بدأت مكتبة الإسكندرية في برنامج بحثي لإعادة احياء مشروع طريق الحرير. يهدف المشروع إلى إصدار سلسلة من الكتب والأوراق البحثية التي تؤرخ لتجارة وصناعة الحرير بدء من الصين إلى دول العالم.
كانت اليونسكو في القرن العشرين قد بدأت مشروع لإحياء طريق الحرير، اهتمت فيه بالطريق البري من الصين إلى أوروبا، وتجاهلت فيه الطريق البحري الممتد من الصين إلى الهند إلى البحر الأحمر إلى مصر.
وصرح الدكتور خالد عزب؛ رئيس قطاع المشروعات والخدمات المركزية بمكتبة الإسكندرية، أن مصر شهدت في العصر المملوكي ازدهار في صناعة وتجارة الحرير، وكانت له العديد من المراكز في مصر لعل من أبرزها فوة ومطوبس من كفر الشيخ، ومركز ببحيرة المنزلة.
وكانت مصر أهم محطة دولية لتصدير الحرير القادم من الصين والهند والمنتج في مصر إلى أوروبا في العصور الوسطى.
هذا وقد أصدرت مكتبة الإسكندرية موسوعة طريق الحرير للباحث أشرف أبو اليزيد الذي يعمل محررًا بمجلة العربي الكويتية، وتضم الموسوعة مئات الصور الملونة، وتعريف بكل المواقع على طريق الحرير الدولي.
تقع الموسوعة المصورة في 220 صفحة، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام، شمل الأول المدن التي وصل إليها طريق الحرير أو عبر بها، وقدم فيها الكاتب 374 مدينة.
واختص القسم الثاني بالآداب والفنون التي اشتهرت في أرجائه. وقد جمع المؤلف بعضًا من أشهر المؤلفات التي صنفها رحالة على طريق الحرير، في الدين والأدب والجغرافيا والتاريخ. أما الفنون فلم تقتصر على الشائع منها، ولكنها شملت فنون الحياة اليومية بما فيها من فنون الطعام.
وجعل المؤلف الجزء الأخير للممالك والأعلام التي عرفها طريق الحرير خلال نحو 16 قرنًا، ويقول: "إذا كنتُ قد حاولت أن تكون الممالك حصرية، فقد كان من الصعب أن يكون الأعلام بالمثل، وإنما أحضرت من قد تكون أسماؤهم قد وردت في متون المدن أو شروح الفنون أو مسارد الآداب."
ويقول المؤلف في مقدمة الموسوعة إن طريق الحرير هو اسم جامع لخطوط القوافل المنقولة برًّا من وإلى الصين في أقصى الشرق، مرورًا بالقارة الآسيوية غربًا، وصولاً إلى قلب أوروبا.
ويضيف: "الأيام التي عشتُها في مدن طرق الحرير، سواء بالصين، وأوزبكستان، والهند، وسواها من الدول، هي التي أحيت فيَّ فكرة كنتُ أظنها مرهونة بالتاريخ وحسب. فقد كان الغالب أن طريق الحرير مرتبط بالماضي، وأردت، بالبحث في متونه، والقراءة عن فنونه، والتنقل بين مدنه، أن أثبت أنه لم يمت. هكذا رأيته في سمرقند وبخارى مثلما عايشته في كاشغر وأوبال."
ويوضح أنه كان يظن أن طريق الحرير يمر بعشرين أو ثلاثين مدينة، فإذا به يتخطى في عد المدن إلى أكثر من 160 مقصدًا لطريق الحرير، سواء كانت تلك المقاصد مدنًا سادت ثم بادت، أو بقاعًا غيرت أسماءها ولغاتها، وتعاقب عليها الملوك مثلما تبدلت بها الأديان.
ويبين أنه على الرغم من أننا نعد طريق الحرير تاريخًا، إلا أن مدنه لاتزال تنعمُ بذكريات الازدهار. فطريق الحرير الصيني اليوم - مثالاً - يأتي على رأس قائمة مواقع الجذب السياحي في منطقة شينجيانغ، شمال غرب الصين، التي يعبرها إلى وسط وغربي آسيا، وفي الوقت نفسه يربط طريق الحرير شينجيانغ بالمناطق الداخلية في الصين.
وقد كان العرب - حتى قبل ظهور الإسلام - وسيطًا تجاريًّا مهمًّا بين الشرق والغرب؛ حيث كانت التجارة القادمة من الشرق (بخاصة الهند والصين) تمر ببلاد العرب عبر طريقين رئيسين؛ الأول يمر بعدن في جنوب غرب اليمن بالبحر الأحمر، حيث تأتي السفن، بعضها يواصل سيره في البحر الأحمر إلى ميناء القلزم (السويس) في مصر، ثم تفرغ حمولتها، وتنقل البضائع بالقوافل إلى الموانئ المصرية على البحر المتوسط، وبخاصة ميناء الإسكندرية، ثم تشحن في السفن بحرًا مرة أخرى إلى أوروبا، وبعضها الآخر يفرغ حمولته في عدن، ثم تحملها القوافل برًّا عبر الساحل الغربي لشبه الجزيرة العربية، المطل على البحر الأحمر، وتمر بمكة المكرمة، التي كانت مركزًا تجاريًّا مهمًّا، وبعضها يواصل سيره إلى ميناء غزة في فلسطين.
أما الطريق الآخر فكان يمر عبر الخليج العربي، حيث تواصل السفن سيرها وتفرغ حمولتها في أقصى شماله، بميناء الأيلة غربي البصرة (العراق)، ثم تنقل البضائع على القوافل برًّا عابرة العراق إلى الشام؛ حيث تفرغ حمولتها في موانئ عكا وصور وصيدا وبيروت واللاذقية وأنطاكية، ثم تشحن بحرًا إلى أوروبا.
قامت التجارة في أغلبها على جلب الحرير من الصين، والتوابل والبخور من الهند. كانت هذه البضائع مطلوبة على نطاق واسع في أوروبا، وكان العرب يقومون بدور فعال ونشط في عملية التجارة هذه، وقامت حياة عرب الحجاز - مثالاً - وبصفة خاصة قريش، على التجارة.
في العصر الأموي لم يعد العرب وسيطًا تجاريًّا لنقل البضائع بين الشرق والغرب، وإنما أصبحوا سادة الموقف كله، بعد امتلاكهم الطرق التجارية البحرية والبرية، من الصين إلى الأندلس. فبالإضافة إلى ما سبق الحديث عنه بسط المسلمون سيادتهم على الطريق الذي يبدأ من شمال الصين، ثم يجتاز هضاب وسط آسيا وسهولها (بلاد ما وراء النهر) ثم يتفرع إلى عدة طرق، تنتهي كلها إلى موانئ البحر الأسود والبحر المتوسط، ويمر معظمها في الأراضي الإسلامية، ثم تنقل التجارة إلى أوروبا الشرقية والجنوبية، أمَّا أوروبا الغربية وشمال إفريقيا والأندلس، فكانت معظم تجارتها تأتي من الطريق الأول عبر الموانئ المصرية.
سيطر المسلمون على النشاط التجاري في تلك الرقعة الواسعة من الأرض وأصبحت بلادهم تصدِّر البضائع والمنتجات إلى بلاد الشرق والغرب. فتصدر إلى (الصين) المنسوجات الصوفية والقطنية والكتانية، والبُسُط، والمصنوعات المعدنية، وخام الحديد، وسبائك الذهب والفضة، كما كانت تستورد منها الحرير. وقد ساعد على ازدهار تلك الحركة التجارية العالمية اهتمام الدول الإسلامية المتعاقبة على حكم تلك البلاد بإنشاء الطرق، وتعبيدها وتأمينها، فكانت القوافل تسير في طرق آمنة، تنتشر على جوانبها الفنادق والاستراحات والأسواق.
كما كانت التجارة أعظم مصادر الثروة في العهد المملوكي؛ إذ قاموا بتشجيعها، وعقدوا المحالفات والاتفاقات التجارية مع سلاجقة آسيا الصغرى، وإمبراطور القسطنطينية، وملوك إسبانيا، وأمراء نابلس، وجنوة، والبندقية وكاد المماليك أن يحتكروا تجارة الهند، وخاصة التوابل، بالاتفاق مع أمراء الموانئ الإيطالية.
قد يكون طريق الحرير مسلكًا فوق الرمال، وممرًّا بين الجبال، ودربًا يقطع الفيافي، وجسرًا يعبر الأنهار، وحياة كاملة فوق قافلة تمضي شهورًا من مكان إلى آخر، لكنه قبل ذلك كله صنيعة الإنسان.
في القرن الخامس الميلادي، عرفت شعوب الأرض، للمرة الأولى في تاريخها، مدينة يبلغ عدد سكانها المليون نسمة، تلك كانت تشانغآن، في زمن لم يكن أحد يدري عن قرية لوتيتا شيئًا؛ وهي التي ستصبح لاحقًا عاصمة فرنسا؛ باريس، وفي زمن كان صيادو السمك قد بدأوا يتجمعون عند نهر التايمز فيما سيكون لندرة، وعصر كانت فيه موسكو تحت المعاول تنشأ، ولم يكن كريستوفر كولومبس قد تحرك نحو عالمه الجديد بعد.
لذلك كان طريق الحرير ابن هذه المدينة وأخواتها من المدن الزاهرة في عصرها والعصور اللاحقة، والتي واصلت تألقها حتى ظهر طريق الحرير البحري بعد الاكتشافات البحرية لخطوط الملاحة حول رأس الرجاء الصالح.
ويقول المؤلف إن البضائع التي حملتها قوافل طريق الحرير منها فراء الثعالب والدببة القطبية، ومن مدربي القنص ستجد باعة الصقور المدربة على الصيد، ومن كل مكان ستأتي الأقمشة المرغوبة في كل سوق، مثلما ستباع البخور التي تتوق إليها المعابد البوذية. هنا سيباع العسل والشاي، والفضة والذهب، والدمى الخشبية والسهام المعدنية والدروع الحربية والسجاد والحلي، والأرز مع كافة الأطعمة المجففة. هنا سيباع كل شيء، قادم من كل مكان. وهنا سيباع الحرير.
لكن مع التجارة جاءت ثقافات، وألسنة ولهجات، وفنون وآداب، وهاجر أعلام، وتنقل رحالة، وهنا ظهرت أهمية طريق الحرير كشريان عبر نبضه عن حياة العالم.
اضف تعليق