أوشك على الوصول الى حبل المشنقة، أنفاسه الأخيرة كانت تخرج بثقل شديد من أعماق صدره وكأن حزن العالم قد جُعل بين أضلاعه بقسوة، دقات قلبه كانت تتسارع كي تتدارك الشبح الأسود قبل أن يحين الأوان ! في تلك السويعات القاتلة بدأ يستذكر شريط حياته عندئذ طلب بصوت هاديء أن تكون له أمنية أخيرة قبل الإعدام، قالوا له ما هو طلبك؟ فقال: أتمنى ان أرى والدتي لآخر مرة وأودعها الوداع الأخير.
لبّوا طلبه وأحضروا والدته كي يقر عينا بعد ان ظهرت آثار الضجر والألم على ملامحه، طلب منها أن تخرج لسانها خارج فمها تعجبت المرأة من طلب ولدها الغريب بعد بكاء شديد، أخرجت لسانها من فمها فقام الولد بعضّه بقوة وبعد ذلك صرخت المرأة من شدة الألم ونزف لسانها بشدة، بعد أن سألوه عن السبب؟ أجاب قائلا هذه المرأة هي سبب وقوفي عند منصة الإعدام.
سكوت هذه المرأة دفعني الى الخسارة الكبرى وهي الموت لولا صمتها على أفعالي السيئة لما كنت هنا الآن .. وبدأ يشرح قصته: في بداية الأمر عندما سرقت البيضة من بيت الجيران لم تقل أمي شيئا بل فرحت وابتسمت من فعلي حينذاك ولم تسألني عن المصدر، وفِي المرة القادمة تجرأت على السرقة كلما ذكرت تلك الابتسامة وبعد ذلك بدأت بسرقة أشياء أثمن وأفضل من قبل وفي كل مرة لم تسأل أمي عن أي شيء رغم معرفتها بأني لا أملك أية نقود وهكذا طال الأمر الى أن وصلت الى ما وصلت الآن وانتهى بي المطاف الى هذا المكان.
كأن هذه الأم تمثل بعض أفراد مجتمعنا، أصبح الصمت من الأدوات المهلكة في زمننا العصيب حيث يؤدي الى اللامكان أو بالأحرى إلى جهنم الذي بات يعيش الجميع فيه رغم السكوت عنه والرّضا به، استأنس الجميع بدوامة الفساد والموت والدمار ولا أحد يكترث للأمر وكأن الجميع في غيبوبة أبدية ليس بإمكانهم ان يشعروا بما يجري حولهم بينما حرارة الجو تفوق الخمسين في العراق، ولكن الشمس قد غابت من ارضها وبدا الظلام يغلّف المكان واصبح الجليد يكسو سطح هذه الارض المتعطشة للدم.
سكتة الضمير
أصيب المواطنين من كثرة البرد بمرض (سكتة الضمير)، أصبح العبور من بين الموتى هيّن على مواطني ارض الموت !ولأنهم إتقنوا الصمت حملوهم الأوزار رغماً عنهم وبدأت المشاكل تتزايد يوماً بعد يوم وتجرأت بأخذ أيدي الناس الى الهاوية والفناء مع بقاء الروح في أجسامهم.
ولعل السبب الأهم الذي يؤدي الى موت الضمير هو اللامبالاة، فالأخيرة أصبحت أكثر شهرة بعد الحرب العالمية الأولى بسبب ما يسمى بـ "صدمة القذيفة"، حيث الجنود الذين كانوا يعيشون في الخنادق وسط القصف ونيران الرشاشات، والذين شهدوا ميادين معارك مع رفاقهم القتلى والمشوهين وضعت فيهم شعور اللامبالاة وفقدان الحس بالتفاعل الاجتماعي. كذلك يلعب الاغتراب وهو شعور الفرد بعدم انتمائه للجماعة دورا مهما.
وتعرف اللامبالاة حسب علم النفس بأنها حالة وجدانية سلوكية، تعني أن يتصرف المرء بلا اهتمام في شؤون حياته أو حتى الأحداث العامة كالسياسة وإن كان هذا في غير صالحه. مع عدم توفر الإرادة على الفعل وعدم القدرة على الاهتمام بشأن النتائج" أو هي قمع الاحاسيس مثل الاهتمام والاثارة والتحفز أو الهوى، فاللامبالي هو فرد لا يهتم بالنواحي العاطفية أو الاجتماعية أو الاقتصادية وكذلك قد يبدي الكسل وعدم الحساسية. وقد يكون هذا التصرف جراء عدم قدرة المرء على حل المشكلات التي تواجهه أو ضعفه أمام التحديات. إضافة إلى استخفافه بمشاعر الاخرين أو باهتماماتهم الثانوية كالطموح والامال والهوايات الفردية أو المشاعر العاطفية المختلفة كالحب والكراهية والخصام والحسد وغيرها إذ أن اللا مبالي لا يجد اي فرق بين كل تلك المشاعر وان لم يبد هذا الامر صراحة امام الاخرين.
أما أسباب اللامبالاة فتتعدد من عضوي إلى نفسي واجتماعي اضافة إلى ذلك مشاهد القتل والدمار والحروب، كل تلك الامور تجعل الشخص غير مكترث بما ستؤول اليه الامور كونه قد رأى من الاحداث ومن الصور ما يصعب على الذاكرة نسيانه.
العامل العضوي
ترتبط اللامبالاة مع العديد من الظروف الصحية، ومنها: الإفراط في تناول فيتامين (د)، التعب العام، واللامبالاة قد يأتي كنتيجة جانبية من بعض الأدوية واستعمال الكحول والمخدرات الثقيلة مثل الهيروين والكوكاين والبرشام. أو من مرض الزهايمر أو انفصام الشخصية، وغيرها. وكذلك هناك علاقة طردية بين الاكتئاب واللامبالاة.
العامل النفسي
وتعتبر اللامبالاة جزء من الميكانيزمات الدفاعية التي تدافع بها الانا عن ذات حيث تقترن مع الهروب من الواقع هي والنكوص وأحلام اليقظة والتبلد إذا كان الواقع مليء بالمشاكل التي تكون فوق القدرة. فعندما يتعرض الفرد للحرمان مثل البطالة تظهر لديه ميول عدوانية على المجتمع تتمثل أحيانا في اللامبالاة. وعادة يكون تقدير الذات منخفضا فيشعر ان لا قيمة له في المشاركة. وتارة تكون الأحداث متعبة أو مجهدة فيستبعد مشاركته.
العلاج المقترَح
هناك مجموعة من النصائح لعلاج حالة اللامبالاة والسلبية تبدأها بالإيمان بالقدرات الذاتية والاستعانة بالحماس على الشعور بفقدان الطاقة. وتقول: "التقليل من القدرات يؤدي إلى الفشل ونشر الطاقة السلبية، والنجاح والرغبة في الإنجاز تنبع من داخل الشخص نفسه، وإيمانه بقدراته، كما على كل شخص يشعر بالإحباط التركيز على مميزاته، ومن أكبر الأخطاء أن ينظر الشخص لنفسه بوصفه شخصاً عادياً وغير مؤهل ذهنياً وجسدياً للعمل، فكل إنسان له جوانبه الإيجابية". وتنصح، بالابتعاد عن التكاسل، فالكسل هو العدو الأول للنجاح، وبإمكانه قتل روح المبادرة، وتغذية التخاذل، ويمكن علاجه بالاستماع إلى الآراء الإيجابية التي تحفز الشعور بالحماس، كما تنصح بالابتعاد عن المشاعر السلبية التى تتسلل من الظلام ومن فقدان الحماس، ما يؤثر على الأداء في العمل. وتضيف "نشر الحماس بين الآخرين، والاهتمام بالمهارات الصغيرة والكبيرة، والابتعاد عن الشخصيات المتشائمة، من أهم خطوات علاج اللامبالاة، وذلك من خلال استمداد طاقة الحماس من الشخصيات الإيجابية والابتعاد عن الشخصيات التى تميل إلى التشاؤم والتركيز على المشاكل والسلبيات، والاقتراب دوماً من الشخصيات التي تحث على الاجتهاد والعمل والتفاؤل، وأخيراً التمسك بالحماس فهي السمة الثابتة التي تميز الشخصية القوية، وهي السبيل الأكيد للنجاح" إذاً الضمير لا يموت دفعة واحدة كلما غادر المواطنون أرض الأم مات جزء وكلما استشهد الأحبة مات جزء منه وكلما احترقت احلام الصغار وسحقت الورود في ريعان الشباب، مات جزء من الضمير الى أن يَصبح الفرد ميتا، يتجول هنا وهناك ولا يكترث بما جرى وما سيجري وفي هذه الأثناء يغتنم العدو الفرصة ليحرك هذه الأحياء في الظاهر وموتى الضمير كيفما يشاء ويسرق أراضيهم وأحلامهم ومستقبلهم بسهولة.
لذلك جرعة من الحب كفيلة بأن تسترجع الأمور كما كانت وتوقظ الضمائر وتحرك تلك الأصابع التي فقدت الشعور بما يجري حولها كي تحصد الزيتون كالسابق ..وجرعة من حب الدين تستطيع إرجاع الحياة الى بنيان المجتمع ..وجرعة من الحب تستطيع إرجاع الحياة الى شرايين البل كذلك جرعة من الحب تستطيع أن تحدث فيضانا يقضي على الظلم والظالمين في مشارق الأرض ومغاربها. فلنستعمل هذه الجرعة ونهديها لمن حولنا كي ننهض من تحت الرماد ونوقد نار الحب في تلك القلوب الباردة في أنحاء العالم ونملأ الأرض روحاً وريحاناً.
اضف تعليق