ولا يختلف إثنان من أصحاب الفطرة السليمة أنَّ كل أمور حياة الإنسان معقودة بناصية الأخلاق بغض النظر عن الدين والمعتقد والجنس واللغة، فدين المرء أخلاقه وأخلاقه دينه، والإنسان السوي في سريرته يحب صاحب الخلق الطيب حتى وإن لم يكن من أهله أو عشيرته او معتقده ودينه ومذهبه...
ما منا إلا وفي كنانة ذاكرته مشاهد وذكريات من الماضي القريب والبعيد، تزهر نجومها أو تخفت حسب التجارب اليومية ومعاشرة الناس والإحتكاك بهم، وللعمر مدخلية كبرى، فكلما طال بالإنسان الزمن امتلأت كنانته من سهام الحياة حلوها ومرها، وبعض الذكريات عسلية كانت أو علقمية، تظل ناشبة نصلها، يستحضرها المرء أو تستحضره كلما أبحر زورقه في نهر الذكريات، فتزهر في طريقه شتلة الذكرى الطيبة وتبثه عطرها أو تنفث في وجهه الذكرى السيئة دخانها، وفي كلتا الحالتين، فإن الذكرى تبقى معلماً للإستزادة من ربيع الخير وتجنب خريف الشر، فالذكرى الطيبة مكسب وهي نعمة والذكرى السيئة مكسب وإن بدت نقمة، والأمر يعود للمرء ومبلغه من الإستفادة والإتعاظ.
من الذاكرة الشبابية وأنا في دار الهجرة التي ساقتني قهراً من مسقط رأسي في كربلاء المقدسة نحو دمشق براً ومنها إلى طهران جواً، أنني وجدت نفسي في محيط مجتمع جديد يتحدث اللغة الفارسية، ففي الشام على قصر مدة الإقامة لأقل من شهر كانت اللغة واحدة وإن اختلفت اللهجة السورية عن العراقية، ولكن في طهران التي كانت تعيش بحبوحة انتصار الثورة الإسلامية ولم تكن حينئذ منشغلة بحرب دموية أشعلها نظام صدام حسين في 22 ايلول سبتمبر عام 1980م، كنت في مواجهة لغة جديدة وإن كانت تشترك مع اللغة العربية في مفرداتها في أكثر من ستين بالمئة، لغة كنت أسمعها في دارنا حيث كانت ترطن بها والدتي مع بعض صويحباتها وكنت أسمعها من أصحاب المحلات في مدينتنا حيث بها يتعاملون مع الزائرين القادمين من إيران وأفغانستان ونادراً أن تجد صاحب محل في مدينتنا المقدسة التي تستقبل الزائرين من أقطار الأرض لا يتحدث بلغة أخرى، فأكثرهم يتحدث الفارسية وقليلهم يتحدث الأردوية حيث يتعاملون مع الزائرين القادمين من باكستان والهند، والأقل يتكلم الإنكليزية البسيطة للتعامل مع السائحين، فكل صاحب مصلحة وعلى التصاق مباشر مع الزائر والسائح يتحدث بلغة أخرى، وهذه سمحة كل مدينة سياحية في الأرض تستقبل زائرين من أقطار مختلفة ومتنوعة.
في دار الهجرة حيث الناس غير الناس واللغة غير اللغة، كان عليَّ تعلم لغة القوم، وبحكم عملي في مجال السياسة والإعلام لجأت إلى معهد لتعليم اللغة الفارسية تحت إشراف أستاذ الأدب العربي في جامعة طهران، عراقي المولد، غاب عني اسمه ولم يغب عني رسمه، وكان ينتهج في تعليمنا طريقة حفظ الأمثال والأشعار ويصب تركيزه عليها، ومبتناه في ذلك أنَّ المفردات يمكن التقاطها وتعلمها من الإحتكاك مع المجتمع، وما تحفظه الذاكرة يبقى ذخراً ويزداد معه المرء ثقافة وأدباً، وأظنه كان صائباً في منهجه، لأنني حتى اليوم ورغم مرور أكثر من أربعين عاماً على تلك الدورة اللغوية، فإن الذاكرة تحتفظ بقصة لقمان الحكيم وما وصل إليه من أدب وحكمة، فحافظة الأيام تقرأ التالي: (لقمان را گفتند: أدب أز كه آموختى؟ گفت: أز بي أدبان، هرچه أز إيشان در نظرم ناپسند آمد أز فعل آن پرهيز كردم)، والترجمة العربية للحافظة وفق مفهوم المخالفة تقرأ: (سُئِلَ لقمان: من أين تعلمت الأدب؟ قال: من عديمي الأدب، فأمتنع عن فعل كل ما أراه قبيحاً يصدر منهم).
الأخلاق قبل الشرع والقانون
فالأدب هو الأخلاق، والأخلاق هو الأدب، ولقمان الحكيم يؤدبنا ويرشدنا الى طريقة سهلة لتعلم الأخلاق واجتناب السيء منها والعمل بالحسن منها، وقد أحسن أستاذنا في اللغة الفارسية في منهجه التعليمي، فما علق في الذاكرة من ذكريات نستحضرها عندما يحين الحين، وقد حضرني لقمان الحكيم وأنا أقرأ كتيب "شريعة الأخلاق" الصادر حديثا (2024م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 64 صفحة دبَّج متنه في (73) حكماً مع تمهيد مستفيض الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، وقدَّم له وعلَّق عليه بـ (28) تعليقة وهامشاً، الفقيه الراحل آية الله الشيخ حسن رضا الغديري.
ولا يختلف إثنان من أصحاب الفطرة السليمة أنَّ كل أمور حياة الإنسان معقودة بناصية الأخلاق بغض النظر عن الدين والمعتقد والجنس واللغة، فدين المرء أخلاقه وأخلاقه دينه، والإنسان السوي في سريرته يحب صاحب الخلق الطيب حتى وإن لم يكن من أهله أو عشيرته او معتقده ودينه ومذهبه وموطنه ولغته، لإن النفس السليمة تواقة إلى الطيب من القول والفعل والسلوك، فحليق اللحية الممتنع عن أداء الواجبات من صلاة وصوم وغيرهما يُثنى عليه بين الناس إن كان صاحب خلق وسيرة حسنة ويتعامل مع المجتمع بفطرته الطيبة، وطويل اللحية المؤدي للفرائض والنوافل يُعابُ عليه بين الناس ويُذكر بالسوء إن كان سيء الخلق وأسود السلوك، وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): (أربعٌ مَنْ كُنَّ فيه كَمُل إيمانُه، وإن كان مِن قرْنه إلى قدَمه ذنوباً، لم ينقُصه ذلك! قال: وهي: الصدق، وأداء الأمانة، والحياء، وحُسن الخُلق)، فالمرء وحسن خلقه، وقد ورد عن النبي الأكرم محمد (ص): (حُسن الخُلق نصف الدِّين)، وعن حفيده الإمام محمد بن علي الباقر (ع) (إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً)، وعن حفيده الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): (مِن الإيمان حُسن الخُلق)، وعنه عليه السلام أيضا: (ما يقدِم المؤمنُ على الله عزَّ وجلَّ بعمل ـ بعدَ الفرائض ـ أحبَّ إلى الله تعالى من أن يسَع الناسَ بخُلقه)، وقد أحسن الشاعر المصري احمد شوقي عندما قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وكل مجتمع على وجه البسيط يؤمن برسالة منزلة على نبي مرسل أو بطريقة يدعو لها صاحب دعوة أرضية، ينشد الأخلاق، لأنها سبيله إلى استعمار الأرض وإحيائها، ولهذا فإن الدين الداعي إلى الأخلاق إلهياً كان أو إنسياً يجد طريقه مفتوحاً في اكتساب قلوب الآخرين من غير معتنقيه فينجذبون اليه تعرُّفاً أو يعتنقوه إيماناً، لأن الدين يشجع على الأخلاق الحسنة بالتبع يدعو إلى المعاملة الحسنة وشبيه الشيء منجذب إليه، من هنا قال رسول الرحمة: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وهو الموصوف في كتاب الله: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) سورة القلم: 4، وهو القائل عليه الصلاة والسلام: (إنَّ اللَّهَ أدَّبني فأحسَنَ تأديبي ثُمَّ أمرني بمكارِمِ الأخلاقِ)، والأخلاق كما يعرُّفها الفقيه الكرباسي: (المروءة والسجيَّة، وكوصف الأخلاق بالحسنة والسيئة باعتبار السجيَّة والعادة والطبع، فيقال صاحب أخلاق حسنة أو سيئة، ولكن إن استُخدمت لوحدها انصرف المعنى إلى الحسنة دون السيئة)، فالأخلاق في الحياة الدنيا هي المحور، وبتعبير الفقيه الغديري في مقدمته: (إنَّ الإسلام دين الأخلاق، وتدور أحكامه حول كعبة الأخلاق، ومكارم الأخلاق هي التي أصبحت إرادة حقيقية للشرائع الإلهية واستهدفتها البعثة النبوية الشريفة)، فهناك تلازم حقيقي كما يؤكد الأديب اللبناني عبد الحسن دهيني في مقدمة الناشر مستفادة من الآية 4 من سورة القلم وهو: (ارتباط النبوة بالأخلاق العظيمة والحسنة، وتأكيد ارتباط الإسلام بالأخلاق العظيمة والحسنة).
ثنائية الحَسَن والقبيح
ولما كانت الأخلاق نقطة محورية في حياة الإنسان، فإن الإسلام أولى لها أهمية، وعند تطبيق الأحكام الشرعية كما يفيدنا الفقيه الكرباسي فإن العمل بمكارم الأخلاق يتقدم على العمل بالأحكام الشرعية ثم تليهما الإجراءات القضائية، ومثال ذلك: (فلو أنَّ شخصين اختلفا في تجارة أو معاملة أو أي شيء آخر، فمن الأفضل أن يتعاملا في المسألة بالأخلاق وهو التصالح والتنازل وإنهاء الموضوع بشكل أخوي ودِّي، فإن لم يتمكنا من ذلك التجآ إلى الشرع وأخذا بأحكامه، وأخذ كلٌّ حقه حسب الموازين الشرعية، وإن لم يتفقا راجعا القضاء وبتًّ فيهما وأخذ حق صاحب الحق من مغتصبه، وكذلك الحال في الطلاق العمل بمرحلة الحَكَم بينهما، ثم الطلاق، ومن ثم بإجراء المحاكم والقضاء، هكذا وهلمجرا)، وعليه يؤكد الفقيه الكرباسي: (ينبغي التعامل بالمسائل الأخلاقية قبل اللجوء إلى الأحكام الشرعية)، من هنا: (يُعد الصلح والعفو والتنازل من المسائل الأخلاقية، فلو تعامل المؤمنون مع بعضهم الآخر بهذه الروحية لما وصل الأمر إلى تطبيق الأحكام الشرعية، وإنْ طبَّقوا الأحكام الشرعية في نزاعاتهم لما وصل الأمر إلى القضاء).
ولما كان مدار الأخلاق هو الفضيلة والرذيلة، فإن الإعتدال في الأمور هو المائز، فالشجاعة على سبيل المثال هي فضيلة، والزيادة فيها تصبح تهوراً وهو رذيلة، والنقيصة فيها يصبح جبناً وهو رذيلة.
وعلى هذا المنوال ينسج الفقيه الكرباسي في بساط "شريعة الأخلاق" ستين عقدة تجمع ثنائية الحسن والقبيح، ويدعونا في ثناياها إلى الموازنة فلا زيادة ولا نقصان وسلوك طريق الوسطية فهي المحجة البيضاء، ومن ذلك ثنائية: الحلم والغضب، العلم والجهل، الكرم والبخل، التواضع والكِبَر، العدل والظلم، التآلف والتنافر، القناعة والحرص، اليقين والشك، الأمانة والخيانة، البشاشة والعبوسة، المحاسبة والإنفلات، الشكر والكفران، الإطاعة والمعصية، العفَّة والشَّرَه، الكذب والصدق، الرجاء والقنوط، التأنِّي والعجلة، العفو والإنتقام، الأمل واليأس، الغنى والفقر، الشجاعة والجُبن، الغِبطة والحسد، النشاط والخمول، المعروف والمنكر، الحُب والكراهية، المعاشرة والعزلة، الخلوص والخدعة، الجمال والقُبح، الصمت والثرثرة، الكسب والكَلُّ، المواجهة والغيبة، العذوبة والبذاءة، المناقشة والمجادلة، الإنكسار والعُجْب، الخير والشر، الحياء والوقاحة، الدعاية والسخرية، الفطانة والبلادة، الحِكمة والتهوُّر، الرفق والعنف، التكتُّم والرِّياء، الإعتماد والإتِّكال، المجاملة والنفاق، الإتقان واللامبالاة، التعاطف والشماتة، الإصلاح والفساد، حسنُ الظن وسوؤه، العزُّ والذُّلُّ، التعاون والإنكماش، الرضا والسخط، العمل والبطالة، الزواج والعزوبية، الدفاع والتقاعس، الفرح والحزن، الإعتدال والتطرف، الزُّهد والتعلُّق، الرجولة والأنوثة، الصَّبا والشيخوخة، المكارم والفضائل، المكاره والرذائل.
إذن فالتوازن في كل ثنائية متضادة هو السبيل الأنجع في زحمة المتناقضات، وهو سبيل أفضى إلينا القرآن الكريم معالمه كما في الآية 29 من سورة الإسراء: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)، والبيت هو المدرسة الأولى التي يتعلم فيها المرء ألف باء الأخلاق، ولما كان الإنسان شديد اللصاق بوالدته منذ أن انعقدت في رحمها نطفته، فإنها بحد ذاته مدرسة، وكما قال الشاعر المصري حافظ إبراهيم:
الأمُّ مَدرَسَةٌ إذا أَعدَدتَها *** أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ
من هنا إذا وقع في طريقنا شخص حسن السيرة وأنجز لنا خدمة حسنة، أو تناها إلى سمعنا حسن عمله وخدمته فإننا نشهد له بطهارة حليب أمه، طهارة مادية ومعنوية، دلالة على طهارة المنبع والولادة وحسن التربية، وهي شهادة يتمنى كل واحد منا بفطرته السليمة أن يتقلد وسامها، والإنسان برأسماله، ورأسماله حسن خلقه وأدبه وضياء سيرته الطيبة بين الناس، وكما قال صاحب الخلق الرفيع: (خير الناس أنفعهم للناس)، ومن كان كذلك فهو حبيب الله كما أضاف الحبيب المصطفى (ص): (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس)، وكفى بذلك شهادة حسن سيرة وسلوك لعالم العاجلة والآجلة.
اضف تعليق