تتحول حالة الصراع بالاحتواء كقيمة مجتمعية يتمسك فيها الجميع كمنهج حياة، يساعد على التعايش وبث روح التعاون والتوازن، والتعايش مع الآخر بكل ما ينطوي عليه من نقاط اختلاف فكرية او سواها، كي يعيش الجميع بحالة من الاستقرار والتوازن الذي يتيح للجميع الإبداع في مجتمع، يجعل من الصراع بالاحتواء قيمة مجتمعية متفق عليها...
جُبِل الإنسان على صفات شاملة، أي تشمل جميع المخلوقات البشرية، هذا من ناحية، وهناك صفات فردية قد تتواجد في هذا الشخص وينعدم وجودها في ذاك من ناحية أخرى، والواقع أن الصفات والملَكات والروابط المشتركة بين بني الإنسان تفوق الفردية منها، وثمة صفة أو حالة تكوينية زُرعت في تركيبة الإنسان النفسية والسلوكية، اصطلح عليها العلماء والمختصون بـ الصراع، فهذه الحالة أو المصطلح، لن نجد إنسان واحد يخلو منه، ليس هذا فحسب بل كل المخلوقات تتصارع فيما بينها من أجل الوصول والحصول على الأفضل.
إذاً فحالة التضاد والتناقض ما بين البشر بعضهم مع بعض أمر مفروغ منه، وطالما أن هذه الحالة أو الصفة مشتركة تجمع بين الكل وهي مخلوقة مع الكائن الحي، فإن إلغاءَها أمر يدخل في دائرة المحال، إذ لا شك أن النفس البشرية عرفتْ الصراع واعتادته، لأنه يدخل بقوة في تركيبها الظاهر والخفي على حد سواء، ولو لا الصراع لما تقدم الإنسان خطوة واحدة الى أمام، فالفضل لما وصل إليه الإنسان في رحلته الطويلة والشاقة، وما حققه من تقدم كبير في عالم اليوم، يعود الى طبيعة التضاد التي تحتدم في الذات ومع الآخر أيضا، الأمر الذي يُحدث تحفيزا كبيرا على التفوق والنجاح في هذا المجال او ذاك، وفي هذا الحالة ينبغي أن يقرّ الجميع بأن القضاء على هذه الصفة أو الحالة غير ممكن.
لا يمكن إلغاء الصراع
هناك من يفكر ويصر على إلغاء هذه الصفة التكوينية، وهذا خطأ على الصعيدين الفكري والسلوكي، لأن الإلغاء أمر مستحيل، ولابد في هذه الحالة من البحث عن سبل أخرى، منها القبول بالتضاد كصفة وحالة خُلقت مع خلق الإنسان، وفي نفس الوقت التحرك لتحييدها من خلال تحويلها من حالة صراع إلى منافسة، فهناك جانب آخر للصراع.. ونعني به الصراع الذي لا يخدم حياة الانسان الفرد ولا الجماعة، ذلك هو الصراع السلبي، المدمر، والذي لا ينفع حتى صاحبه، لذا ينبغي احتواء هذا النوع من الصراع، علما أن الذات هي المحرك الاول وهي الوعاء الذي يتحرك فيه الصراع أولا، حيث يصطرع الكائن مع ذاته وتحتدم في عقله وذهنه المتناقضات الكثيرة، ثم هناك الصراع الذي يتولد مع الحيز الخارجي، حيث تتناقض الآراء والأفكار والمعتقدات، وغالبا ما ينطلق من المصلحة أو عموم المصالح الفردية أو سواها.
وطالما أننا نقر بوجود هذه الحالة، وعدم الإمكان من التخلص منها، فهذا يوجب على الإنسان والجماعة أيضا، أن يطوّع الصراع ويحتويه يما يحقق نوعا من الانسجام والتفاهم على الرغم من الاختلاف في الآراء والرؤى والأفكار، وهكذا تصبح قيمة الصراع بالاحتواء من القيم التي تسهم بصورة كبيرة في بناء المجتمع الحيوي المتحرك المنتج، ضمن منهج احتواء الصراعات المختلفة، وتحويلها من صفتها المضادة أو التناقضية إلى حالة بالإمكان التعامل معها بما يحقق انسجاما ووئاما وتوافقا بين بني الإنسان.
ومثلما يوجد الصراع الفردي، أي بين الأفراد لأسباب كثيرة، فثمة صراع بين مكونات المجتمع الواحد ايضا، لان التناقضات كثيرة ومتنوعة تتعلق بأنماط الحياة المختلفة وتصل الى حد المأكل والملبس والمشرب وما شابه، غذ لا تتفق كل الأذواق مع بعضها، حتى نوع اللباس يختلف من شخص الى آخر ومن فئة الى أخرى حيث تنعكس الجغرافية والتاريخ ونوع الثقافة وجذورها، وجميع هذه الاختلافات هي نوع من الصراع الذي قد يتسبب في نوع من المشكلات المتبادلة ربما تصل الى درجة الاحتراب، لهذا ينهض هنا دور الترويض الذي يجرّد الصراع من آثاره المدمرة ويحوله الى نوع من التنافس الايجابي، ليغدو الجهد البشري إيجابيا يصب في الصالح البشري العام.
المبادرة لتعزيز المشتركات
ولكي نحقق تقدما في هذا المجال، علينا دراسة الطبيعة البشرية بدقة وعلمية عالية، ومن ثم الدخول إلى العمق النفسي التغييري، لذا لابد من المبادرة لتعزيز النقاط المشتركة بين الأنا والآخر، وبين المجموعة والمجموعة الأخرى، لأن زوال الصراع أمر مستبعد إن لم يكن في عداد المستحيل، كونه يدخل في التركيبة النفسية للكائن الفرد، لذا لا يمكن تجميد الصراع او تحييده او إلغائه كليا في ذات الإنسان والجماعة، ولكن تذهب المجتمعات المتطورة الى طريقة متوازنة وفعالة، تستطيع من خلالها أن تزيل التأثيرات الخطيرة لحالة الصراع، وتحولها من حالتها المؤذية السلبية الى حالة تصب في صالح الإنسان والجماعة، وذلك من خلال لجوئها الى أسلوب معالجة الصراع باحتوائه وتحويله الى نوع من التحفيز وليس الاحتراب والإلغاء والإقصاء والتدمير، لأن إلغاؤه يدخل في عداد المستحيل، لهذا على الإنسان الفرد والأمة وعموم المجتمع العالمي التفكير خارج المعتاد، والخروج بعيدا عن دائرة المألوف ووضع النقاط على حروفها، من خلال قبول الصراع وتحويله إلى منافسة.
وبهذا الأسلوب الصحيح والمتميز، يصبح الصراع حالة مقبولة ومحفزة في آن واحد، كونها لا تؤدي الى نشوب النزاعات بين الأفراد او الجماعات، بل تصبح بمثابة المحرك للإرادت المتضادة، من خلال التفاهم والانسجام في النقاط المشتركة، والابتعاد عن نقاط التناقض والاختلاف، وبهذا تتم عملية احتواء الصراع وأضراره ومخاطره الكثيرة.
هذه القيمة فيما لو تطورت بين الأفراد ومكونات المجتمع المتعددة، فلا خوف من حالات التناقض في الآراء والأفكار بل وحتى العقائد، إذ يتم ترك ما يتسبب بالتباعد والصرع من خلال التفاهم المتبادل، ويتم التقارب من خلال المشتركات، وهكذا تتحول حالة الصراع بالاحتواء كقيمة مجتمعية يتمسك فيها الجميع كمنهج حياة، يساعد على التعايش وبث روح التعاون والتوازن، والتعايش مع الآخر بكل ما ينطوي عليه من نقاط اختلاف فكرية او سواها، كي يعيش الجميع بحالة من الاستقرار والتوازن الذي يتيح للجميع الإبداع في مجتمع، يجعل من الصراع بالاحتواء قيمة مجتمعية متفق عليها، وقادرة على منح الإنسان الفرد والجماعة فرصا إضافية لتطوير الواقع البشري فكريا وثقافيا ودينيا وسلوكيا.
اضف تعليق