تتفاوت الأفهام في التعاطي مع مصطلح (الحقوق) المتداول في الكتابات والأدبيات والمقالات والدساتير، فكل منا يمر على هذا المصطلح المقدس، ولكن بالتأكيد ليس كل منا يدرك مدياته ومساحته في التطبيع على أرض الواقع، إلا إذا تم التسالم بين الناس مائة في المائة على فهم معناه ومصداقه، وهذه حالة مثالية يصعب تحققها في عالم الإنسان الذي يحب أن يأخذ دون أن يعطي، وأن يستأثر بحق الآخرين الى جانب حقه دون وجه حق، مع انه بفطرته السليمة يدرك حدود الحق الذي له والواجب الذي عليه، ويتلمس نقاط التماس مع حقوق الآخرين الذي يشاركونه الحياة من إنسان أو حيوان أو جماد.

ولأن الحقوق وإدراك معانيها وقواعدها من المسائل الملازمة لحياة الإنسان من قبل ولادته ومن بعد وفاته، فإن الدساتير السماوية والأرضية انعقدت كلها على توضيح هذه الحقوق وبيان معالمها، وتفكيك شبكات الحقوق وخيوطها بما تجعلها قدر الإمكان واضحة لكل إنسان التي تحكمه تلك الدساتير.

ولاشك بملازمة الحق للحرية، فلا يمكن إعمال الحق من دون حرية ولا إعمال الحرية من غير القدرة على ذلك، والقدرة هي بحد ذاتها حق، ولذلك قد تبدو الحرية والحق متطابقين في آن واحد، على أن النظرة للعميقة لهما يظهر أن الحرية مقدمة على الحق، لأنه بتوفر الحرية يأخذ الحق مجراه في عالم التحقيق، فاستنشاق الهواء النقي في الحدائق العامة على سبيل المثال هو حق مشروع يتقاسمه الناس، ولكن إذا تم منع الإنسان ذاتيا بحجزه أو عرضيا بوضع سياج حول الحديقة، فيظل الحق ممنوعاً من الصرف، لا يُعرب إعجامه الا الحرية.

وحتى يكون الإنسان على بينة من حقوقه وحقوق الآخرين ونقاط الالتقاء والتقاطع، يسعى المشرعون الى إشاعة ثقافة الحقوق واحترامها، وفي هذا الاتجاه صدر حديثاً (2015م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت كتيب "شريعة الحقوق" للفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي، وهو جزء من ألف شريعة في أبواب الحياة المختلفة، حيث ضم الكتيب نحو 160 مسألة شرعية رئيسة وفرعية، تناولها الفقيه الكرباسي بأسلوب جلي إلى جانب 35 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، مع مقدمة المعلق وتمهيد المؤلف، الى جانب كلمة الناشر التي وضعت النقاط على الحروف فيما يحتويه هذا الكتيب الذي صدر في 56 صفحة.

الحق والوجوب

لا ينفك الانسان بفطرته السليمة البحث عن حقوقه المشروعة ونيلها، لأن الحق كتعريف كما يؤكد الفقيه الكرباسي: (هو الأمر الذي يقتضي تنفيذه لصالح الآخر أو لنفسه على سبيل الوجوب أو الاستحباب) أو بتعبير الفقيه الغديري في تعليقه على المسألة: (الحق هو الأمر الذي يقتضي استيفاؤه، وتنفيذه في الحياة، لنفسه أو لآخر)، وفي الإصطلاح الفقهي فإن: (الحق هو الأمر الذي يرى الشرع اقتضاء تنفيذه وجوباً أو اختياراً من باب الأفضلية أو الجواز، مثل حق الفسخ وحق الشفعة وحق التأليف وهكذا).

ويلاحظ في التعريف وجود أمر واقتضاء تنفيذه وجوباً أو استحباباً ويدور هذا الحق في محيط الإنسان وغيره، وأما متعلقاته فهي عند الكرباسي: (الأعيان أو المنافع أو الممارسات أو الاعتبارات)، فمن الأعيان: (حق مالك العقار بالتصرف بأرضه يقيّد تصرفه بما لا ينافي حقوق جاره)، ومن المنافع: (حق المستأجِر للبيت، فالمستأجر مُلزَم بالشروط التي اتفقا عليها)، وهذا الحق كما يعلق الفقيه الغديري: (غير قابل للانتقال إلا بالإذن أو برضى المالك)، ومن الممارسات: (حق ولاية الأب على ابنه القاصر)، ومن الاعتبارات: (حق استخدام اسم شخص في شركة أو مؤسسة فانه يتحقق ضمن الاتفاقات وبحاجة الى رضاه).

وإذا قلنا بتبع الحقوق للحرية، فإن صاحب الحق له كامل الحرية في أن يتنازل عن حقه كلاً أو بعضاً: (كما في المهر والصداق) على سبيل المثال، فهو حق من حقوق الزوجة ولها أن تسقطه بعضه أو كله، كما أن الحق: (قابل للشراكة بين طرفين أو أكثر، وقد يكون في أشخاص، أو في مؤسسات) مع توفر: (شرط تعيين الحُصص وتحديد السهام بالتفصيل دون الإجمال فإن الإجمال قد يسبب الغرر والضرر والخلاف) كما يعلق الشيخ الغديري على المسألة السابقة، كما ان: (الحق يتوارث من شخص إلى آخر حاله حال المال، وهناك موارد لا يمكن فيها التوارث)، كما ان: (الحق قابل للبيع والشراء في بعض موارده)، وكذلك: (يقبل الهبة والوقف شرط رعاية أحكامهما) كما يعلق الفقيه الغديري على المسألة السابقة.

وبشكل عام فإن: (الحقوق تتأتى بجعل شرعي أو بجعل الإنسان والذي يُعبّر عنه بالحقوق المدنية أو الوضعية في قبال الشرع)، كما يؤكد الفقيه الكرباسي في التمهيد، مضيفاً أن الحقوق الشرعية: (منها أخلاقية ومنها أحكام شرعية ومنها أحكام جزائية، فالأولى في الأعم الأغلب هي حقوق أفضلية لا تصل حد الإلزام، والثانية في الأعم الأغلب هي حقوق إلزامية، والثالثة حقوق إجرائية في الأعم الأغلب)، وأما الحقوق المدنية أو الوضعية فهي محترمة بشكل عام: (والاسلام لا يخالف ما كان منها لا يخالف الشريعة القائمة على المصالح والمفاسد من بابها العريض وتطبيقاتها الدقيقة، مقدّما المجتمع على الفرد في حال التعارض فيما إذا لم يكن هناك مخرج للجمع بين الحقّين).

الحق والعلاقات الست

ما فتئ الفقيه الكرباسي يؤكد في كتاباتها المتنوعة، إن كانت في موسوعته الحسينية الفريدة (دائرة المعارف الحسينية) أو موسوعته الفقهية (سلسلة الشرائع)، أو كتاباته في الأغراض الأخرى، على ضرورة رعاية العلاقات الست من أجل خلق أمة محافظة، وهي علاقة الإنسان بربه وبنفسه وبأخيه وبالمجتمع وبالسلطة والبيئة، فلربه حقوق واجب الاطاعة والإذعان لها، ولنفسه حقوق، ولأخيه حقوق، ولمجتمعه حقوق، وللدولة حقوق، وللبيئة حقوق، وبرعاية مجموعها يستقيم أمر الأمة، فتأكل من تحتها ومن فوقها.

وبالطبع فان إدراك مثل هذه الحقوق ضمن سياقات العلاقات الست بحاجة الى انسان على دراية بأن: (الحق الواجب محرّم تركه بل يجب العمل به بالشروط التالية: العِلم والعقل والبلوغ وعدم الإسقاط)، فمن حقوق الله الواجبة على الإنسان: (أن لا يُشرك به، وأن لا ينسب اليه الظلم، وأن يعبده، والشكر على النعم)، وبالعبادة تتحقق السعادة للإنسان في الدارين وبالشكر يزيده الخالق من خير العاجل والآجل. ومن حق الإنسان على نفسه: (حق المعرفة وحق الإشباع) ومقتضى ذلك: (أن يسعى الإنسان الى تغذية الحواس الباطنة سواء العقلية منها أو النفسية بالمعرفة والمعلومات ولا يجوز منعها من ذلك)، ومن مقتضى حق الإشباع المتعلق بالجوارح والأعضاء: (اقتناء الماء والطعام وغيرها من العناصر لتغذية جسمه وأجهزته ولا يجوز منعها منها). ومن حق الآخر على الإنسان، على سبيل المثال، حق احترام الوالدين وطاعتهما في الحلال والترحم عليهما بعد رحيلهما، ومن الحق إنفاق الوالدين على الأبناء وحضانتهم وتربيتهم وتعليمهم، ومن الحق النفقة على الزوجة، ومن الحق نصيحة الصديق والجار وحضور افراحه وأتراحه، وبشكل عام فإن: (حق الآخر على الإنسان قسم منه واجب وقسم مستحب). ومن حق المجتمع: حق الأقارب وحق الجار وحق المؤمنين وحق المواطنين وحق التعليم وحق الفقراء والمعوزين وحق الأموات، وتحت هذه الحقوق وغيرها تدخل تفريعات كثيرة تنتهي كلها إلى بناء شبكة عميقة ومتشعبة ومتينة من العلاقات الإجتماعية السليمة. ومن حق الدولة الشرعية العمل ضمن السياقات وعدم مخالفة القوانين، ومن هذا الحق واجب عدم خيانة الوطن والمحافظة على الممتلكات العامة، وكذلك: (حق الشرعنة حسب الشريعة الإسلامية إن كانت الدولة إسلامية، وحسب القوانين الإنسانية العادلة إن لم تكن إسلامية). ومن حق البيئة وجوب المحافظة عليها وسلامتها وحسن استخدامها وما فيها من حيوان ونبات وأنهار ومعادن وجبال ووديان وفضاء، فالبيئة وسلامتها تدخل ضمن مسؤولية الإنسان وحقها عليه.

إذن وبتعبير الفقيه الغديري في المقدمة: (فلله تعالى حقوق على عباده وكذلك لعباده عليه تعالى شأنه، وللإنسان حقوق على أفراد نوعه وكذلك للحيوان على أفراد جنسه، وللأزمنة حقوق على كل من يستفيد منها بوجه من الوجوه، وكذلك للأمكنة حقوق على أصحابها والمستفيدين منها، وهكذا لجميع ما خلق الله تعالى حقوق على غيرهم سواء في ذلك الموجودات السماوية والأرضية والبحرية والبرية، فهذا من أعظم النعم وأكرم المنن من الرب الكريم أنه لم يهمل في بيان الحقوق من كل ما يتعلق بها إجمالا وتفصيلا، حكماً وموضوعاً، شروطاً وقيوداً، إطلاقاً وتقييداً).

لقد دلّت تجارب الأمم والأقوام على مر التاريخ، أن الأمة المتزنة في تعاطيها مع الحقوق ضمن سياقات العلاقات الست، أمة يسودها الوئام والسلام، وهي أمة قادرة على وأد الأمراض الاجتماعية والإقتصادية وغيرهما في مهدها، ولها أن تفرض احترامها على الأمم الأخرى، وهي بالتأكيد أمّة مرحومة.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق