كتاب نقاشات لأجل الحرية هو مجموعة من تسع مقالات اصلية لكبار الفلاسفة تتناول التعريف بالنظريات الاخلاقية الكبرى وكيفية استخدامها في بناء نظام سياسي تحرري. في هذه المقالات ينطلق كل كاتب من إطار اخلاقي مختلف. كاتب يستخدم النفعية، آخر يستخدم الفضائل الاخلاقية، ثالث يوظف الحقوق الطبيعية وهكذا. خلاصة الكتاب هو الاعتراف بانه بصرف النظر عن الفلسفة الاخلاقية الاساسية للمرء، فان الحُكم النهائي هو تفضيل الحرية. من ضمن المدارس الفكرية هناك مدرستان سيطرتا على النقاش في الاخلاق: وهما مدرسة النفعية ومدرسة الحقوق الطبيعية. وعلى الرغم من اهمية هاتين النظريتين لكنهما لا يشتملان على مختلف الطرق التي يفكر بها الناس حول الاخلاق والفلسفة السياسية.
في هذا الكتاب نجد اتجاها واسعا في الاخلاق التحررية نادرا ما نجده في اي كتاب آخر. مؤلفو هذا الكتاب يناقشون كيفية حكم المؤسسات السياسية من جانب المدرسة الفكرية التي يفضلونها، بعدها يذكرون لماذا هم يعتقدون ان التحررية هي الافضل في تلبية ذلك الهدف. وعلى الرغم من وصول المؤلفين في النهاية الى نفس النتيجة لكن المسارات التي يتبعونها تتفرع بأساليب ملفتة.
محتويات الكتاب:
اشتمل الكتاب على تسع مقالات:
1- النفعية 2- الحقوق الطبيعية 3- الكانتية 4- التعاقدية 5- الرولسية (نسبة الى جون رولس) 6- الفضائل الاخلاقية 7- الموضوعية 8- الاخلاق المؤسسية 9- التعددية الاخلاقية.
يعرض المؤلفون شروحات واضحة لتفكير ارسطو وتوماس هوبز وجون ستيوارت مل وعمانوئيل كانط واين راند وجون رولس وروبرت نوزك وغيرهم. كتاباتهم صريحة ومتحررة من الرطانة الاكاديمية. نقاشات لأجل الحرية يشكل كتابا ممتازا مشتملا على قراءات مساعدة لكورس دراسي في الفلسفة السياسية. هذا الكورس يمكنه استخدام ملحق آخر من قراءات لفلاسفة يجادلون بالضد من الافكار التحررية سنشير الى بعضها لاحقا في هذه المقالة.
في كتاب نقاشات لأجل الحرية، لكل مؤلف مهمتان. المهمة الاولى توضيح اطاره الاخلاقي المفضل والدفاع عنه، والثانية هي لتبيان ان الاطار الاخلاقي ينطوي على وجهة نظر تحررية.
كريستوفر فريمان يتخذ الموقف النفعي في دفاعه عن الحرية. نقاشه عن الحرية يركز كثيرا على الحرية الاقتصادية بما في ذلك،... حقوق الملكية الخاصة، حرية التبادل، حرية العقود، الدور المركزي للسوق في انتاج وتوزيع السلع، وتقليل التدخلات القسرية في خيارات الناس الشخصية (ص16).
يستنتج فريمان، الفضيلة الكبرى للسوق، من المنظور النفعي، هي انه يقودنا لتعزيز سعادة الاخرين بدون الحاجة لوضع افضليات لسعادتهم او معرفة كيفية جعلهم سعداء. لا توجد مؤسسة مثالية، لكن السوق يقوم بأفضل عمل في استخلاص منافع اجتماعية مما موجود لدى الناس من عرض محدود من العدالة والمعلومات (ص47).
ان المبدأ النفعي في "أعظم خير لأعظم عدد ممكن" ينطوي على بعض المشاكل كما يشير مؤلفون آخرون. اذا كان قتلي وبتر أعضائي لأجل زراعتها لدى آخرين هو الطريقة لتحقيق اعظم خير لأعظم عدد ممكن، عندئذ فان النفعية ستبدو كانها تبررعمل كهذا. لكي نتجنب ذلك، يجب على النفعيين اللجوء الى مستوى مختلف من الجدال. هم ربما يقولون انه اذا كان كل شخص يعيش تحت تهديد القتل لغرض بتر الأعضاء، عندئذ سيكون معظم الناس غير سعداء، ولهذا السبب فان الحكم ضد بتر الاعضاء سيكون نفعيا.
قاعدة النفعية هذه كما تسمى هي مشابهة للضرورات الاخلاقية المطلقة categorical imperative لعمانوئيل كانط (1)، كما فُصّلت في مقال (في هذا الكتاب) للكاتب جاسون كوزنيكي. يقترح كانط اننا نتصرف كما لو ان خيارنا قانونا عالميا للطبيعة. لو ان مثال بتر الاعضاء اصبح قانونا عالميا للطبيعة فيه يمكن ان يُقتل الناس لكي تُبتر اعضائهم، فهذا سيقود الى صراع وخوف مرعبين.
مثال بتر الأعضاء هو توضيح للفرد حين يُستخدم كوسيلة لغايات الآخرين. حين لا اريد عمل شيء ما، ولكن الآخرون يدفعونني للقيام به لكي اخدم غاياتهم، عندئذ انا اُستخدم كوسيلة. كانط اعتقد ان مبدأ معاملة الاخرين كغايات بدلا من وسائل كان متجسدا بعمق في الضرورات الاخلاقية المطلقة. كوزينكي يرى ان هذا الجدال يسير بالضد من سلطة الدولة بسبب... ان الدول تستخدم الناس فقط كوسائل. من المحتمل جدا انهم غير قادرين على عمل شيء آخر. ولكي نتكلم بدقة اكثر، يضع وكلاء الدول اهدافا يرغبون بتحقيقها و يجبرون المواطنين لتحقيقها دون اعتبار لإستقلاليتهم واحترامهم (ص102).
الحجة بان الناس يجب ان لا يُعاملوا كوسائل لغايات الآخرين ترتبط بفلسفة الحقوق الطبيعية التي هي موضوع لمقال اريك ماك. هو يرى ان،
.... جميع الافراد لديهم حقوق طبيعية في عدم التدخل في المسائل المتعلقة برفاهيتهم الشخصية. وبدقة اكبر، جميع الافراد لهم حقوق طبيعية في الملكية الخاصة، واكتساب وممارسة سيطرة مرنة على الاشياء الخارجية، ولهم حقوق طبيعية في انجاز الاتفاقات المبرمة معهم(ص85). معظم الناس يرون ان هذا يثير سؤال حول منْ يحمي هذه الحقوق الطبيعية. على الرغم من ان الفلاسفة التحرريين ينتقدون الدولة، لكن معظم الناس (بمن فيهم بعض التحرريين) لا يستطيعون فهم الكيفية التي تُحمى بها هذه الحقوق في غياب الدولة. ولكن حتى لو كان نظريا من واجب الحكومة حماية الحقوق الطبيعية، لكنها عمليا قد تتجاهل فكرة الحقوق الطبيعية وقد تغيّر تعريف اريك ماك للحقوق الطبيعية.
في امريكا المعاصرة، يبدو ان الجمهور يقبل بتحفظ انتهاك الحكومة للحقوق الطبيعية. فكيف يمكن للفرد تغيير عقول الجمهور؟
مايكل هومر يحاول تغيير عقول الناس باللجوء الى الفطرة او البداهة. "البداهية" Intuitionism بالنسبة له تعني اننا نبني نظريات اخلاقية من الامثلة. يقول هومر ان الطريقة التي يعمل بها التفكير الانساني هي اننا نأتي اولا لمعرفة اشياء ملموسة محددة، ثم لاحقا اشياء عامة مطلقة... ولكي يقبل المرء بالتوضيح العام لماهية العدالة، يجب عليه اولا وفي عدة حالات فردية معرفة ما هو الفعل العادل وماهو الفعل غير العادل (ص264).
البداهة الاساسية لهومر في الحرية هي اننا لو تعرضنا لإيذاء من احد المواطنين عبر التدخل بحرياتنا، عندئذ سيكون ذلك هو نفس الاذى لو وقع نفس الفعل من جانب احد ممثلي الحكومة. هو يكتب، تصوّر اني اعيش في قرية تضم بعض الناس الفقراء المفتقرين للرعاية الكافية. افرض انا اتجول حول القرية مطالبا بمساهمات لجمعية خيرية اديرها لمساعدة المحتاجين. لو اي شخص يرفض المساهمة ساقوم بخطفه بقوة السلاح ووضعه قيد الاحتجاز لفترة غير محددة. ماهي السمة الاخلاقية لسلوكي هذا؟
.... سلوكي في هذا السيناريو يبدو مشابها للحكومة التي تجمع الاموال من الضرائب لتمويل الرفاهية الاجتماعية (ص268).
قد لا يبدو هذا الجدال مقنعا. عند الحديث عن البداهة، فان كل شخص تقريبا يميز بين الجمعية الخيرية التطوعية ومؤسسات الحكومة. نحن نقبل الاخيرة لكي نعيش بسلام مع الاخرين. يكتب كوزنكي،
اعتقد كانط ان حقوق الملكية في الاصل برزت تدريجيا من الادّعاءات او الحقوق المتكررة والادّعاءات المضادة والأحكام القضائية والتأكيدات، فهي لم تبرز من اي سلوك معين للتسوية سواء من جانب الدولة او الافراد... الشرعية يمكن ان تبرز بمرور الزمن. بالنظر للأصل الاعتباطي (وربما الاجرامي) لجميع اصناف ومسميات الارض، فلا توجد هناك طريقة اخرى في اي موقف. نحن يجب اما ان نعترف بان كل العالم مسروق يتطلب منا ان نؤسس مؤسسة لإعادة توزيع كل شيء، واما نعترف بان اخطاء الماضي يمكن تصحيحها نحو الأحسن بشكل تدريجي(ص110-111).
"استشارة بداهتنا لا تقودنا لرفض الحكومة اكثر مما تقودنا لرفض حقوق الملكية"
في العالم الواقعي، نجد حقوق الملكية ليست نزيهة، نفس الشيء ينطبق على مؤسسات الحكومة. انها نشأت تدريجيا من عملية استلزمت عدة خلافات وتسويات مؤقتة وتبنّي للقضايا. انه ليس من الغريب حسبما يرى هومر، بان نجد هناك مجموعة من المؤسسات يستولي بعض افرادها بالقوة على الجمعية الخيرية، حتى عندما لا نسمح للافراد الذين يعملون خارج تلك المؤسسات للقيام بذلك. مؤسسات الشرطة والمشرعين والمحاكم تشبه حقوق الملكية كون تلك المؤسسات ظاهرة تطورية.
من غير المدهش ان نجد الفصل الاخير لجاسون برناس حول "التعددية الاخلاقية" moral pluralism هو الاكثر ملائمة. هو يجادل بان جميعنا لديه ما يسميه "المستوى الوسط" mid-level من المبادئ الاخلاقية، بما فيها مبادئ النفعية ومبدأ معاملة الناس كغايات بدلا من وسائل. حالة اللايقين الاخلاقي تنشأ من الصراع بين هذه المبادئ وهي لا يمكن حلها باي مبدأ احادي شديد الاهمية. يقول برنان،
ان الفكرة وراء التعددية الاخلاقية المثدولوجية هي انه على الرغم من اننا قد لا نوافق حول النظريات الاخلاقية الاساسية، لكننا ربما نستطيع بلوغ اتفاق على تقاسم مجموعة من المبادئ الاخلاقية المتوسطة المستوى. في محاولة حل النقاش حول ماذا نعمل في الوقت الحاضر، يجب ان نحاول اللجوء الى تلك المبادئ المتوسطة المستوى الاكثر وضوحا بدلا من اللجوء الى نظريات اساسية اقل وضوحا(ص325).
هذا النوع من التعددية الاخلاقية،
... لا يوفر دفاعا عن التحررية او عن اي فلسفة سياسية اخرى. لكن هذا ليس شيئا سيئا، بل سيكون من المدهش لو استطعنا اشتقاق فلسفة سياسية مباشرة من نظرية اخلاقية اساسية بدون الحاجة المسبقة لدراسة الاقتصاد والعلوم السياسية كي نتعلم كيفية عمل المؤسسات.... نحن سنحتاج لفهم اقتصاد سياسي قوي كي نعمل قرارا نهائيا حول ما تتطلبه العدالة (ص337).
بعد قراءة هذا الكتاب، نجد انفسنا في حالة من التفكير الدائم حول التحررية كونها لم تعد مقنعة لدى معظم الفلاسفة او ضمن الجمهور العام. سبب ذلك ربما هو ان الناس يثقون بما يسمى بداهة الجماعة الصغيرة small-community intuition.
ضمن العائلة او الجماعة الصغيرة، تكون مبادئ المساواة والالتزامات المتبادلة هامة جدا. الفلاسفة الذين يجادلون لأجل فلسفة سياسية غير تحررية سيميلون نحو البداهة المرتكزة على مجتمع صغير الحجم.
فمثلا، جورج لاكوف عرض نظرية للمجتمع مرتكزة على نموذج العائلة. هو يجادل بان المحافظين يعتقدون بـ "اخلاقية الاب الصارم"، والتي تركز على معاقبة العمل الخاطئ وتحميل ذلك الفرد مسؤولية رفاهية الافراد بدلا من ان تكون مسؤولية الجالية. هو يرى ان البديل هو اخلاقية "الاب الحنون" التي تركز على منح كل شخص الوسائل للازدهار. هو يرى ان العوائل ذات "الاب الحنون" تنتج اطفالا اسعد واكثر صلابة، وبنفس الطريقة ستكون الحكومة التي تعمل بمشاعر "الاب الحنون" افضل لمواطنيها.
يرى البعض ان بداهة الجماعة الصغيرة هي طريقة خاطئة للتفكير في الاقتصاد عندما تكون نماذج التجارة أكثر تعقيدا. الفيلسوف فريمان يذكر اننا ليس لدينا الحافز ولا المعرفة للعمل لمصلحة كل واحد منا. غير ان ملاحظته مضادة للبداهة اذا كان المرء يفكر وفق مفهوم الجماعة الصغيرة، لكنه تفكير صحيح جدا لو انتقلنا الى ما وراء العائلة او القرية الصغيرة. ان المهمة الرئيسية للتحرري هي ان يؤكد على ان حجم المجتمعات وتعقيديتها تجعل بداهة الجماعة الصغيرة غير ملائمة كأساس للفلسفة السياسية.
ختاما سيجد القراء في هذا الكتاب ليس فقط مدخلا ممتازا للتحررية وانما ايضا مرشدا لأهم النظريات في الاخلاق والفلسفة السياسية. ماهو احسن نظام سياسي؟ ما هي المعايير التي يجب ان نستعملها لنقرر ذلك النظام ولماذا؟
الكتاب يجيب على جميع تلك الاسئلة وهو يشكل حجة قوية نحو الخير واهمية الحرية الانسانية.
اضف تعليق