كتاب "مفهوم السلطة" لـ الكسندر كوجيف(1) يُعتبر من الاضافات الهامة للدراسات الفلسفية للسلطة وهو كتاب تدريسي ضروري لفهم الفكر السياسي لكوجيف. وعلى الرغم من ان محاضرات كوجيف الهامة (1902-1968) حول فينومونولجيا الروح لهيجل كان لها تأثيرا كبيرا على فلاسفة القارة كـ جاك لاكان، جاك دريدا، جين بول سارتر، والفلاسفة الامريكيين كـ ليو ستراوس، لكن هذا الكتاب كُتب في المقام الاول للجمهور السياسي الاوربي اثناء الحرب العالمية الثانية. الكتاب تمت قراءته بعناية الى جانب الدراسات الفلسفية اللاحقة في موضوع السلطة مثل كتاب ماهي السلطة لهانا ارندت، ودراسة حول السلطة لهربرت ماركوس لأن الدراسات الثلاث سعت مجتمعة لإعادة السلطة مجددا الى الحياة السياسية والاجتماعية بطرق لا تبرر الاضطهاد او البطرياركية او التقليدية.
وعلى الرغم من عناوين الدراسات الثلاث، لكن كتابي ارندت وماركوس لا يقدمان تعريفا فلسفيا للسلطة بينما يقدم كوجيف تعريفا واطارا لفهم كل نوع من انواع السلطة. يبدأ كوجيف اولا بتعريف عام للسلطة ثم ينتقل الى ثلاثة اصناف تحليلية متميزة للسلطة على المستوى الفينومولوجي والميتافيزيقي والانطولوجي. الإطار الذي يطوره كوجيف هو بالنهاية اطارا علميا. هو يلاحظ ان هناك 64 نوعا مركبا من السلطة تضم اربعة انواع نقية و11 نوعا مركبا من هذه الانواع الاربعة. بعد ذلك يتابع كوجيف عمله هذا بوضع استنتاجات تتعلق بالسلطة في السياسة والاخلاق والسايكولوجي.
تعريف كوجيف الاساسي للسلطة هو ان السلطة تعني القبول الحر والواعي للفرد لأوامر فرد آخر. يرى كوجيف ان جميع السلطات تعود في أصلها الى ما يسميه السلطة الدينية (divine Authority) او سلطة الاب، وهو يعرّف السلطة الدينية كـ "اي شيء يستطيع الفعل تجاهي دون ان تكون لديّ الامكانية للتصرف" (ص12). النقطة الاساسية في هذا التعريف هي ان الفعل السلطوي الحقيقي لا يواجه اي معارضة من اولئك الذين تُفرض عليهم، وبهذا هي تختلف عن ممارسة الحق الذي فيه يمكن مواجهة نوع من المعارضة. من الضروري ملاحظة انه مع ان ارندت وماركوس يفضلان التعريف السلبي للسلطة فان كوجيف يميل للتعريف الايجابي وهو التعريف الذي يمكن استخدامه سياسيا اثناء الحرب العالمية الثانية.
اربعة انواع من السلطة
حدد كوجيف اربعة انواع "نقية" للسلطة: سلطة الاب، سلطة السيد، سلطة القائد، سلطة القاضي. كل واحد من هذه الانواع الاربعة له مدرسته الانطولوجية والميتافيزيقية والفلسفية المتميزة. الشكل الاصلي للسلطة هو ديني، وهو المفهوم الذي طُور من جانب الفلاسفة التدريسيين في العصور الوسطى. كانت السلطة في الشطر الاكبر من التاريخ الغربي تعني في الاساس حكم الله للفرد والتي يمكن تشبيهها بسلطة الاب على الطفل. وبمعنى اخر ان سلطة الاب هي بالنهاية نوع ثيولوجي للسلطة لأن الاب عند ممارسته السلطة على الطفل فهو يمثل او يحل محل السبب الاصلي للكون كنوع بديل للاله. يرى فلاسفة القرون الوسطى ان لكل سلطة بشرية معناها ومصدرها الديني. مع موت الاله، حلّت السلطة العلمانية للاب محل المصدر الديني للسلطة، رغم ان كوجيف لم يطور هذه الفكرة.
النوع الثاني النقي للسلطة هو سلطة السيد والتي طوّرها هيجل في ديالكتيكية السيد-العبد. نظرية هيجل هي التفسير الفلسفي الاكثر تطورا للسلطة. غير ان ضعف النظرية يكمن في حقيقة ان هيجل رأى كل اشكال السلطة مشتقة من علاقة السيد – العبد، مما ادى الى اختزال السلطة الى العلاقة بين السيد والعبد، ولامجال لنظرية متميزة للاب او للقائد.
ان مساهمة هيجل الاكثر اهمية في فهم السلطة تأتي من الدور الذي وضعه لـ "المخاطرة"، حيث نجد في ديالكتيكية السيد- العبد ان السيادة تبرز من الصراع حتى الموت لأجل الاعتراف: العبد اختار الخضوع بدلا من الموت، بينما السيد مستعد للمخاطرة بحياته لكي يُعترف به. غير ان العبيد سوف لن يخضعوا الى الأبد. سلطة السيد تفترض سلفا امكانية الحرب والثورة الدموية، وبهذا فهي تفترض ضمناً اختفائها الحتمي (ص82)، وبذلك فان المخاطرة بالموت هي التي تجلب السيادة.
وفقا لنظام كوجيف، وبسبب صراع السيد حتى الموت وما ينطوي عليه من مخاطرة الثورة والحرب، فهو يقود ايضا الى شخصية القائد وهي النوع الثالث من السلطة الخالصة. بالنسبة لكوجيف يرى من الضروري للدولة ان تكون لديها مرحلة من العلاقات بين السيد-العبد. ان مفهوم سلطة القائد طُور اول مرة من جانب ارسطو. كوجيف يرى ان القائد يتضمن اشخاصا مثل قارئ الكف، النبي، الكاهن والموجّه، المشرف، السيد على التلاميذ (ص19-23). ان سلطة القائد ترتكز على خطة موجهة نحو المستقبل او على فكرة يدعو لها القائد. ورغم ان سلطة القائد ربما تأتي عن طريق الانتخابات، لكن من الضروري ملاحظة ان الانتخابات ذاتها لاتمنح السلطة، وانما السلطة تتجسد سلفا في الشخص المرشح: الانتخابات ببساطة ليست اكثر من إظهار علني لهذه السلطة، ومن الضروري ان لا تلتبس السلطة مع الاشارات الخارجية للإقرار بها.
اما النوع الرابع من السلطة الخالصة هو سلطة القاضي، التي يضعها كوجيف في خط واحد مع نظرية افلاطون في العدالة. يرى افلاطون ان السلطة التي لا ترتكز على العدالة هي زائفة، واي سلطة غير "السلطة كعدالة" هي ليست أكثر من قوة قمعية.
ان اي نوع منفرد من الانواع الاربعة للسلطة لا يعطي تفسيرا تاما للسلطة لأن كل نوع تطور في الاصل كطريقة لوصف عالمي للسلطة. لكن انطولوجيا هيجل في السلبية والكلية ركزت فقط على سلطة السيد بنفس الطريقة التي اتبعها ارسطو في تفسير سلطة القائد (ص57)، او الطريقة التي اتبعها التدريسيون وافلاطون في فهم النوعين الاخرين من السلطة. لكن النظرية التامة للسلطة يجب ان تتناول جميع الانواع الاربعة مجتمعة.
السلطة والدولة
حاول كوجيف فهم الكيفية التي تعمل بها الدولة بدون السلطة الدينية وسلطة الاب. هو يبدأ بمهاجمة "نظرية العقد الاجتماعي"- الفكرة بانه لكي يتمتع افراد المجتمع بفوائد هذا المجتمع فان اعضاء المجتمع يدخلون باتفاق غير مكتوب لطاعة القوانين السائدة فيه. جان جاك روسو في عقده الاجتماعي (1762) ومن خلال فكرة الرغبة العامة يعطي الاكثرية نوعا من السلطة تمنح الافضلية لعموم المجتمع على حساب اجزاءه. يرى كوجيف ان نظرية العقد الاجتماعي ترتكز على فكرة ان المجتمع متأسس على واقعه المادي (الاقتصادي)، والذي بدوره يعني ان المجتمع مرتكز على خصائص وراثية ويمتلك في ظل الاضطهاد سلطة الاب.
في الحقيقة، فكرة السلطة المنطوية على الرغبة العامة لروسو هي سلطة الاب مندمجة مع سلطة القاضي. يرى كوجيف ان نظرية العقد الاجتماعي ترتكز على اندماجية الاب والقاضي، لكنها لم تتطرق الى سلطة القائد. كوجيف يفضل القائد على الرغبة العامة التي يراها لاتزال مرتبطة بالتقاليد وتسعى للحفاظ على هوية الجماعة.
يسعى كوجيف الى إبطال ثلاثة مظاهر لنظرية العقد الاجتماعي:
1- هو يريد ادخال دورا جديدا لسلطة السيد والقائد في المجتمع.
2- صراع السيد حتى الموت يقود الى الثورة او الحرب، وبهذا فان مرحلة جديدة من علاقات السيد-العبد هي ضرورية للمجتمع. سلطة روسو في الرغبة العامة تفتقر الى صراع السيد تجاه عبده.
3- احد اخطار نظرية العقد الاجتماعي هي اننا لو قبلنا سلطة الاكثرية فان سلطة القاضي ستختفي.
في الحقيقة، ان القاضي يضع نفسه بالضد من سلطة الانواع الثلاثة لأنها اذا كانت عادلة فسوف لن تكون هناك حاجة للقاضي (ص51). في القسم الميتافيزيقي من السلطة، لاحظ كوجيف ان كل الاشكال المؤقتة للسلطة وُضعت ضد اسلوبها الديني الأبدي، لأنه طبقا لتعريفه للسلطة، فان كل السلطات يجب ان تُشتق من حالة يكون فيها رد الفعل المضاد غير ممكن. لذا فان مصدر سلطة القاضي، مثلما سلطة الاب، هو خارج الزمن. القادة التوتاليريون مثل ستالين وهتلر ليس لديهم السلطة الابدية للاب ماعدا السلطة المؤقتة للقائد، ولكن لسوء الحظ ان سلطة القاضي لم تُحدث اي تأثير فيهما. هما قد لا يمتلكان سلطة ابدية لكنهما يمتلكان السيادة من خلال رؤيتهما للمستقبل.
ان القائد ينال سلطته من خلال الثورة (حتى لو كانت ثورة برجوازية). البرجوازية تريد ان تنسى اصولها لكي تتخلى عن ماضيها المشين، وبهذا هي تزيح سلطة الاب (ص64) عبر التخلص من حكم الاقلية والكنيسة: "ازاحة سلطة الاب تكتسب سمة ثورية اكيدة": النظرية "المؤسسية"تولد من روح الثورة والتمرد وتخلق الثورة "البرجوازية" بقدر ما تستطيع"(ص64). هذه الفكرة عن الثورة البرجوازية يجب اعتبارها كتطوير كوجيفي لفكرة هيجل عن نهاية التاريخ والانسان الاخير. الازاحة تقود الى سلطة القائد والى عصر هيمنة البرجوازية واهتمامها فقط في الحاضر(هذا يفسر اهتمام البرجوازية الكبير في الطعام والجنس). ولكن في النهاية هذا الحاضر يفشل لأنه لا يمتلك ماضي ولا مستقبل.
ما الذي يتبقى من السلطة بعد الازاحة – السلطة التي حُرمت من عنصر "الاب"؟ كوجيف يلاحظ ان نوع "السيد والقاضي" يعطينا الشكل اللينيني البلشفي للسلطة، بينما نوع "القائد/القاضي"يعطينا النسخة الهتلرية، فيما تشكل الامبريالية البرجوازية "القاضي والقائد"(ص68).
مشكلة اخرى تبرز في سياق ازاحة سلطة الاب هي انه عند ازالة عنصر الاب فان القاضي ينصّب نفسه ضد السادة، هذا يؤدي الى العودة لـ "عدالة الطبقة". ايّ ثورة بدون استقرار القائد والسيد والقاضي فانها محكوم عليها بالفشل لأنها لا تمتلك توازنا. هذه الحاجة للتوازن تتضح في قول كوجيف:"ان سلطة القائد المعزولة عن سلطة السيد تأخذ سمة "طوباوية": التشريع المنفصل عن التنفيذ يشكل يوتوبيا ليس لها اي ارتباط بالحاضر (اي يمكن القول انها تفشل في استمرارية عملها في الحاضر)، وانه في انحداره يسحب معه وبقوة السلطة التي انتجته – ومعها، الدولة ذاتها في شكلها "المنفصل"(ص75).
ان الحل الذي يعرضه كوجيف لمشكلة التوازن في السلطة والذي يمكن قراءته كمقاربة للموقف في فيشي الفرنسية تحت الاحتلال النازي يسميه الثورة الوطنية. هذه الرؤية الموجهة للثورة من القائد هي ليست طوباوية لانها ضد الحاضر وترفض اعادة استخدام الماضي المجيد. لكن يجب عدم اعتبار هذه الرؤية للثورة مشابهة لثورة المارشال بيتان في ظل نظام حكومة فيشي (2) صاحبة شعار"العمل، العائلة، ارض الاب". فكرة بيتان للثورة مخالفة لرؤية كوجيف لأنها بقيت مكبلة بسلطة الماضي وبنموذج الاب. وفي نفس الوقت، حقيقة ان كوجيف يؤيد دولة قائمة على نموذج سلطة"السيد-القائد" يعني ان الدولة يجب ان تتأسس على ديالكتيكية السيد-العبد: اي على الثورة. لكن مظهرا تقدميا يتجسد حين يضع سلطة اعلان الحرب بيد ما يسميه "جمعية حقيقية" – كونغرس – كهيئة مؤلفة من اشخاص- وبهذا لا تختلف كليا عن سلطة الافراد المؤثرين.
اضف تعليق