يُعد كتاب الغارات من أهم الكتب والمصادر في التاريخ الإسلامي، فقد تناول حقبة من أهم حقب تاريخه وأكثرها ديناميكية، فهو يسلط الضوء على مرحلة خلافة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وما رافقتها من أحداث ومعارك وما واجهته من فتن ومؤامرات ودسائس وغارات من قبل أعوان معاوية كما يسلط الضوء على أهم شخصيات تلك الفترة ومواقفها إزاء تلك الأحداث.
فهذا الكتاب يُعد منبعاً من منابع التاريخ الإسلامي والعربي تدفّق على يد علم من أعلام الأمة الإسلامية، ومفخرة من مفاخر مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، فهو كتاب شامل يجمع بين دفتيه المعلومة التاريخية والقصة والحادثة والحديث والسيرة والخطب وكل ما جرى في تلك المرحلة من الأمور بالتفصيل.
أما مؤلفه فهو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي الكوفي الإصبهاني الشيعي (رضي الله عنه) المتوفى سنة (283هـ)
كتب تنقل الحقيقة
اعتمدت امهات المصادر الشيعية والسنية على هذا الكتاب كونه من أوائل ما ألف عن تلك الفترة وكون مؤلفه من الثقات وخاصة عند الشيعة حتى صار هذا الكتاب من أهم المصادر التي اعتمدتها الكتب الشيعية، فلا يكاد كتاب لهم يتناول تاريخ تلك الفترة يخلو من النقل والأخذ برواياته، ومن أهم الكتب التي اعتمدت اعتماداً كبيراً عليه ونقلت عنه بدون واسطة:
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، الكافي للكليني، المحاسن لأبي جعفر أحمد بن محمد بن خالد البرقي، بصائر الدرجات لأبي جعفر محمد بن الحسن الصفار، الصدوق في كل كتبه، الأمالي، والإرشاد للمفيد، التهذيب للطوسي وكذلك اعتمد عليه في كل كتبه، الشافي للسيد الشريف المرتضى، تفسير القمي لعلي بن إبراهيم القمي، كامل الزيارات لابن قولويه، الأمالي للطوسي، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب في المناقب الذي اعتمد عليه اعتماداً كلياً، إعلام الورى للطبرسي، اليقين للسيد ابن طاووس، فرحة الغري للسيد عبد الكريم بن طاووس، بشارة المصطفى لأبي جعفر محمد بن محمد بن علي الطبري الشيعي، الخرائج والجرائح للقطب الراوندي، مختصر البصائر للحسن بن سليمان الحلي، بحار الأنوار للمجلسي،الوسائل وإثبات الهداة للحر العاملي، المستدرك ونفس الرحمن للمحدث النوري، سفينة البحار للمحدث القمي، تحف العقول لابن شعبة الحراني، نهج البلاغة جمع الشريف الرضي.
وقد اكتفى كل هؤلاء بالنقل المباشر عن الغارات دون ذكر السند والوسائط
وأما الكتب التي نقلت عن الغارات بواسطة فهي كثيرة منها:
الدرجات الرفيعة لصدر الدين عالي خان الشيرازي، منهاج البراعة على نهج البلاغة شرح الحاج ميرزا حبيب الله الخوئي، ناسخ التواريخ لمحمد تقي لسان الملك المستوفي، (جمهرة رسائل العرب) و(جمهرة خطب العرب) لأحمد زكي صفوت الذي نقل ما نقله ابن أبي الحديد عن الغارات، الغدير في الكتاب والسنة والأدب للشيخ عبد الحسين الأميني الذي صرح بنقله عن الثقفي عن طريق ابن أبي الحديد في أكثر من موضع من كتابه، أحاديث عائشة للسيد مرتضى العسكري، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة لأبي جعفر محمد باقر المحمودي المرودشتي الشيرازي الذي صرح بنقله عن الثقفي عن طريق المجلسي في البحار وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة والمحقق المدني في الدرجات الرفيعة وأنساب الأشراف للبلاذري
صدى الكتاب
ويقول الشيخ العلامة المحقق آغا بزرك الطهراني في الذريعة (ج16):
(كتاب الغارات لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي نزيل إصفهان المتوفى سنة 283، ذكره النجاشي، وكان نسخة منه عند المجلسي وينقل عنه في البحار، وحصل عند شيخنا النوري فاستنسخه بخطه، ويوجد أيضا في مكتبة راجه، فيض آباد الماري).
كما ذكره الطوسي في الفهرست
وقال المجلسي في الفصل الأول من مقدمة البحار في حديثه عن المصادر التي أخذ عنها في كتابه البحار (ج1، ص9، س5):
(وكتاب الغارات لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي).
وقال في الفصل الثاني الذي في بيان الوثوق على الكتب المذكورة في الفصل السابق واختلافها في ذلك ما نصه (ص 14، س 14):
(وكتاب الغارات مؤلفه من مشاهير المحدثين وذكره النجاشي والشيخ ــ يقصد الطوسي ــ وعدا من كتبه كتاب الغارات ومدحاه وقالا: إنه كان زيدياً ثم صار إمامياً، وروى السيد بن طاووس أحاديث كثيرة من كتبه وأخبرنا بعض أفاضل المحدثين أنه وجد منه نسخة صحيحة معربة قديمة كتبت قريبا من زمان المصنف وعليها خط جماعة من الفضلاء وأنه استكتبه منها فأخذنا منه نسخة وهو موافق لما أخرج منه ابن أبي الحديد وغيره).
وقال الحر العاملي في الوسائل في الفائدة الثانية عشرة من فوائد الخاتمة (ج3، ص526):
(إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي كوفي ممدوح كان زيدياً ثم قال بالإمامة له كتب قاله الشيخ والنجاشي والعلامة).
وقال أيضا في خاتمة الوسائل (ج 3، ص 521، س 36):
(الفائدة الرابعة في ذكر الكتب المعتمدة التي نقلت منها أحاديث هذا الكتاب وشهد بصحتها مؤلفوها وغيرهم وقامت القرائن على ثبوتها وتواترت عن مؤلفيها أو علمت صحة نسبتها إليهم بحيث لم يبق فيها شك ولا ريب كوجودها بخطوط أكابر العلماء وتكرر ذكرها في مصنفاتهم وشهادتهم بنسبتها وموافقة مضامينها لروايات الكتب المتواترة أو نقلها بخبر واحد محفوف بالقرينة وغير ذلك وهي كتاب الكافي تأليف الشيخ الجليل ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني - رضي الله عنه - ....... وكتاب الغارات لإبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي...).
وقال في هداية الأمة إلى أحكام الأئمة من فوائد الخاتمة ما نصه:
(الفائدة) الثانية في ذكر جملة من الكتب التي نقلت منها أحاديث هذا الكتاب وقد ذكرتها كلها أو أكثرها في الكتاب الكبير وفي الفهرست وهي تقارب مائة كتاب، وأذكر منها هنا ما صنف في زمان ظهور الأئمة عليهم السلام وفي زمان الغيبة الصغرى فإنها من جملة زمان ظهورهم عليهم السلام، لوجود السفراء بين الشيعة والإمام ولمشاهدة جماعة كثيرين من الشيعة له عليه السلام، ولوجود الثقات الذين كانت ترد عليهم التوقيعات من صاحب الزمان، ولتمكنهم من السؤال عن أحوال الكتب والأحاديث وسائر الأحكام، فمن تلك الكتب المعتمدة كتاب الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني..... ومنها كتاب الغارات للثقة الجليل إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي).
وقال في كتابه إثبات الهداة (ج 1، 274) في موارد من الغارات ووثقه بقوله: (وروى الثقة الجليل إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي في كتاب الغارات....)
وقال أيضا في كتاب (الايقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة) (ص 45) (ومما يدل على ذلك كثرة المصنفين الذين رووا أحاديث الرجعة في مصنفات خاصة بها أو شاملة لها وقد عرفت من أسماء الكتب التي نقلنا منها ما يزيد على سبعين كتاباً قد صنفها عظماء علماء الإمامية كثقة الإسلام الكليني ورئيس المحدثين ابن بابويه ورئيس الطائفة أبي جعفر الطوسي والسيد المرتضى والنجاشي والكشي والعياشي..... وأبي منصور الطبرسي وإبراهيم بن محمد الثقفي ومحمد بن العباس بن مروان والبرقي وابن شهرآشوب....)
الكتاب
تضمن الكتاب ــ كما لخص مضامينه وأبوابه وفصوله صاحبه في مقدمة الفصل الأول ــ (خبر علي - عليه السلام - ومعاوية بن أبي سفيان وأهل الشام بعد حرب الخوارج، واستنفار علي بن أبي طالب - عليه السلام - أهل العراق، وسيره، وأموره، وكلامه، وغارات معاوية على أعماله، بعد النهروان إلى حين مقتله عليه الصلاة والسلام).
فالكتاب لم يقتصر على ذكر الغارات رغم أنه استعرضها بالتفصيل، بل نقل أغلب الأحداث التي رافقت خلافة الإمام علي (عليه السلام) وقد قسمه المؤلف إلى جزئين وقد ابتدأ المؤلف الجزء الأول بذكر خطبته (عليه السلام) بالنهروان وهي تتضمن إخباره بالفتن التي تقع بعده.
قوله (عليه السلام) سلوني
افتتح المؤلف الكتاب بهذه الخطبة التي بين فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) حال الأمة وما يجري عليها من الفتن وخاصة الفتنة الأموية ومنها قوله: (أيها الناس أما بعد أنا فقأت عين الفتنة ولم يكن ليفقأها أحد غيري ولو لم أك فيكم ما قوتل أصحاب الجمل وأهل النهروان، وأيم الله لولا أن تنكلوا وتدعوا العمل لحدثتكم بما قضى الله على لسان نبيكم صلى الله عليه وآله لمن قاتلهم مبصرا لضلالتهم عارفا للهدى الذي نحن عليه. ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني إني ميت أو مقتول بل قتلا، ما ينتظر أشقاها أن يخضبها من فوقها بدم ــ وضرب بيده إلى لحيته ــ والذي نفسي بيده لا تسألوني عن شئ فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تضل مائة أو تهدى مائة إلا نبأتكم بناعقها وسائقها.....)
بنو أمية
فقام إليه رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين حدثنا عن الفتن، قال:
(إن الفتن إذا أقبلت شبهت وإذا أدبرت نبهت، يشبهن مقبلات ويعرفن مدبرات، إن الفتن تحوم كالرياح يصبن بلدا ويخطئن أخرى، ألا إن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية، إنها فتنة عمياء مظلمة مطينة عمت فتنتها وخصت بليتها، وأصاب البلاء من أبصر فيها، وأخطأ البلاء من عمي عنها، يظهر أهل باطلها على أهل حقها، حتى يملأ الأرض عدوانا وظلما وبدعا، وإن أول من يضع جبروتها ويكسر عمدها وينزع أوتادها الله رب العالمين، وأيم الله لتجدن بني أمية أرباب سوء لكم بعدي كالناب الضروس تعض بفيها وتخبط بيديها وتضرب برجليها وتمنع درها، لا يزالون بكم حتى لا يتركوا في مصركم إلا تابعا لهم أو غير ضار، ولا يزال بلاؤهم بكم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلا مثل انتصار العبد من ربه، إذا رآه أطاعه وإذا توارى عنه شتمه، وأيم - الله لو فرقوكم تحت كل حجر لجمعكم الله لشر يوم لهم، ألا إن من بعدي جماع شتى، ألا إن قبلتكم واحدة، وحجكم واحد، وعمرتكم واحدة، والقلوب مختلفة، ثم أدخل أصابعه بعضها في بعض.....)
أهل البيت (عليهم السلام) أمان أهل الأرض
فقام رجل فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين؟
قال: هذا هكذا، يقتل هذا هذا، ويقتل هذا هذا، قطعا جاهلية ليس فيها هدى ولا علم يرى، نحن أهل البيت منها بمنجاة ولسنا فيها بدعاة.
فقام رجل فقال يا أمير المؤمنين: ما نصنع في ذلك الزمان؟
قال: انظروا أهل بيت نبيكم فإن لبدوا فالبدوا وإن استصرخوكم فانصروهم توجروا، ولا تسبقوهم فتصرعكم البلية.
فقام رجل آخر فقال: ثم ما يكون بعد هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: ثم إن الله تعالى يفرج الفتن برجل منا أهل البيت كتفريج الأديم، بأبي ابن خيرة الإماء يسومهم خسفا ويسقيهم بكأس مصبرة، فلا يعطيهم إلا السيف هرجا هرجا، يضع السيف على عاتقه ثمانية أشهر، ودت قريش عند ذلك بالدنيا وما فيها لو يروني مقاما واحدا قدر حلب شاة أو جزر جزور لأقبل منهم بعض الذي يرد عليهم حتى تقول قريش: لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا، فيغريه الله ببني أمية فيجعلهم ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا....)
المنافقون
ثم يذكر الثقفي المنافقين الذين أضمروا العداء لأمير المؤمنين في الكوفة وهم غني وباهلة الذين قال لهم (عليه السلام): يا باهلة اغدوا خذوا حقكم مع الناس، والله يشهد أنكم تبغضوني وأنى أبغضكم.
وينوه المؤلف من خلال شرحه للخطب إلى فضائل أمير المؤمنين على لسان النبي (صلى الله عليه وآله والصحابة ثم يذكر المؤلف خطبته (عليه السلام) لما تقاعس أصحابه عن قتال أهل الشام بعد فراغه من حرب النهروان ومسكن ومنها:
يا معشر المهاجرين ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين فتلكؤا وقالوا: البرد شديد، وكان غزاتهم في البرد، فقال عليه السلام: إن القوم يجدون البرد كما تجدون.
قال: فلم يفعلوا وأبوا، فلما رأى ذلك منهم قال: أف لكم إنها سنة جرت عليكم. يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين فاعتلوا عليه فقال: أف لكم إنها سنة جرت. إن عدوكم يألمون كما تألمون ويجدون البرد كما تجدون، فأعيوه وأبوا، فلما رأى كراهيتهم رجع إلى الكوفة وأقام بها أياما وتفرق عنه ناس كثير من أصحابه، فمنهم من أقام يرى رأي الخوارج، ومنهم من أقام شاكا في أمره.
في استنفاره - عليه السلام - الناس
ويستعرض المؤلف كثيرا من خطبه وأحاديثه (عليه السلام) في هذا الجانب ومنها قوله: (يا أهل الكوفة والله لتجدن في الله ولتقاتلن على طاعته أو ليسوسنكم قوم أنتم أقرب إلى الحق منهم فليعذبنكم وليعذبنهم الله).
ولما تفرق الناس عنه (عليه السلام) بالنخيلة ودخل الكوفة جعل يستنفرهم على جهاد أهل الشام حتى بطلت الحرب تلك السنة.
ومن خطبه (عليه السلام) قوله: (يا أيها الناس استعدوا إلى عدو في جهادهم القربة من الله وطلب الوسيلة إليه، حيارى عن الحق لا يبصرونه، وموزعين بالكفر والجور لا يعدلون به، جفاة عن الكتاب، نكب عن الدين، يعمهون في الطغيان، ويتسكعون في غمرة الضلال، فأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل وتوكلوا على الله وكفى بالله وكيلا وكفى بالله نصيرا).
فلم ينفروا ولم ينتشروا، فتركهم أياما حتى أيس من أن يفعلوا، فدعا رؤوسهم ووجوههم فسألهم عن رأيهم وما الذي يثبطهم، فمنهم المعتل ومنهم المنكر وأقلهم النشيط فقام فيهم ثانية فقال:
(عباد الله ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ثوابا؟ وبالذل والهوان من العز - خلفا؟! أوكلما ناديتكم إلى الجهاد دارت أعينكم كأنكم من الموت في سكرة يرتج عليكم فتبكمون، فكأن قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون، وكأن أبصاركم كمه فأنتم لا تبصرون، لله أنتم!؟ ما أنتم إلا أسود الشرى في الدعة وثعالب رواغة حين تدعون، ما أنتم بركن يصال به، ولا زوافر عز يعتصم إليها، لعمر الله لبئس حشاش نار الحرب أنتم، إنكم تكادون ولا تكيدون، وتنتقص أطرافكم ولا تتحاشون، ولا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون، إن أخا الحرب اليقظان، أودى من غفل، ويأتي الذل من وادع، غلب المتخاذلون والمغلوب مقهور ومسلوب.
أما بعد فإن لي عليكم حقا ولكم على حق، فأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصح لي في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم، وإن حقكم علي النصيحة لكم ما صحبتكم، والتوفير عليكم، وتعليمكم كيلا - تجهلوا، وتأديبكم كي تعلموا، فإن يرد الله بكم خيرا تنزعوا عما أكره وترجعوا إلى ما أحب، تنالوا ما تحبون وتدركوا ما تأملون.......)
(والعجب منكم ومن أهل الشام إن أميرهم يعصي الله وهم يطيعونه، وإن أميركم يطيع الله وأنتم تعصونه..! إن قلت لكم: انفروا إلى عدوكم قلتم: القر يمنعنا، أفترون عدوكم لا يجدون القر كما تجدونه؟ ولكنكم أشبهتم قوما قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وآله - انفروا في سبيل الله فقال كبراؤهم: لا تنفروا في الحر فقال الله لنبيه: قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون، والله لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بحذافيرها على الكافر ما أحبني، وذلك أنه قضى ما قضى على لسان النبي الأمي إنه لا يبغضك مؤمن ولا يحبك كافر، وقد خاب من حمل ظلما وافترى.
يا معاشر أهل الكوفة والله لتصبرن على قتال عدوكم أو ليسلطن الله عليكم قوما أنتم أولى بالحق منهم، فليعذبنكم وليعذبنهم الله بأيديكم أو بما شاء من عنده، أفمن قتلة بالسيف تحيدون إلى موتة على الفراش؟! فاشهدوا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله - يقول: موتة على الفراش أشد من ضربة ألف سيف.
سيرته - عليه السلام - في المال
وفي هذا الجانب يتناول المؤلف سياسته في المال والتي جعلت الوصوليين والانتهازيين يتمردون على هذه السياسة يقول الثقفي:
(أن عليا - عليه السلام - كان يكنس بيت المال كل يوم جمعة ثم ينضحه بالماء ثم يصلي فيه ركعتين ثم يقول: تشهدان لي يوم القيامة).
وكان (عليه السلام) يقول: كان خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله لا يحبس شيئا لغد وكان أبو بكر يفعل، وقد رأى عمر بن الخطاب في ذلك أن دون الدواوين وأخر المال من سنة إلى سنة، وأما أنا فأصنع كما صنع خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
ويقول: اشهد لي يوم القيامة أني لم أحبس فيك المال على المسلمين.
ويروي أيضا: (أتى عليا عليه السلام مال من إصفهان فقسمه فوجد فيه رغيفاً فكسره سبع كسر ثم جعل على كل جزء منه كسرة ثم دعا أمراء الأسباع فأقرع بينهم أيهم يعطيه أولا وكانت الكوفة يومئذ أسباعا).
ويروي أيضا عن أحدهم انطلقت مع قنبر إلى علي عليه السلام فقال:
قم يا أمير المؤمنين فقد خبأت لك خبيئة قال: فما هو؟ - قال: قم معي، فقام وانطلق إلى بيته فإذا بأسنة مملوءة جامات من ذهب وفضة، فقال: يا أمير المؤمنين إنك لا تترك شيئاً إلا قسمته فادخرت هذا لك، قال علي عليه السلام: لقد أحببت أن تدخل بيتي ناراً كثيرة، فسل سيفه فضربها، فانتثرت من بين إناء مقطوع نصفه أو ثلثه. ثم قال: اقسموه بالحصص، ففعلوا، فجعل يقول:
هذا جناي وخياره فيه * إذ كل جان يده إلى فيه
يا بيضاء غري غيري، ويا صفراء غري غيري.
.....وقد أخرج علي (عليه السلام) سيفاً له فقال: من يشتري سيفي هذا مني؟ فوالذي نفسي بيده لو أن معي ثمن إزار لما بعته.
قال أبو رجاء فقلت له: يا أمير المؤمنين أنا أبيعك إزارا وأنسئك ثمنه إلى عطائك، فبعته إزاراً إلى عطائه، فلما قبض عطاءه أعطاني حقي.
ويروي كذلك الكثير من هذه القصص ومنها قصته (عليه السلام) مع أخيه عقيل وغيرها.....
وكان علي - عليه السلام - يقول:
يا أهل الكوفة إذا أنا خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن، وكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة من ينبع وكان يطعم الناس الخبز واللحم ويأكل من الثريد بالزيت ويكللها بالتمر من العجوة، وكان ذلك طعامه.
وروي أيضا (إن امرأتين أتتا عليا (عليه السلام) عند القسمة إحداهما من العرب والأخرى من الموالي، فأعطى كل واحدة خمسة وعشرين درهما وكرا من طعام، فقالت العربية: يا أمير المؤمنين إني امرأة من العرب وهذه امرأة من العجم؟! فقال علي - عليه السلام -: إني والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيئ فضلا على بني إسحاق.
وصاياه إلى عماله
توسع المؤلف في هذا الجانب وذكر الكثير من الوصايا التي أوصاها (عليه السلام) عماله إلى البلاد واخترنا منها هذه الوصية إلى أحدهم وقد أمره ((أن لا يحولن بين ناقة وفصيلها ولا يفرقن بينهما، ولا يمصر لبنها فيضر ذلك بفصيلها))!!:
(عليك يا عبد الله بتقوى الله، ولا تؤثرن دنياك على آخرتك، وكن حافظاً لما ائتمنتك عليه، راعياً لحق الله حتى تأتى نادى بني فلان، فإذا قدمت عليهم فانزل بفنائهم من غير أن تخالط أبنيتهم ثم امض إليهم بسكينة ووقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم ولا تخدج بالتحية لهم فتقول: يا عباد الله أرسلني إليكم ولي الله لآخذ منكم حق الله فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟ فإن قال قائل منهم: لا فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه، ولا تعده إلا خيرا حتى تأتي ماله فلا تدخله إلا بإذنه، فإن أكثره له، وقل له: يا عبد الله أتأذن لي في دخول ذلك؟ - فإن أنعم فلا تدخله دخول المسلط عليه فيه ولا عنيف به، واصدع المال صدعين فخيره أي الصدعين شاء، فأيهما اختار فلا تتعرض له واصدع الباقي صدعين، فلا تزال حتى يبقى حق الله في ماله فاقبضه، فإن استقالك فأقله ثم اخلطها ثم اصنع مثل الذي صنعت حتى تأخذ حق الله في ماله، فإذا قبضته فلا توكل به إلا ناصحاً مسلماً مشفقاً أميناً حافظاً غير معنف بشئ منها ثم احدر ما اجتمع عندك من كل ناد إلينا نضعه حيث أمر الله به، فإذا انحدر بها رسولك فأوعز إليه أن لا يحولن بين ناقة وفصيلها ولا يفرقن بينهما، ولا يمصر لبنها فيضر ذلك بفصيلها، ولا يجهدنها ركوبا وليعدل بينهن في ذلك، وليوردها كل ماء يمر به ولا يعدل بهن عن نبت الأرض إلى جواد الطرق في الساعات التي تريح وتعنق، وليرفق بهن جهده حتى يأتيننا بإذن الله سمانا غير متعبات ولا مجهدات، فيقسمن على كتاب الله وسنة نبيه، فإن ذلك أعظم لأجرك وأقرب لرشدك فينظر الله وإليك وإلى جهدك ونصيحتك لمن بعثك وبعثت في حاجته، وأن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ما نظر الله إلى ولي يجهد نفسه لإمامه بالطاعة والنصيحة إلا كان معنا في الرفيق الأعلى.
وقد استرسل المؤلف في كثير من جوانب علمه (عليه السلام) في أمور شتى وأجوبته على المسائل المستعصية وصفة النبي (صلى الله عليه وآله وصفة الرب ومكانة الصحابة كل حسب إيمانه كما تضمن هذا الفصل أجوبته عن الآيات القرآنية والكواكب والمجرات والظاهر الطبيعية والملائكة وليلة القدر ورسائله إلى معاوية التي تضمنت حججه البالغة في قيادة الأمة وإنه أولى الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله)
خبر مصر
ثم يدخل المؤلف في الأحداث الكبيرة التي مهدت الأرضية لمعاوية لشن غاراته على الأمصار التي ضمن دولة الإمام علي (عليه السلام) ويبدأ بخبر مصر فيقول:
أن محمد بن أبي حذيفة هو الذي حرض المصريين على قتل عثمان وطرد عبد الله بن أبي سرح عامل عثمان يومئذ على مصر وصلى بالناس فخرج ابن أبي سرح من مصر ولما سمع بمقتل عثمان التحق بمعاوية وولى أمير المؤمنين قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري على مصر وكان قيس بن سعد من أخلص أصحاب أمير المؤمنين ثم ولى عليها محمد بن أبي بكر وأمره (بتقوى الله والطاعة له في السر والعلانية، وخوف الله في المغيب والمشهد، وأمره باللين للمسلم وبالغلظة على الفاجر، وبالعدل على أهل الذمة، وبالإنصاف للمظلوم، وبالشدة على الظالم، وبالعفو عن الناس، وبالاحسان ما استطاع، والله يجزي المحسنين ويعذب المجرمين).
كما كتب إليه جوامع من الحرام والحلال والسنن والمواعظ، فكتب عما يحتاجه من القضاء، وذكر الموت، والحساب، وصفة الجنة والنار، والإمامة، والوضوء، ومواقيت الصلاة، والركوع والسجود، والأدب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصوم والاعتكاف، والزنادقة، وأشياء كثيرة في أمور شتى هي غاية في العلم والأدب....
فلما قتل محمد بن أبي بكر واستولى عمرو بن العاص على مصر أخذ هذه الكتب وبعث بها إلى معاوية بن أبي سفيان، وكان معاوية ينظر في هذا الكتاب ويعجبه، فقال الوليد بن عقبة وهو عند معاوية لما رأى إعجاب معاوية به، مر بهذه الأحاديث أن تحرق، فقال له معاوية: مه، يا ابن أبي معيط إنه لا رأي لك، فقال له الوليد: إنه لا رأي لك، أفمن الرأي أن يعلم الناس أن أحاديث أبي تراب عندك؟! تتعلم منها وتقضي بقضاءه؟!
فعلام تقاتله؟! فقال معاوية: ويحك أتأمرني أن أحرق علما مثل هذا؟! والله ما سمعت بعلم أجمع منه ولا أحكم ولا أوضح، فقال الوليد: إن كنت تعجب من علمه وقضائه فعلام تقاتله؟ - فقال معاوية: لولا أن أبا تراب قتل عثمان ثم أفتانا لأخذنا عنه، ثم سكت هنيئة ثم نظر إلى جلسائه فقال: إنا لا نقول: إن هذه من كتب علي بن - أبي طالب ولكنا نقول: إن هذه من كتب أبي بكر الصديق كانت عند ابنه محمد فنحن نقضي بها ونفتي.
فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني أمية حتى ولى عمر بن عبد العزيز فهو الذي أظهر أنها من أحاديث علي بن أبي طالب (عليه السلام).
فلما بلغ علي أبي طالب عليه السلام أن ذلك الكتاب صار إلى معاوية اشتد ذلك عليه.
مقتل محمد بن أبي بكر
لم يجترئ المنافقون على محمد بن أبي بكر حتى قامت صفين التي أولدت الخوارج بمكيدة ابن العاص فتمردوا وثاروا بدعوى الطلب بدم عثمان فبعث إليهم رجلا للمفاوضة فقتلوه ثم بعث إليهم رجلا من كلب فقتلوه أيضا. ثم أرسل أمير المؤمنين الأشتر فسمه مولى لمعاوية في الطريق إليها ودخل عمرو بن العاص مصر بعد أن قتل محمد بن أبي بكر وكان ابن العاص قد بايع معاوية على قتال علي بن أبي طالب عليه السلام وأن له مصر طعمة ما بقي
يشير المؤلف إلى أن معاوية لم يجرؤ على إرسال ابن العاص إلى مصر لولا تفرق الناس عن علي عليه السلام وتخاذلهم وتقاعسهم فما إن دخل عمرو حتى اجتمعت إليه العثمانية فقتل محمد وألقي في جوف حمار وأحرق بالنار.
ولما بلغ خبر مقتل محمد إلى أمير المؤمنين قال: (أما بعد فهذا صريخ محمد بن أبي بكر وإخوانكم من أهل مصر وقد سار إليهم ابن النابغة عدو الله وعدوكم، فلا يكونن أهل الضلال إلى باطلهم والركون إلى سبيل الطاغوت أشد اجتماعا على باطلهم وضلالتهم منكم على حقكم، فكأنكم بهم قد بدؤوكم وإخوانكم بالغزو فاعجلوا إليهم بالمواساة والنصر، عباد الله إن مصر أعظم من الشام خيرا، وخير أهلا فلا تغلبوا على مصر، فإن بقاء مصر في أيديكم عز لكم وكبت لعدوكم اخرجوا إلى الجرعة ـــ والجرعة بين الكوفة والحيرة ــ لنتوافى هناك كلنا غدا إن شاء الله.
فلما كان الغد خرج يمشي فنزلها بكرة فأقام بها حتى انتصف النهار يومه ذلك فلم يوافه منهم مائة رجل فرجع....!
استشهاد الأشتر
إن اختيار المؤلف لرسم أحداث كتابه بعد معركة النهروان إشارة إلى أن الأحداث التي جرت بعد هذه المعركة هي التي بدأت تنهش في جسد الأمة حيث انشق المنافقون عن جيشه ليكونوا جبهة الخوارج وهذا ما حدى بمعاوية لشن الغارات والتربص لكل صغيرة وكبيرة واغتيال أقطاب جيش الإمام علي (عليه السلام) ومنهم الأشتر النخعي (ؤضوان الله عليه) يقول المؤلف: (أن معاوية دس للأشتر مولى لآل عمر، فلم يزل المولى يذكر للأشتر فضل علي وبني هاشم حتى اطمأن إليه واستأنس به، فقدم الأشتر يوما ثقله أو تقدم ثقله فاستسقى ماء فقال له مولى عمر: فهل لك في شربة سويق؟ فسقاه شربة سويق فيها سم فمات، وقد كان معاوية قال لأهل الشام لما دس إليه مولى عمر: ادعوا على الأشتر، فدعوا عليه، فلما بلغه موته قال: ألا ترون كيف استجيب لكم.! ".
ثم ينقل المؤلف قولا عن أحدهم للدلالة على مكانة الأشتر في نفس الإمام (عليه السلام) وهو: (لم يزل أمر علي شديداً حتى مات الأشتر، وكان الأشتر بالكوفة أسود من الأحنف بالبصرة).
غارة النعمان بن بشير الأنصاري على عين التمر
جهز معاوية جيشاً يتكون من ألفي رجل بقيادة النعمان بن بشير الأنصاري للغارة على عين التمر وكان عليها واليا مالك بن كعب الأرحبي من قبل علي (عليه السلام) وأميرا على الجيش الذي سيره إلى مصر لنصرة محمد بن أبي بكر وكان مع مالك ألف رجل وقد أذن لهم فرجعوا إلى الكوفة ولم يبق معه إلا مائة رجل، فكتب إلى علي (ع) يستصرخه فبينما علي (ع) يجهز العسكر له إذ ورد عليه الخبر بهزيمة النعمان ونصرة مالك.
فقد كان مخنف بن سليم على الصدقة لعلي عليه السلام فكان على أرض الفرات إلى أرض بكر بن وائل وما يليهم، وكان قد بعث مالك بن كعب الأرحبي على العين ، فأقبل النعمان بن بشير في ألف رجل حتى أغار على العين فاستعان مالك بن كعب بمخنف بن سليم وكان معه ناس كثير كانوا متفرقين .
فأرسل مخنف ابنه عبد الله مع خمسين رجلا، ولم يوافه يومئذ غيرهم، فلما انتهى إلى مالك بن كعب وهو في مائة والنعمان وأصحابه قاهرون لمالك، فلما رأوه ظنوا أن وراءه جيشاً فانحازوا، فالتقوا وتقاتلوا وحجز الليل بينهم وهم يظنون أن لهم مدداً فانصرفوا.
قتل محمد بن أبي حذيفة
هو أحد المحمدين الاربعة هو احد المحمدين الأربعة الذين قال فيهم أمير المؤمنين (عليه السلام): (أبت المحامد ان يعصى الله) وهم: محمد بن الحنفية ومحمد بن ابي حذيفة ومحمد بن ابي بكر ومحمد بن جعفر الطيار وكان محمد بن أبي حذيفة ابن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس من أصحاب أمير المؤمنين المخلصين وهو ــ ابن خال معاوية ـــ وقد أصيب لما فتح عمرو بن العاص مصر فبعث به إلى معاوية بن أبي سفيان وهو يومئذ بفلسطين، فحبسه معاوية في سجن وهيأ له أسباب الهروب فهرب فأظهر معاوية الناس كرهه لهربه من السجن فقال لأهل الشأم: من يطلبه؟ وقد كان معاوية فيما يرون يحب أن ينجو، فقال رجل من خثعم وكان عثمانيا: أنا أطلبه، فلحقه بحوارين فوجده في غار وكره أن يسلمه إلى معاوية فيخلي سبيله فقتله..
الخريت بن راشد الناجي ومقتله
كان من شياطين الخوارج ورؤوس المنافقين وأعلن تمرده ونفاقه فجاء بعد واقعة صفين إلى علي (عليه السلام) في ثلاثين راكبا من أصحابه وقال له: والله لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك، وإني غدا لمفارق لك.
فقال له علي عليه السلام: ثكلتك أمك، إذا تنقض عهدك، وتعصي ربك، ولا تضر إلا نفسك، أخبرني لم تفعل ذلك؟ - قال: لأنك حكمت في الكتاب وضعفت عن الحق إذ جد الجد، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم، فأنا عليك راد وعليهم ناقم، ولكم جميعا مباين.
فدعاه (عليه السلام) إلى المناظرة في السنن وفتح ما استغلق عليه فواعده إلى الغد ولكنه لم يأت وأعلن عصيانه وسعى ومن معه في الأرض فساداً فقتلوا الناس في الطريق وسلبوهم أموالهم فأرسل (عليه السلام) زياد بن خصفة في أثرهم فاقتتلوا وقد جرح زياد وهرب الخريت وأصحابه، ثم أرسل (عليه السلام) معقل بن قيس في أثر زياد ومعه ألفين من أهل الكوفة.
ونزل الخريت جانباً من الأهواز واجتمع إليه كثير من المنافقين ممن أراد كسر الخراج ومن اللصوص وطائفة أخرى من الأعراب ترى رأيه. فهزمهم معقل وقتل منهم أكثر من أربعمائة رجل رجلا وهرب الخريت يطوف في البلاد وتبعه جماعة من قومه، وهو يدعوهم إلى خلاف علي عليه السلام ويزين لهم فراقه ويخبرهم أن الهدى في فراقه وحربه ومخالفته حتى اتبعه منهم ناس كثير.
فسار إليهم معقل بن قيس في ذلك الجيش من أهل الكوفة وأهل البصرة فأخذوا على أرض فارس حتى انتهوا إليه، فلما سمع الخريت بمسيره أقبل على من كان معه من أصحابه فخدع كل كل صنف منهم بضرب من القول وأراهم أنه على رأيهم وجمعهم بالخديعة والمكر
فأخرج معقل راية أمان فنصبها وقال: من أتاها من الناس فهو آمن إلا الخريت وأصحابه الذين نابذوا أول مرة، فتفرق عن الخريت كل من كان معه من غير قومه، وعبأ معقل بن قيس أصحابه ثم زحف بهم نحو الخريت فقاتله قتالاً شديداً، حتى قتل الخريت وقتل معه في المعركة سبعون ومائة، وذهب الباقون في الأرض يميناً وشمالاً.
غارة عبد الله بن عامر الحضرمي
دعا معاوية هذا المجرم للإستيلاء على البصرة وقد أحدث فيها فتناً بين أهلها وتفرقت كلمتهم فأرسل إليه أمير المؤمنين جارية بن قدامة فتحصن منه ابن الحضرمي بدار تعرف ب (دارسنبيل) فقتله جارية وأخمد الفتنة.
غارة الضحاك بن قيس
دعاه معاوية وقال له : سر حتى تمر بناحية الكوفة وترتفع عنها ما استطعت ، فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي فأغر عليه، وإن وجدت له مسلحة أو خيلا فأغر عليهما، وإذا أصبحت في بلدة فأمس في أخرى، ولا تقيمن لخيل بلغك أنها قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها، فسرحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف.
فأقبل الضحاك يأخذ الأموال ويقتل من لقي من الأعراب حتى مر بالثعلبية فأغار خيله على الحاج فأخذ أمتعتهم ، ثم أقبل فلقي عمرو بن عميس بن مسعود الذهلي وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله فقتله في طريق الحاج وقتل معه ناسا من أصحابه.
فخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الناس وهو يقول على المنبر : يا أهل الكوفة اخرجوا إلى العبد الصالح عمرو بن عميس وإلى جيوش لكم قد أصيب منها طرف ، اخرجوا فقاتلوا عدوكم وامنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين .
ثم دعا حجر بن عدي الكندي فعقد له ثم راية على أربعة آلاف فالتقوا بتدمر فاقتتلوا ساعة فقتل من أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلا وقتل من أصحاب حجر رجلان وحجز الليل بينهم فمضى الضحاك فلما أصبحوا لم يجدوا له ولأصحابه أثرا
غارة سفيان بن عوف الغامدي على الأنبار
دعاه معاوية وبعثه في جيش كثيف وقال له: (فامض حتى تغير على الأنبار ، فإن لم تجد بها جندا فامض حتى تغير على المدائن ثم أقبل إلي ، واتق أن تقرب الكوفة ، واعلم أنك إن أغرت على أهل الأنبار وأهل المدائن فكأنك أغرت على الكوفة ، إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترهب قلوبهم وتجرئ كل من كان له فينا هوى منهم ويرى فراقهم ، وتدعو إلينا كل من كان يخاف الدوائر ، وخرب كل ما مررت به من القرى، واقتل كل من لقيت ممن ليس هو على رأيك، واحرب الأموال ، فإنه شبيه بالقتل وهو أوجع للقلوب.
فخرج في ستة آلاف ودخل الأنبار وكان فيها حوالي مائتي رجل مع حسان بن حسان البكري عامل أمير المؤمنين عليها، وقد بقي مع ثلاثين رجلا وصمموا على الموت فقتلوا جميعا وحمل ما كان في الأنبار من أموال أهلها وانصرف فأرسل (عليه السلام) خلفه سعيد بن قيس الهمداني فخرج في طلبهم حتى جاز هيت فلم يلحقهم فرجع.
وهناك غارات أخرى من قبل أتباع معاوية توسع فيها المؤلف منها غارة بسر بن أرطأة، وغارة عبد الرحمن بن قباذ، وغارة يزيد بن شجرة الرهاوي على أهل مكة وغيرها.....
الأشعث رأس المنافقين
ويفرد المؤلف فصلاً عن كلامه (عليه السلام) في كشف المنافقين وعلى رأسهم الأشعث وقد نعتهم بهذه الخطبة:
(أما بعد أيها الناس فإني قد استنفرتكم فلم تنفروا، ونصحت لكم فلم تقبلوا، فأنتم شهود كغياب ، وصم ذوو أسماع ، أتلو عليكم الحكمة ، وأعظكم بالموعظة الحسنة ، وأحثكم على جهاد عدوكم الباغين ، فما آتي علي آخر منطقي حتى أراكم متفرقين أيادي سبا ، فإذا أنا كففت عنكم عدتم إلى مجالسكم حلقا عزين تضربون الأمثال ، وتتناشدون الأشعار ، وتسألون عن الأخبار ، قد نسيتم الاستعداد للحرب ، وشغلتم قلوبكم بالأباطيل ، تربت أيديكم اغزوا القوم قبل أن يغزوكم ، فوالله ما غزي قوم قط في عقر ديارهم إلا ذلوا ، وأيم الله ما أراكم تفعلون حتى يفعلوا ، ولوددت أني لقيتهم على نيتي وبصيرتي فاسترحت من مقاساتكم ، فما أنتم إلا كابل جمة ضل راعيها كلما ضمت من جانب انتشرت من جانب آخر ، والله لكأني بكم لوقد حمس الوغا وأحم البأس قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرأس وانفراج المرأة عن قبلها .
فقام إليه الأشعث ؟ بن قيس فقال له : يا أمير المؤمنين فهلا فعلت كما فعل ابن عفان
فقال له علي عليه السلام : يا عرف النار ويلك إن فعل ابن عفان لمخزاة على من لا دين له ولا حجة معه ، فكيف وأنا على بينة من ربي والحق في يدي ، والله إن امرءا يمكن عدوه من نفسه يخذع لحمه ويهشم عظمه ويفري جلده ويسفك دمه لضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره ، أنت فكن كذلك إن أحببت ، فأما أنا فدون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفي يطير منه فراش الهام ، وتطيح منه الأكف والمعاصم ، ويفعل الله بعد ما يشاء.
السيرة وعاقبة السوء
ويستعرض المؤلف السيرة السيئة لبعض أعداء أمير المؤمنين كعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، والوليد بن عقبة وكذلك من فارق عليا (عليه السلام) والتحق بمعاوية كيزيد بن حجية، ووائل بن حجر الحضرمي، ومصقلة بن هبيرة الشيباني، والقعقاع بن شور، وطارق بن عبد الله النهدي، والنجاشي الشاعر، والمنذر بن الجارود العبدي، والهجنع عبد الله بن عبد الرحمن، وأبو سمال الأسدي وغيرهم ويذكر أسباب مفارقتهم له لما نزل بقلوبهم من الفتنة والبلاء والركون إلى الدنيا يغدرون ويختانون مال الخراج ويهربون إلى معاوية ومنهم من يوليهم الولايات والأعمال فيأخذون الأموال ويهربون إلى معاوية .
السيرة المضيئة
ثم يستعرض السيرة المضيئة لأصحابه (عليه السلام) المخلصين كصعصعة بن صوحان العبدي والأشتر النخعي، وحجر بن عدي الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، والحارث الأعور الهمداني، وسعيد بن قيس الهمداني وقيس بن سعد الأنصاري وهاشم بن عتبة المرقال وغيرهم....
إن مما يميز كتاب الغارات أنه ألم بكل أحداث ومجريات أهم حقبة من حقب التاريخ الإسلامي وأكثرها صراعا وقد صورها تصويرا دقيقا ومحايدا بعيدا عن ضغوط السلطة والتحيز المذهبي والأهواء الطائفية.
اضف تعليق