فأمريكا بصفتها أكبر دولة مانحة للمساعدات في العالم استخدمت طويلا هذه المساعدات كأداة من أدوات قوتها الناعمة لتحقيق مصالحها الخارجية، بل انها شهرت سلاح المساعدات للضغط على دول عديدة من اجل تعديل مواقفها بشأن قضايا داخلية وخارجية مختلفة، وعندما تعيد اليوم النظر بمساعداتها الدولية انما تفعل ذلك لمعرفة...

بعد أيام من تولي الرئيس ترامب سلطته في البيت الأبيض أصدر امرا تنفيذيا شاملا بتعليق مساعدات بلاده الدولية لمدة ثلاثة أشهر، وهو ما أكده في وقت لاحق وزير خارجيته ماركو روبيو ببرقية أرسلها الى جميع البعثات الامريكية في العالم مطالبا إياها بالوقف الفوري لهذه المساعدات ابتداء من شهر شباط الجاري، باستثناء المساعدات المقدمة لإسرائيل ومصر، مبررا ذلك بالقول: " كل دولار ننفقه، وكل برنامج نموله، وكل سياسة ننتهجها، يجب تبريرها بالإجابة على ثلاثة أسئلة بسيطة: هل يجعل ذلك أمريكا أكثر أمانا؟ هل يجعل أمريكا أقوى؟ هل يجعل أمريكا أكثر ازدهارا؟".

ويأتي هذا الموقف الأمريكي من المساعدات منسجما مع سياسة "أمريكا أولا" التي تنتهجها إدارة الرئيس ترامب على مستوى السياسات الداخلية والخارجية، فأمريكا بصفتها أكبر دولة مانحة للمساعدات في العالم استخدمت طويلا هذه المساعدات كأداة من أدوات قوتها الناعمة لتحقيق مصالحها الخارجية، بل انها شهرت سلاح المساعدات للضغط على دول عديدة من اجل تعديل مواقفها بشأن قضايا داخلية وخارجية مختلفة، وعندما تعيد اليوم النظر بمساعداتها الدولية انما تفعل ذلك لمعرفة كيفية استثمارها بشكل أفضل لتحقيق مصالحها وفقا لما تراه ادارتها الحالية.

وفي الوقت الذي عُلقت فيه هذه المساعدات أطلق الرئيس ترامب ما يعتقده مبادرة حاسمة لحل مشكلة غزة بمطالبة مصر والأردن بإيواء مؤقت او دائم لما يزيد عن مليون فلسطيني من أهل غزة في اراضيهما، بحجة ان غزة اليوم أصبحت مكانا غير صالح للسكن. وقد استقبل العالم هذه المبادرة بفتور وعدم تصديق، فيما استقبلتها القاهرة وعمان بالرفض؛ كونها تشكل شكلا من اشكال التهجير القسري للشعب الفلسطيني لمصلحة إسرائيل، وجاء رفض القاهرة على لسان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي اعتبرها تهديدا للاستقرار والأمن القومي المصري والعربي، وترهيبا وتهجيرا للشعب الفلسطيني، ووصفها بأنها " ظلم لا يمكن ان نشارك فيه". اما الرفض الأردني فجاء على لسان وزير الخارجية أيمن الصفدي، عندما رد على المبادرة بالقول: " الأردن للأردنيين، وفلسطين للفلسطينيين".

ولكن هل يستمر الرفض المصري -الأردني لمبادرة ترامب في حال شهرت واشنطن سلاح المساعدات كأداة ابتزاز في وجههما؟

قبل الإجابة على هذا السؤال لابد من توضيح طبيعة وحجم المساعدات الامريكية لكل من مصر والأردن، فمنذ عقود طويلة دأبت واشنطن وتحديدا منذ اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل سنة 1979 على منح القاهرة مساعدة سنوية تقدر بـ 1.3 مليار دولار يذهب معظمها كمساعدات عسكرية، فيما يتم ربط 300 مليون دولار منها بمقدار تقدم مصر في سجل حقوق الانسان، ويمكن إدراك أهمية هذه المساعدة إذا ما علمنا ان موازنة الدفاع المصرية السنوية لا تتجاوز 3.5-4 مليار دولار.

اما بالنسبة الى الأردن فيبدو ان الوضع أكثر تعقيدا وصعوبة؛ لان الأردن تعد من الدول الفقيرة في مواردها، وتعتمد بشكل مباشر على المساعدات الخارجية الامريكية والأوروبية في للإيفاء بالتزاماتها امام شعبها والعالم، وقد عبر عن هذه الصعوبة احد الصحفيين الأردنيين في مقال نشره الدكتور محمد داوودية عضو مجلس الاعيان الأردني في صحيفة الدستور الأردنية يوم الأربعاء الماضي بالقول: انه في بداية شهر شباط الجاري سيتم وقف "20000" اردني من العمل في الوكالة الامريكية للتنمية الدولية "USAID" بسبب تعليق المساعدات، وسيتوقف تقديم الدعم لقطاعات اقتصادية وتنموية عديدة مثل: " المياه، والطاقة، والتعليم، والصحة، ودعم برامج تعزيز النمو الاقتصادي، وخلق فرص العمل، والحد من الفقر، والمساعدات العسكرية والأمنية، والمساعدات الإنسانية واللاجئين، والتدريب، والبيئة"، ويمكن ادراك حجم الضرر- بحسب الصحفي الأردني- اذا ما علمنا بتلقي عمان من واشنطن مبلغا مقداره 520 مليون دولار فقط في النصف الأول من سنة 2024 لدعم قطاع المياه في المملكة، مما يعني مواجهة اقتصادها الوطني خطرا حقيقيا في حال توقف المساعدات او تعليقها او إعادة النظر بها.

مما تقدم يبدو ان القاهرة وعمان ستتعرضان لضغط امريكي هائل ومستمر لإجبارهما على تنفيذ مبادرة ترامب بشأن غزة، لاسيما وان رفضهما للمبادرة رد عليه آدم بولر مبعوث ترامب لشؤون الاسرى بالقول: "على مصر والأردن تقديم بديل بعد رفضهما استقبال الفلسطينيين"، وهذا يكشف عن إصرار أمريكي لحل أزمة غزة عبر بوابة القاهرة وعمان، وسيكون سلاح المساعدات أداة مهمة الى جانب أدوات أخرى للضغط عليهما بهدف تغيير موقفهما، وان تركهما لوحدهما في مواجهة الضغط الأمريكي يعد توجها خاطئا للغاية، ولذا يتطلب الامر تنسيقا عربيا واسلاميا مشتركا لدعم موقفهما ومساعدتهما على الوقوف بوجه واشنطن من خلال الدعم الاقتصادي المباشر، وكذلك من خلال الدعم السياسي في المحافل الدولية والإقليمية لفرض ما يراه الفلسطينيون أفضل الحلول للحصول على حقوقهم المشروعة بعيدا عن خيارات التقتيل والتشريد والتهجير القسري.

* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2025

www.fcdrs.com

اضف تعليق