الحرية موجودة أصلا في كينونة الإنسان.. تطل مع إطلالته على الكون.. إذاً فهي ليست مكتسَبة.. ولا ممنوحة من بشر لبشر.. وإنما تدخل في خلق الكينونة البشرية.. في هذا المنظار قال الامام علي (ع): "أيها الناس إن آدم لم يلد عبدا ولا امة وان الناس كلهم أحرار".. وقال (ع) يوصي الإنسان: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا".
فالحرية تعد هِبَة إلهية لا يجوز سلبها.. لكن لدينا ما يناقض الحرية ويسعى لإجهاضها.. ومن ثم امتلاك الإنسان الحر.. في محاولة بائسة ورخيصة للتجاوز على السجايا البشرية.. عندما يذهب الطاغية الى استعباد الناس الأحرار ووضعهم تحت أمرته.. وحكراً على مآربه.. وإشباع رغباته التي أقل ما يُقال عنها أنها رغائب وشهوات سلطانية مشوّهة.
من جهته يعرّف سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الشيرازي الطغيان قائلاً في مؤلَّفه (الحرية في الإسلام) بأن: (الطاغوت من الطغيان وهو التجاوز عن الحدّ؛ ويستعمل الطغيان في الفكر أيضاً، ويراد به عادةً المناهج المنحرفة عن سبيل الله تعالى، ومن هنا تُطلق كلمة الطاغوت على مَن كان في قمة الفكر المنحرف).
هنا تكمن أخطر معضلة يمكن أن يصنعها الطغيان.. ونقصد بها (الفكر المنحرف).. فالكلمة لها سطوة على الإنسان.. وهي قادرة على أن توجّه بوصلته وفق ما تريد وترغب.. فتمضي به الى الانحراف من دون أن يأخذ باله من ذلك.. فإن لم يكن ذا وعي تام.. سوف يجد نفسه مكبلا ببراثن ذلك الفكر المتطرف.. وحينها سوف يكون الطوق عصيّا على الكسر.. والأصفاد كالفولاذ غير القابل للتحطيم.
إنها أصفاد الطغاة الذين رضعوا من ضروع الطغيان.. فتشربت أرواحهم وأجسادهم وعقولهم بهذا المرض المستعصي.. وفي حكايات التاريخ سنعثر على طغاة لا تنساهم ذاكرة البشرية.. وعلى طراز من الطغيان لا يجيده غير أولئك الراضعين لحليب الطغيان من أثداء لا تدر سوى التطرف والتعصب والانحراف والاستهانة بالإنسان وحريته وعدم الاعتراف بها.. فهي تتعارض مع النفَس الذي لا يعيش إلا على حريات الآخرين.
في المقابل لدينا من يختلف عن الطغاة.. من لا يسايرهم ولا يقرب منهجهم.. ولا يلتقي معهم في مأرب واحد.. إنهم الأحرار الذين يحافظون على العهد.. ويحترمون قيمة البشر.. ويؤمنون بأن حرية الإنسان أسمى من أن يتحكم بها بشر.. فهي منحة ربانية كرّم بها الله الإنسان.. بعد أن وجد فيه أهلا لهذه الهبة.. وحاملا نموذجيا لها.. فكل من يتجاوز على حرية إنسان.. إنما هو يتجاوز على إرادة إلهية رأت أن الكائن البشري يستحق أن يكون حرا.. وهذا وجدناه في المعنى الذي يطرحه كلام الإمام علي في ما سبق ذكره أعلاه.
فمن هم الذين يختلفون عن الطغاة مع أنهم امتلكوا السلطة والقوة والمال؟.. لماذا لم يتنمّر القادة العظماء على بني جلدتهم.. لماذا لم يندفعوا الى ما هو محرّم تحت ضغط النفوس.. نلاحظ ذلك في سيرة نبينا محمد (ص).. وقد حكم أقوى دولة عالمياً في وقتها.. إنها دولة الإسلام التي تصاعدت عناصر قدرتها بسرعة صادمة للآخرين من الأضداد.. ولكن هذه القوة المتعاظمة كانت لا شيء تحت عظمة قائد المسلمين (ص).
في كلام دقيق بكتاب (الحرية في الإسلام) لمؤلفه المرجع الشيرازي نقرأ (روى التاريخ عن سلوك نبينا صلى الله عليه وآله: يحاربه قومه مع ما يعرفونه من صدقه وأمانته ونبله وكرم أخلاقه، بمختلف أنواع الحروب القاسية ويطردونه من موطنه ومسقط رأسه، ثم يتركهم أحراراً وما يختارون من دين وطريقة حياة؟!).
شتان بين قائد طاغية يجبر الرعية على الاستعباد.. ويمسخ كرامتهم.. ويدمّر حرياتهم.. وبين قائد يكرّم أعداءه بالحرية في السلوك والحركة.. هذه العظمة لا ريب تنطلق من احترام للذات الإلهية التي وهبت الإنسان حريته.. فأبى القائد العظيم أن يمس هذه الحرية على الرغم من أن أصحابها من ألدّ الأعداء.
فالطغيان سلاح الظالمين الضعفاء.. ولم يكن مطلقا سلاحا للعظماء الأقوياء.. لهذا يفسّر علماء النفس الوضاعة التي تستوطن نفوس الطغاة.. بأنها ناتج طبيعي لحقارة النفس المتغطرسة المتكبرة المريضة.. فالطغاة جميعا مرضى.. والقادة العظماء مسالمون أقوياء ترافقهم الرحمة والعفو أينما حلّوا وارتحلوا.
هذه هي ملامح مدرسة الرسول الكريم (ص).. التي أخذها عنه أئمتنا من أهل البيت (ع).. هذا المعنى نجده أيضا في قول المرجع الشيرازي: (لو انتقلنا من رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أهل بيته سلام الله عليهم لرأينا الحالة نفسها. فها هو الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه قد كان مبتلىً بأشخاص ذوي نفسيات وضيعة تردّ عليه وتقطع كلامه وتجادله بالباطل بل حتى تتطاول عليه، وهو مع ذلك لا يأمر بقتلهم وسجنهم ونحو ذلك) المصدر كتاب (الحرية في السلام).
إذاً ليس ثمة مفاجأة في قولنا.. الحرية والطغيان متنافران لا يلتقيان مطلقا.. فكلاهما يمضي في طريق مضاد للآخر.. وهل يمكن أن يتشابه الخير والشر.. هل يلتقي الكرم مع البخل.. الباطل مع الحق.. الجمال مع القبح.. كل القيم العظيمة تربأ بنفسها وتسمو عاليا.. فيما تتساقط القيم الوضيعة نحو الحضيض لأنه مكانها الطبيعي.. فلا مكان آخر يليق بالوضاعة سوى الحضيض.. لذلك على مر التاريخ ذاق الطغاة مرارة الحضيض قبل أن يصبحوا قيد الفناء.
فهل يتعظ قادة اليوم من هذه الدروس المجانية الخالدة؟.. أما إذا توجّه الكلام الى قادة العراق والدول العربية والإسلامية.. فإن الحال سيكون محرِجاً حقاً.. إنهم يعلنون الانتساب الى دين محمد (ص).. وكثيرون منهم يتبعون آل بيته (ع).. تُرى لماذا يسقط الحاكم المسلم في وحل (الطغيان والتفرد في السلطة).. ولماذا يستسهل الى أبعد الحدود حرمات الرعية وحقوقها؟.. لماذا ينسى حاكم المسلمين المصائب التي ذاقوها على مر التاريخ.. وبدلا من أن يسعى لتعويضهم يوغل في إهانتهم والتجاوز على حقوقهم حد الإذلال؟.
في الخاتمة نصرّ على أن الطاغوت صفة شائنة لا فخر فيها ولا جديد في هذا القول.. أما الحرية ودعمها فتشكل قمة الفخر للإنسان.. فكيف بالقائد الذي يرعى ذلك.. ويحترم حقوق الناس وينأى بذاته وتأريخه الشخصي والعائلي عن ذل السلطة وامتيازاتها غير المشروعة!.. هل يعي حكّامنا في هذه المرحلة.. قيمة أن يصطف الحاكم أو المسؤول الى جانب الحرية؟؟.
لا ريب أنهم (المسؤولون والحكام) يفهمون ويعرفون الفارق الكبير بين أن تؤازر الطغيان بكل صفاته الشائنة وتسير في خطه.. أو تتعفف وترتفع بذاتك ونفسك نحو ما يفعله المسؤولون الأحرار.. إنهم أحباب الله والناس ومحط احترامهم.. هكذا يتضح خط الطغيان ليفضح نفسه بنفسه.. فيما يتضح خط الحرية بفخر وعظمة وامتنان وعرفان أزلي مستمر ما بقي الوجود وما بقيت الأرض والإنسان على قيد النبض الحي.
اضف تعليق