تسبّب في منح هذا النوع من الهويات الرديئة؟، تأتي بعض الأجوبة عن هذا السؤال بصيغة أن المجتمع الفاشل هو الذي يمنح مواطنيه هوية الفشل، ولكن عند التدقيق نجد الفاشلين موجودين في مجتمعات ناجحة، ونجد الناجحين أيضا في مجتمعات فاشلة، كيف يحدثُ هذا؟؟.
مثل هذا القول قد لا يجانب الواقع أو الحقيقة، ولكن حتما أن المجتمع الفاشل سوف يعكس فشله بقوة على أفراده، لأننا نعرف أن أي مجتمع يتكون من مجموع الأفراد، فإذا كان المجتمع ناجحا هذا النجاح لن يأتي من فراغ ولا يمكن أن يُصنَع بأفراد فاشلين، في بعض مجتمعاتنا هناك عوامل مساعدة على الفشل، وهي قد تكون كثيرة وسنأتي على ذكرها وأسباب نشوئها، لكن في المجتمع الناجح لا توجد مسببات الفشل، أو أن نسبة وجودها وتأثيرها في صناعة الناس (سلوكهم، تفكيرهم، شخصياتهم)، قليلة جدا إن لم تكن منعدمة في بعض المجتمعات الناجحة.
على العكس من ذلك نجد توافر أسباب الفشل بكثرة في المجتمعات الفاشلة، تبتدئ أولا بالفشل السياسي الذي يتفرعن ويتفرّع وينشطر ليدخل في معظم فروع الأعمال والأنشطة البشرية، كالتعليم، والاقتصاد، والاجتماع، والعمل، والفنون، والثقافة، والرياضة وغيرها، ففي المجتمعات الفاشلة نجد كثرة في ثلاثي (التجريم، والتحريم، والتأثيم)، والتجريم هنا لا يعني فقط اتهام الأشخاص بارتكابهم جرائم جنائية، ولكن مجرد إشعار الإنسان في هذا النوع من المجتمعات بأنه متهم بشيء ما، هذا سيجعله يشعر بالتجريم حتى وإن لم يقترف أدنى ذنب كان، ويبدأ هذا النوع من التجريم بالأسرة، وينتشر في المدرسة، والعمل، حتى يتحول إلى طريقة سلوك وتفكير تسود المجتمع الفاشل الذي يجرّم أفراده على الرغم من أنهم لم يرتكبوا أية جريمة تُذكَر!.
يحصل الشيء نفسه بخصوص التحريم، حيث يصبح كل ذي سلطة مهما كانت صغيرة أو بسيطة مصدر تحريم لمرؤوسيه، أو المسؤول عنهم حتى في مدار العائلة الواحدة، أو ورشة العمل المشتركة، أو المدرسة، وأي تجمّع آخر، حيث يقف هذا الأسلوب حاجزا قويا بين الإنسان والحركة نحو التقدم والانجاز بكل أنواعه، فيصبح الإنسان هنا عبارة عن مادة فائضة لا تأثير لها، حتى ينطبق عليه القول (إذا حضر لا يُعَدّ وإذا غاب لا يُذكَر)، في هذه الحالة يصبح التحريم حجر عثرة حيال أي خطوة يسعى الإنسان كي يخطوها إلى أمام، وهكذا يصبح في حالة شلل تام، وبالتالي يتحول إلى عبء بعد أن كان الأمل معقوداً عليه كي يكون عنصراً فاعلا في المجتمع.
أما التأثيم فهو أحد أهم الأساليب التي تنتعش في المجتمعات الفاشلة، فكل نأمة وكل صوت وكل حركة صغيرة أو كبيرة قد يجعل منها المجتمع الفاشل حالة إثم تتلبس فاعلها!، فما أن يقوم بفعل ما، أو ينطق كلمة، حتى تبدأ سيول التوبيخ والاعتراضات تُرمى عليه وكأنه فعل فعلا شنيعا، وهكذا يتم زرع الخوف في نفسية الإنسان ويحجم عن المبادرة لأنه سوف يتعرض للتأثيم من الغالبية أو ممن له سلطة عليه، لذلك يذهب إلى الصمت والخمول والبلادة ليس حباً بهذا، وإنما حماية لنفسه من أمواج الإثم التي تتدفق عليه من الآخرين.
هذه العناصر الثلاثة، هي المشترك الفاعل في صناعة هوية الفشل، إذ نقرأ في نص للكاتب مصطفى حجازي يقول فيه: إن سنوات القهر والهدر الطويلة، ومحاصرة إنساننا بالتجريم والتحريم والتأثيم وقمقمة طاقاته الحية، جعلته ينظر الى نفسه باعتباره كائنا عاجزا عن المجابهة والمواجهة، لا حول له ولا قدرة على تغيير واقعه والإمساك بزمام مصيره، ينكفئ عندها إلى موقع التبلّد السلبي المستسلم لقدر لا سيطرة له عليه، وترسخ عنده مشاعر الاكتئاب واجترار المعاناة، مما يتجلى في ثقافة الندب التي تجد ابرز تجلياتها في الغوص بالمآسي. وهكذا تُسَدّ آفاق الحلول وتنحسر إمكانات المجابهة، ويعيش المرء على أمل خلاص سحري لا إرادة له فيه. تلك هي هوية الفشل، وذلك هو العجز المتعلَّم أو المكتسَب.
إذاً هناك فرصة كي يتعلّم الإنسان الفشل، أي أن هناك صناعة للفشل في بعض المجتمعات الفاشلة، وهذا يعني أن التعليم لا ينحصر بالقضايا والعلوم والمهن والمهارات الجيدة فقط، فمن الممكن جدا أن يتعلم الإنسان كيف يكتسب ما هو أسوأ في التفكير أو في السلوك ومن بين ذلك العمل وحتى الكلام، وما ينتج عن ذلك سوف يتمخض عن تدمير تام لمعنويات الإنسان وسوف ينعكس ذلك على قدرته الفعلية، فيُصاب بالشلل والبلادة وعدم القدرة عن الإتيان بأي قول أو فعل أو نشاط، فيلوذ بالصمت والسكون مخافة الخطأ، في حين أن الأخير هو المنطلَق الأساس للنجاح، فلا يمكن أن ينجح شخص ما في أي مشروع مادي أو فكري إذا لم يذق طعم الفشل، لذلك قيل ليس العيب في الفشل وإن العيب يكمن في القنوط والركون إلى عدم تكرار التجربة.
ما تقدم في هذه الكلمة يُفصح بجلاء تام عن أسباب فشل المجتمعات، بعد أن يُبلى البشر بهوية الفشل كنتيجة لما تقدم ذكره من أسباب ومسببات، يؤكد أننا بأقوى حاجة لطرد البلادة من تفكيرنا وتنقية عقولنا منها، إذاً هي محبطات من صنع أيدينا وأدمغتنا، وما علينا كمجتمعات وأفراد إلا وضع خارطة الطريق المتقنة علميا، كي نتجاوز الحواجز ونغلق الحفر ونزيح العثرات التي تقف حيال إطلاق المشاريع العلمية الكفيلة بمعالجة مكامن الخلل المادية والمعنوية في إطار الانتقال من الفشل إلى النجاح، والمهم هنا المبادرة المستدامة بخلق الفرص المعاكسة للتحجيم والتي يمكن من خلالها إطلاق الطاقات الفردية والجماعية بعد دراسة العوائق والمسببات ووضع ما يناسبها من حلول وفق تخطيط سليم ومتخصص.
اضف تعليق