أول حب لي كان في عمر ست أو سبع سنوات، لامرأة يقرب عمرُها من الثلاثين، زرعت حبها في قلبي اليتيم مبكرا، ولا أعرف كيف حدث هذا بالضبط، وقد يسأل أحدهم، أليس الأصح أن يكون الحب الأول في عمركَ من حصة أمك؟، في الحقيقة لا يمكن أن تكون أمي هي الحب الأول لي لأنني لم أتشرّف برؤيتها، ماتت في الأسبوع الأول لمجيئي الى الدنيا، وكان أبي قد مات قبلها بشهور بعد أن سقط من نخلة شاهقة، هكذا أصبحتُ كائنا يأتي الى هذه الدنيا بلا عيون يراها أو تراه ولا أنفاس يحسّ بدفئها ولا صوت أم حنون يجلب له الشعور بالأمان (دللول يل ولد يبني دللول.. عدوك بعيد وساكن الجول)، طفل دخل مبكرا في سجل اليتامى، أبوه وأمه رحلا الى العالم الآخر وتركاه ريشة تتلاعب بها رياح الزمن كيفما تشاء.
يُقال أن جدّتي هي التي تبنّتني إطعاما وشرابا وملبسا، تعطيني حليبا فأرفض، تسلمني الى نساء أخريات للرضاعة فأرفض ذلك بعناد لا يلين، كأنني أطرقُ أبواب الموت طفلا، الطريقة الوحيدة التي تقبّلتُ بها الطعام، ماء محلّى بالسكر أتناول منه ملعقةً بيد جدتي التي قالت لي فيما بعد، أنني رفضت كل أنواع الحليب، وكل ضروع النساء الحنونات أو عكسهن، (حتى صرتَ كومة عظام وشحب وجهك ونتأت أضلاعك وصار الموت قاب قوين أو أدنى منك).
أنا لا أتذكر تلك الأيام أو الأسابيع أو الأشهر الأولى، وأكاد لا أتذكر ما كان يدور في السنة الأولى من حياتي، لكنني بقيتُ على قيد الحياة، طفلا يتيماً، فقد حنان الأم، وظلّ عطشانا للحب حتى في شيخوخته التي يشعر بأنها طالت أكثر مما ينبغي، فقد كان يظن أنه سيموت طفلا، وعندما عبرَ أسوار الطفولة الى المراهقة كان جسده النحيف ينبئ بأنه يمكن أن ينطفئ في أية لحظة، بسبب الهزال الذي أصاب جسمه، وعندما عبرتُ إلى مرحلة الشباب كنتُ أول من استغرب إفلاتي من قبضة الموت بجسد يتشكل من مجموعة عظام لا أكثر.
عنيد هو الإنسان، لا يهزمهُ سوى الزمن، هذا ما لاحظته في نفسي، وما عرفتهُ من جدتي أيضا، لطالما كانت تحكي لي حكايات ذاتية بطلها أنا، ولا أعرف حقيقة هل أنا بالفعل بطلها، أم أن جدتي كانت تضفي على شخصيتي صفات ومزايا من صنع خيالها، فعندما كانت تقص لي ما أقوم به في طفولتي، من أفعال كبيرة لا يقوم بها غير الكبار، كنتُ أستغربُ كلامها، وأشعرهُ كبيرا على شخصيتي التي لا تزال في طور التكوين، وعندما ألحّ عليها (هل ما تقولينه حصل بالفعل يا جدتي؟)، كانت تجيبني وتقول (بل أنت أكبر مما أقوله لك)، وتصمت، وتتركني في حيرة من أمري، هل أنا فعلا من يقوم بتلك الأفعال أم خيالها؟.
شواهد على ما قام به اليتيم
الكلام لجدتي، كنتُ في منتصف العقد الثاني (15 سنة)، أنصت لها وهي تحكي لي، قالت: كان بيتنا الريفي يطل على نهر صغير عرضه مترين وعمقه كذلك، وكنتَ أنت بعمر سنة ونصف، تمشي على الأرض كأي كائن لا حيلة له، كأنك كرة لحم تتدحرج أثناء المشي، خرجتَ عند الضحى من باب البيت، فجأة سمعنا كتلة سقطت في النهر، صرختْ أختك زهراء عاليا، ركضتُ أنا إليك، رأيتك في وسط النهر، ظهرك الى السماء ووجهك الى قاع النهر، قذفتُ بنفسي جنبك، أخذك الموج مني، لاحقتكَ سباحةً حتى وصلتُ إليك، أخرجتك من النهر، كنت فاقد الوعي، بطنك منتفخا بالماء، مسكتك من قدميك، رفعتهما الى الأعلى وتدلّى رأسك نحو الأرض، نفضتُ جسدك بقوة، خرجت المياه من فمك، فتحتَ عينيك، بعد حين صرتَ تسحب شهيقاً طبيعياً، لاحظتُ يدكَ اليمنى تقبض على شيء ما، وعندما فتحتها أخيرا، رأيت فيها قطعة حلوى (ملبسة) قالت زهراء أنها أعطتها لك قبل أن تسقط في النهر، وبقيت قابضا عليها حتى هذه اللحظة، هذا يعني أنك لا تتنازل عن أشيائك ونفسكَ بسهولة، وربما لا تتنازل مطلقاً عن أي شيء من حقك، وهذه من أفعال الكبار.
حكاية أخرى تحتفظ ذاكرتي بتفاصيلها، لا أحتاج لجدّتي كي تذكرني بها، كأنّ حروفها وكلماتها زُرِعَتْ في دمي، أتحدث هنا عن الشعور الأول الذي يسمونه حب، كنت في السادسة أو السابعة من العمر، كنت أجلس على ضفة النهر العريض الذي يشطر قريتنا الى نصفين، الوقت كان عصرا، ظلال أشجار النخيل ترسم نفسها على سطح الماء، مشهد النهر يتراءى لي حتى الآن، زقزقة العصافير تطرق سمعي الى الآن، الكائنات الصغيرة التي تتحرك فوق سطح الماء أكاد أراها، والأسماك الصغيرة التي تنساب بأجسادها اللدنة ترتسم الآن أما باصرتيّ، في تلك اللحظات الحانية كنت أفكر بأمي، ما شكلها، ما طولها، ما لونها، ما هي رنّة صوتها، هل هي حنون أم قاسية، هل كانت ستملأ هذا الفراغ العاطفي في أعماقي لو أنها بقيت على قيد الحياة؟، أثناء ذلك فجأة نهض خلف ظهري جسد لامرأة، ظلها بان لي فوق سطح الماء، تخيلتُ أن أمي أتت لي، لم ألتفت الى الوراء كي أراها، تصورتُ أنها ستعرفني، أنا ابنها الذي تركته في أيامه الأولى، عرضة لجنون الزمن وبطش الذل والحاجة للآخرين، فكّرتُ مع نفسي أنها ستجلس الى جانبي، ثم تضمني الى صدرها، سوف أستنشق رائحة الأم التي أتحسّرُ عليها حتى هذه اللحظة (وأنا شيخ في الستين من عمره).
فجأة غاب ظلُّها عن سطح الماء، اضطررتُ أن ألتفت الى الوراء، تطلّعتُ بعمق ولهفة، لكنها غابت بالفعل، وضاعت فرصة رؤيتها، ألقتْ شمس الغروب بحمرتها فوق ماء النهر، صار الماء مزيجا من الزرقة والنور، أطلَّ الجسد الأنثوي مرة أخرى خلف ظهري، هذه المرة لم أنتظرها كي تبادر وتجلس الى جانبي، قفزتُ من مكاني بسرعة واستدرتُ إليها، يا إلهي، أ هذه امرأة حقيقة أم خيال، أ هي أمي؟؟.
لا شيء يعوّض حنان الأم
إنها جميلة فوق درجات الجمال، عطرها انتشر في القرية كلها، ملأ صدري، تبسّمتْ لي ابتسامة لا أظن أنني سأراها في فم امرأة أخرى مدى حياتي، تقرّبت مني، ضمتني الى صدرها، أنا طفل السنوات السبع، شعرتُ بأنها حبيبتي فعلا، صرختُ بها (حتما أنت أمي)، في لحظات تحولت القرية الى جنة، والنهر الى ماء كوثر، والأشجار الى جنائن ورياض باهرة، والضوء الى لآلئ لا تكف عن التوهج والوميض، سألتها:
- لماذا تركتِني يا أمي وحيدا في متاهة الحياة؟.
- متاهة؟؟
- نعم متاهة، لا أحد فيها يدلني على شيء.
- وجدّتكَ.
- ليتها ما أرضعتني الماء والسكّر.
- لماذا يا ولدي؟.
- أريد أن أكون معك.
- ها أنت معي الآن يا حبيبي.
- هل ستبقين معي؟.. هل أنت أمي فعلا؟؟.
- نعم أنت ولدي وأنا أمك.
- إذن سوف تبقين معي يا أمي أليس كذلك؟ لن تتركيني مرة أخرى وحيدا في مواجهة البؤس وذل الحاجة والغربة والتوق الى الحنان، لن تتركيني يا أمي، أليس كذلك؟.
- أنا مكاني ليس هنا، معك جدَّتك، هي أمك، هي تمنحك الحنان يا ولدي.
- لا شيء يعوّض حنان الأم، لا عطر يعدلُ عطرها، لا وجود يسد فراغها.
في لحظة غادرة، غاب ظل الجسد، وذابت أمي في الماء، لم يعد لها أي وجود، عدتُ يتيماً كما أنا، أتطلع في وجوه الأمهات، علَّ إحداهن تكون أمي، وظلّت هذه الأمنية تعيش معي حتى هذه اللحظة التي بلغتُ فيها الستين، فالطفل اليتيم لا يزال حاضرا في داخلي حتى الآن، والحاجة الى الأم لا تزول مطلقا، كذب من يقول أن هناك كائن يمكن أن يسد فراغ الأم ويعوّض حنانها، اسألوني عن ذلك، إن فقدان الأم عذاب ما بعده عذاب.
فيا من تكفل يتيما، أو تتبناه، أو تقضي له احتياجاً ما، نعم أنت تهوِّن عليه شيئاً من مرارات الدنيا، ولكنك أبدا لا تسد ذلك الجرح العميق الذي يتركه رحيل الأم في أعماقه، أنت دورك تخفّف عن اليتيم جزء من عذابه، وتحصل على جزاء تستحقه من الله، أما اليتيم فإنه يعيش الألم (ألم رحيل الأم) حتى اللحظة الأخيرة من حياته، لذا هي دعوة ورسالة الى من له القدرة على دعم اليتامى، ارحموا عذابهم وخففوا من وطأة الحياة عليهم، فاليتيم بفقدانه لأمه يشتاق لها حتى في شيخوخته، بل إنه يموتُ ويأخذ (أمنية لقاء أمه) معه لقبره.
اضف تعليق