كان الشيء الأبرز في التاريخ الاقتصادي هو بداية الايمان المتزايد والمستمر بقوى التغيير الكبرى والمكانة الاجتماعية وفضائل المعرفة المفيدة. لولا ذلك الصعود المستمر في التقنيات الجديدة المرتكزة على الفهم الجيد للعمليات الطبيعية، ما كان بإمكان النمو ان يستمر.
من كتاب (الثقافة والنمو، ص 267-268) للكاتب جول موكر(1).
كتب المؤرخ الاقتصادي جول موكر عملا هاما حول ديناميكية الثورة الصناعية. احتوى الكتاب على عدة افكار مترابطة وهامة:
1- ان النمو الاقتصادي المستديم يتطلب ابتكارات مستمرة تدمج الاكتشافات العلمية مع التقنيات التطبيقية.
2- عملية النمو تتم عبر آليات التغذية الايجابية. الابتكارات الجديدة تعزز الظروف المادية، والظروف المادية الجيدة تعزز التحسينات المؤسسية. هذه التحسينات المؤسسية بدورها تعجّل من اكتساب ونشر المعرفة. المزيد من المعرفة بدوره يعطي دفعا لإبتكارات جديدة.
3- غير ان عملية النمو هي ايضا عرضة لآليات التغذية السلبية.
هناك تصادم مالتيسي (نسبة الى مالتس) بين الزيادة في السكان وتناقص المردود الانتاجي، مثال على ذلك الحوافز المتزايدة للصيد. اخيرا، نجد هناك مقاومة من اولئك الذين تعتمد مكانتهم على دورهم كمدافعين عن الحكمة التقليدية.
4- في اوربا الغربية في الفترة بين عام 1500 و 1800، برزت حركة فكرية بلغت من القوة ما يكفي للتغلب على جمود الحكمة التقليدية. الخوف من الخروج عن المألوف جرى استبداله بالإعجاب بالتقدم في العلوم والظروف المادية.
القضية الاساسية في جميع الحقول التي تدرس المجتمع الانساني، بما فيها الاقتصاد، هي الدور النسبي للظروف المادية مقابل الانسان كقوة سببية. العديد من الكتاب يركزون على الظروف المادية. فمثلا، هذه الرؤية يمكن ملاحظتها في الكتاب الشهير لجارد دايموند (Gun, Germs, and steel). اولئك الذين يقفون على الجانب الاخر من النقاش، بما فيهم موكير، يمنحون استحقاقا عاليا للعوامل اللامادية ولاسيما الافكار والثقافة.
يلاحظ المؤلف ان مصطلح "ثقافة" يتخذ عدة معاني. ولكي يكون اكثر دقة، هو يعرض تعريفه المفضل للثقافة:
الثقافة هي مجموعة من المعتقدات والقيم والافضليات، القادرة على التأثير على السلوك، والتي تنتقل اجتماعيا (وليس وراثيا) ويتم تقاسمها بين بعض جماعات المجتمع(ص8).
يجادل موكر ان جماعات المجتمع التي طورت في الاساس ثقافة قادت الى الثورة الصناعية كانت نسبيا من النخبة الصغيرة التي جمعت بين الفضول الفكري والاهتمامات التطبيقية. الفصل الأهم والأطول في الكتاب جاء تحت عنوان "المنافسة وجمهورية الرسائل"(2).
.. جمهورية الرسائل التي بدأت في الظهور في اوربا اثناء الرحلات الكبرى وبلغت ذروتها في عصر التنوير كانت من أعظم وأهم التطورات المؤسسية التي تفسر القفزة النوعية في الأداء الاقتصادي الموجّه تكنلوجيا والذي بشرت به الثورة الصناعية (ص222).
كانت جمهورية الرسائل تمثل شبكة من العلماء والخبراء من مختلف القوميات. احدى اهم القيم لديهم كان "العلم المنفتح" open science وهو ما يعني انهم اتفقوا على ان الاكتشافات يجب ان تُنشر وتُناقش. وبدلا من المنافسة على اساس المعرفة الخاصة، جرت المنافسة بينهم لأجل المكانة المرتكزة على مساهماتهم في المعرفة المتوفرة لعامة الناس.
... ان النمو في العلم المنفتح كمبدأ مؤسسي مركزي للعالم الفكري لبدايات اوربا الحديثة كان سمة طارئة، ونتيجة لا مقصودة لظاهرة مختلفة: المتخصصون كانوا يحاولون بناء سمعة لهم بين زملائهم(ص183).
لقيت جمهورية الرسائل دعما من قطاع الطباعة وشبكات البريد المطورة حديثا اكثر من الدعم الذي حصلت عليه من المؤسسات القائمة.
.... معظم الجامعات كانت تميل للمحافظة وحماية المعرفة الراسخة، وهو ما قيّد من قدرتها في نقل المعتقدات الثقافية للنخبة(ص189).
لا مفر للمرء من التساؤل عن المدى الذي يمكن ان تستمر به الجامعات في لعب هذا الدور، مع وجود الانترنيت الشبيه المعاصر لقطاع الطباعة وشبكات البريد.
يقول الكاتب ان روح ومناخ جمهورية الرسائل خلق سوقا مفتوحا للأفكار. المشاركون في السوق الجديد كان عليهم استبدال بؤرة الاهتمام الرئيسي في الحكمة التقليدية بمعايير جديدة للأفكار الحاكمة.
... الرياضيات كانت الاكثر اهمية من بين الحقول كونها كانت قابلة للتطبيق.. صلاحية المعلومات التجريبية تكمن في تلك المجالات التي فيها التجارب ممكنة، وجمع وتصنيف المشاهدات التجريبية يتم حيثما لاتعمل اي من الاتجاهات الاخرى (ص 190).
يعترف المؤلف بالفضل الكبير لفرنسيس باكون واسحق نيوتن لما لعباه من دور هام في نشوء جمهورية الرسائل. باكون غرس لدى المفكرين الايمان بالتحسين المادي من خلال تراكم المعرفة المفيدة. نيوتن اعلن بوضوح ان العلم يمكن ان يتقدم الى ما وراء حكمة القدماء.
غير ان المؤلف يتراجع حول القصة المادية.
... الاساس في نجاح اوربا كان حسن حظها في الظروف التي جمعت التجزئة السياسية مع الوحدة الثقافية(ص215).
بدون وحدة ثقافية يستحيل نشر الافكار وتحفيز التطور الناجم من التبادل بين تلك الافكار. بدون التجزئة السياسية، وفقا للكاتب، سيكون من السهل جدا للقوى الرجعية كبح الافكار الجديدة. وبسبب التجزئة، سيسعى المتمرد فكريا دائما لطلب اللجوء او الدعم من دولة اوربية اخرى.
ومع ان العديد من الافراد من مختلف الدول الاوربية شاركوا في جمهورية الرسائل، لكن بريطانيا العظمى شهدت اول واقوى انطلاقة صناعية. تفسير المؤلف لهذا ورد ضمن فصل آخر بعنوان "البروتستانتية والاستثناء البريطاني". هو يرى ان البروتستانت والافراد المتشابهين ذهنيا حملوا مشعل رؤية باكون التقدمية للعلم النفعي بما مكّنهم من التأثير عميقا في الارض البريطانية.
يرى الكاتب ان الصين لم تكن قادرة ابدا على الحفاظ على الحركة الثقافية مقارنة بجمهورية الرسائل. انها لم تستطع التغلب على التشبث بالتقاليد المندغمة بنظام ادارتها العامة للامتحانات الذي يضع اهتماما كبيرا في مقدرة الطلاب على تذكّر الحكمة القديمة.
.... تكونت النخبة mandarinate في الصين من افراد خضعوا طوعا لتلقين ديني شديد من جانب الايديولوجية الارثودكسية. هذه النصوص الغير قابلة للشك والنقد بقيت خط الدفاع الصلب امام جهود المخترعين... وحتى حلول القرن التاسع عشر ما كان بامكاننا العثور على علماء يرغبون بنبذ القيم والمعتقدات التي تطورت منذ الاف السنين وفق رؤية "الحقائق المؤكدة" proven facts(ص305).
يؤكد الكاتب بانه قبل عام 1500 كانت اوربا اكثر استعدادا من الصين في رحلة التقدم الاقتصادي المرتكزة على الابتكارات والعلوم. المفكرون في القرون الوسطى كانوا معزولين عن العالم المادي وغير راغبين في مسائلة الحكمة القديمة. هم لم يكونوا مهتمين بالعمل مع الوسائل والابتكارات الجديدة. باكون ونيوتن ساعدا في خلق المناخ الفكري الجديد، وبالتالي فان ظروف الثورة الصناعية تكون قد خُلقت.
هناك افكار اخرى حول الثورة الصناعية. في مراجعته لكتاب مايروس في Nature، يشير الاقتصادي براد بلونك الى انه يفضل رؤية مؤرخ اقتصادي آخر وهو روبرت آلن.
... وفقا لرؤية آلن، فان الطريق الوحيد للنمو الاقتصادي الحديث يتطلب مجموعة من العناصر لم تكن مجتمعة في بريطانيا من قبل. من بين هذه العناصر الاجور العالية المصممة امبرياليا، فحم رخيص قريب من شبكة قنوات النقل، وخطوط تجارية مفتوحة تسمح بالتوسع الكبير في تصدير المنسوجات.
ان الجدل الشائك حول الدور الخلاق للعوامل المادية والعوامل اللامحسوسة لا يمكن تسويته بسهولة. هناك الكثير مما يسميه جيمس مانزي بـ"الكثافة السببية" causal density (3)، حيث لانزال نرى صعوبة في القبول بان الفحم والقنوات وشبكة التجارة كافية للشروع بفترة طويلة من النمو السريع.
قبل اربعين سنة، حذّر المؤرخ الاقتصادي Charles kindleberger طلابه بعدم الكتابة عن الثورة الصناعية، حيث لم يعد هذا العمل مجديا كونها قد استُنزفت، غير ان هذا ليس هو واقع الحال، فهناك العديد من الاعمال الهامة ظهرت في السنوات الاخيرة، وكتاب جول موكر (ثقافة النمو) هو خصيصا من بين تلك الاعمال التي تستحق الثناء.
اضف تعليق