من غير الممكن أن نبقى في حالة من العزلة، والمطلوب دائما البحث عن سبل تفك الحصار الذاتي المضروب على الفكر والثقافة والسلوك، وهذا ما يدعونا إلى تجريب طريقة أخرى غير الانغلاق، فنحن في آخر المطاف، لا يمكن أن نعيش فرادى، لأننا نواجه عالما تتضاعف تعقيدات في كل يوم آلاف المرات!...
تختلف طباع الناس من شخص إلى آخر، ولكن يبقى الجامع المشترك الأهم بينهم، هو ميولهم للاجتماع فيما بينهم والتقارب لبعضهم، فتكونت الأمم والمجتمعات والشعوب من لبنة الأساس التي تمثلها مؤسسة الأسرة، وهي الخلية الاجتماعية المصغرة لمؤسسات أكبر في الكم البشري وفي نوع العلاقات وتعقيدها، وفي كل الأحوال تبقى قضية أو قابلية التواصل مع الآخرين هي الأهم من بين كل الصفات التي يتحلى بها الإنسان.
وحين انتقلت البشرية من مرحلة أو حقبة أو عصر الصيد، ومطاردة الفرائس والترحال في البودي والصحاري والغابات، وجدت في التجمعات الصغيرة حلولا وتسهيلات كثيرة جعلت حياتها أسهل بكثير من العيش فرادى متباعدين، ومع أن الإنسان اجتماعي بالفطرة ويرغب في التقارب من جنسه، كما يؤكد ذلك العلماء المختصون بعلم الاجتماع وعلم الإنسان، إلا أن ثمة معوقات كثيرة قد تحول دون هذا التقارب، وقد تزرع مشكلات كبيرة ومستعصية بين الإنسان وبني جنسه في بعض الأحيان، وقد تصبح عقبات ليس من السهولة تجاوزها، طريق واحد يمكن من خلاله المرور فوق العقبات والمشكلات التي تحول دون تواصل الناس، أفرادا ومجتمعات، فيما بينهم، هذا الطريق يمكن أن نصفه بـ قدرة الشخص على التواصل مع الآخر، فضلا عن القابلية التي يمتلكها على تطوير هذه الروابط الاتصالية المتعددة، لكي يتحقق التواصل بشكل جدي بين الطرفين، ويكونا قادرين على حل الكثير من المعضلات التي تواجهها المجتمعات والأفراد في حياتهم المكللة بكثير من التعقيدات، وكلما كانت صفة التلاقي المتبادَل أكثر فاعلية بين الناس، يكون انسجامهم وتقاربهم وتعاونهم أكثر مما لو كانوا متباعدين عن بعضهم، وغير قادرين على التناغم والتواؤم والانسجام.
حلّ المشكلات المستعصية بالحوار
وقد كشفت قدرة الناس على التواصل مع غيرهم عن كثير من المحاسن، منها وربما أكثرها تأثيرا، انفتاح الجماعات وحتى الأفراد على حل المشكلات بالحوار بدلا من التصادم، فمن أهم حسنات صفة أو ثقافة التواصل مع الآخر، أنها تبني جسورا مباشرة مع جميع الأطرف، بغض النظر عن التشابه او التناقض في الأفكار والآراء وحتى الثقافات، ولكن ينبغي أن تسبق هذه القيمة برمجة عملية تسعى أو تهدف لتطوير قابلية الإنسان على التمسك بآليات التواصل مع الأشخاص الآخرين، وجعلها جسرا إنسانيا للعبور من خلاله إلى الآخر، والتواصل معه بشتى الطرق والأساليب المتاحة، فهذه السمة المتقدمة تشكل في حقيقة الأمر طريقا وجسرا نحو التعايش بين الجميع، حتى المتضادين والمختلفين في كل شيء سواء فيما يتعلق بالأفكار أو الآراء والثقافة وأساليب السلوك المختلفة.
وحين نتحدث في هذا المقال عن خطورة الانعزال والانغلاق وعدم القدرة على اقتحام أسوار الآخر، فإننا نؤشر وجود مثل هذه المعضلة السلوكية الفكرية الثقافية في مجتمعنا، حيث الفرد يغلق على نفسه في زنزانة ضيقة، ويلغي من أجنداته أية محاولة للتواصل مع الآخرين، من دون أن يعلم أن هذه الخطوة سوف تغلق عليه جميع نوافذ وأبواب التفاهم مع المحيط المجتمعي الذي يتحرك وينشط فيه، ويسعى لبناء حاضره ومستقبله، ولا نعرف أي حاضر ومستقبل يمكن أن ينبني في ظل انغلاق العقل والفكر والسلوك.
لذلك كانت ولا تزال وستبقى قدرة الإنسان على اختراق حصون الآخر، خطوته الأهم في تعزيز الشراكة الإنسانية في مواجهة تعقيد ومصاعب الحياة، وقد أثبتت هذه الصفة المتقدمة، قدرتها الكبيرة على التقريب بين الأفكار والآراء المتضادة، ومن ثم احتواء الصراعات والنزاعات الصغيرة والكبيرة على حد سواء، واستطاعت سمة التواصل مع الآخر بعد تنمية القابلية على تكريسها وزرعها بالنفوس، استطاعت أن تحاصر الكثير من الخلافات الجوهرية بين الفرد ونقيضه الآخر المختلف، شخصا كان أو جماعة، ونجحت هذه السمة المتقدمة وفق التجارب والإثباتات التاريخية والراهنة، في تذويب الكثير من الخلافات على مستوى المجتمع الواحد، وصراعات مكوناته مع بعضها، أو على مستوى النزاعات بين الدول والمجتمعات الكبيرة التي تضم في طياتها شرائح وفئات ومكونات تختلف مع بعضها في الأفكار والآراء والثقافات وحتى العقائد، وهذا ما تم تأشيره في إطار حاجتنا إلى التغيير من مجتمع منغلق إلى آخر منفتح متفاعل باتزان وذكاء وحرص على الخصوصية.
فرصة التطور مرهونة بالتواصل
ولهذا من المحال أن نعثر على فرصة للتطور من دون أن نطور قابليتنا على عقد علاقات تعاونية واسعة مع الآخر، على مستوى الأفراد والجماعات، من اجل تطوير القابلية على التواصل مع الآخرين بصورة دائمة، حتى تكون هذه الصفة المتقدمة جسرا لنا، للعبور من خلاله الى الطرف الآخر والتوافق معه في العلاقات الإنسانية حتى لو اختلفت الرؤى والأفكار للطرفين، ولا بد من بذل المزيد من محاولات التناغم والانسجام المتبادَل، حتى لو اعترضت تحقيق ذلك صعوبات، فلا يصح استمرار القطيعة، ولا استفحال حالة التناقض والخلاف التي قد تصل الى حدود الصراع او النزاع، في حالة التباعد وعدم القدرة على مد خطوط التواصل والتفاهم، وهو أمر تمكننا منه هذه القيمة التي تُحسَب على قيم التقدم، ويمكن أن يتم لنا ذلك، في حالة إصرارنا على تطوير قابليتنا في هذا المدار العلاقاتي المهم في الحياة العملية الاجتماعية والعلمية، بغض النظر عن التناقضات الفكرية أو الثقافات وأشكال العيش أو سواها، وقد تكون مثل هذه الاختلافات مصدرا جيدا لإحداث وتحريك مكامن الرغبة، كي يحدث الفضول اللازم للإطلاع على طبيعة الآخر، في الفكر والسلوك وأنساق العيش والتفكير المختلفة.
ولا يعني أن الاختلافات غير متوقعة أو مرفوضة بين الناس، بل على العكس من ذلك، لكل إنسان وجماعة نمط من التفكير والسلوك، فالنزاع وأنواع الصراع تعد من طبيعة النفس البشرية القائمة على التنافس تحقيقا للذات، وضمانا للمصالح، وتأمينا للحاضر الجيد والمستقبل الأفضل، ولكن يمكن أن تتحقق جميع هذه الأهداف، ليس بالقضاء على الصراع أو النزاع، لأن هذا الأسلوب من العلاقات، قائم في تركيبتنا النفسية وفي ذواتنا، وإنما يمكننا تحقيق هذا الهدف، من خلال احتواء النزاع، ولعل قيمة القابلية على التواصل مع الآخر، تشكل أهم نقاط الانطلاق لفضّ الاشتباك والشروع بعملية تفاعلية علاقاتية متميزة بين المتضادين في السلوك والثقافة والفكر، إذ بإمكانك أن تحتفظ بخصوصيتك، مع إمكانية التواصل مع الأضداد، وهذه الحاجة المجتمعية تشكل منطلقا للتقدم الفردي والجمعي، لذلك من غير الممكن أن نبقى في حالة من العزلة، والمطلوب دائما البحث عن سبل تفك الحصار الذاتي المضروب على الفكر والثقافة والسلوك، وهذا ما يدعونا إلى تجريب طريقة أخرى غير الانغلاق، فنحن في آخر المطاف، لا يمكن أن نعيش فرادى، لأننا نواجه عالما تتضاعف تعقيدات في كل يوم آلاف المرات!.
اضف تعليق