بعد رحلة طويلة وظالمة مع الانغلاق.. يواجه الشاب العراقي سيولاً جارفة من الثقافات الغريبة على ذائقته.. وقيمه وحتى أخلاقه.. في مرحلة الانغلاق يعرف من عايش ظلم النظام السابق الذي حبس الشعب وراء جدران شاهقة.. وعزله عن العالم.. فصار شباب العراق في منأى عن كل تطور يُستحدَث فوق البسيطة.
فالإعلام داخلي صرف ومشوّه ومسيَّر وليس مخيّرا.. يسير في ركب الحزب الواحد وتمجيد الفرد القائد.. لا يوجد هاتف نقال إلا عند أزلام السلطة وأبنائهم.. لا وجود لأجهزة الستلايت إلا فوق سطوح المسؤولين.. المعلومة محتكرة للأجهزة الأمنية وأصحاب المراكز الحساسة في الحكومة والحزب الحاكم.
على حين غرة حدث الزلزال الذي طال العراق من أدناه الى أقصاه.. وحصلت التغييرات الهائلة في نيسان 2003.. سقطت الأسوار المتطاولة الى عنان السماء.. تهشّمت سلاسل الطغيان.. وانكسرت البوابات المغلقة.. في ساعات قليلة صار العراق المغلَق ساحة مفتوحة أمام الإعلام العالمي بكل ما يأتي به من ثقافات ومعلومات وأخبار.
وسريعاً ما أتقن العراقيون وخصوصا الشباب التعاطي مع شبكة الأخطبوطية (الإنترنت).. وكل ما قدمته له من وسائل اتصال عبر الإيميل وبرنامج التواصل الفوري (الماسنجر) وغرف الدردشة.. وبات الحوار مع العالم مفتوحا بلا قيد أو شرط.. ولا يوجد رقيب أو حساب أو خوف من الأجهزة الأمنية للسلطة.
تغيَّرت الأحوال في لمح البصر.. وانفتحت عيون وبصائر وعقول الشباب وعموم العراقيين على ساحة لا تحدها حدود.. تضم جميع الثقافات والأفكار والمتناقضات الشديدة.. ليأتي بعده دور شبكات التواصل الاجتماعي.. والمواقع الالكترونية الفورية.. في التحاور والإطلاع على شؤون وأخلاقيات الآخر.. وباتت الأفكار الصادمة تتقاذف على عقول الشباب العراقي كالمطر.. فلا يعرف ماذا يستقي منها وماذا يتحاشى ويبتعد.
هنا ظهر الدورُ جليا لوجوب مساعدة الشباب على تخطّي هذه المحن الكبيرة بسلام.. وهذه المحن ليست سهلة ولا بسيطة.. إنها غاية في التعقيد.. ولعل وصفها بالصعبة لا يتناسب مع خطورتها ولا مع تعقيدها الشديد.. فهي عبارة عن موجات فكرية ثقافية أخلاقية هائلة.. دهمتْ واقع الشباب العراقي على حين غرة.. واستهدفت عقائده وقيمه التي يؤمن بها بلا سابق إنذار.. فراحتْ تهشّم وتكسّر كل صمامات الأمان التي كان الشباب يتدرّع بها ويحتمي خلفها.. ووجد الشباب أنفسهم في مواجهة جديدة مع ثقافات العالم الغريبة عليه.
الشباب وثنائية المظهر والجوهر
بعد هذا العرض المختصَر للمتغيرات الكبيرة.. والمفاجئة في حرية الإعلام والتواصل مع الآخر.. بات صار من الأهمية بمكان أن تمتد يد العون للشباب.. وتأخذ بهم الى مرفأ الأمان.. وليس هناك أنسب من رجل الدين كي يبادر بحمل هذه المسؤولية.. لأسباب كثيرة.. يأتي في البدء منها درجة الثقة التي تربط الشاب برجل الدين.. فالحقيقة تقول أن الشباب أكثر ثقة برجل الدين من غيره.. خصوصا في ظل تدهور العلاقة بين (الأستاذ/ الطالب) وبين (الأب/ الابن)، ثم بين (الشباب/ وعموم المجتمع).. توجد خلخلة في العلاقات بين الشباب والأطراف المذكورة.. فالمفضَّل في هذه الحالة رجل الدين الوسطي.. غير المتزمت كي يقوم بمهمة مساعدة الشباب العراقي على مواجهة ما استجد ويستجد في ساحة تداول المعلومات والثقافات العالمية.
هي في حقيقة الأمر مهمة صعبة.. ولكن ليس هناك مفر من مواجهتها والشروع في القيام بها.. خصوصا بعد أن صار واضحا بجلاء.. مدى تأثير الثقافات القادمة من الأقاصي على ذهنية الشباب.. فهناك موجات خطيرة شرعتْ تنقلها شبكات التواصل من منابعها الى عقول شبابنا.. كمثال على ذلك موجة الإلحاد التي تضخّمت وتوسعت وتنمّرت.. لكي تهيمن على ثقافة الشباب وعقولهم الغضّة.. ومع هذا الهجوم الفكري.. هناك هجوم من تيار آخر وبنوعية أخرى.. وهي التي تهاجم الشباب شكليا لتساعد مهاجمة العقل والذهنية الشبابية.
هناك موجة للعبث بشكل الشاب العراقي ومظهره.. ونعني بذلك نوع الملابس وقصّ شعر الرأس وسوى ذلك من شؤون جانبية.. فصار التركيز قويا على المظهر الصارخ.. لكي يكون مصدر جذب للآخرين.. في حين أن العمق الفكري والأخلاقي للشاب هو الذي يمنحه القيمة الإنسانية التي تتناسب مع كرامته وكينونته.. ونظرا لقلة المستوى الفكري الشبابي وانحسار الدعم المعنوي لهم.. وإهمالهم من الحكومة والقطاع المدني.. فصار سهلا أن ينحدر الشاب في هذه الموجات التي تستميت كي تدمر القيم في داخل الشاب.. فإذا حدث هذا النوع من التدمير.. بات الشاب لعبة أو دمية يتلاعب بها الآخر كيفما يشاء.. وهنا مكمن الطامّة الكبرى.
في هذه الحالة.. عندما يبقى الشاب وحيدا.. في مواجهة ذئاب الثقافات الغريبة والقيم الدخيلة.. ألا يمكن أن يكون فريسة مستسلمة لتلك الأفكار ومصادرها؟.. ألا يشعر الشاب بأنه يقف وحيدا في هذا العراء الفكري الغريب والضاج بكل ما هو مثير ومغرٍ؟.. كيف نريد من الشاب أن يحمي ثقافته ومعتقداته وأعرافه ودينه وما يؤمن به.. ونحن نتخلى عنه وعن القيام بدورنا في حمايته من الموجات الفكرية التي تكالب على العراقيين بغتةً؟.
هنا عند هذه النقطة.. تظهر الحاجة الى المعين بأقصى درجاتها.. تُرى من هو المساعد والمعين للشباب.. نعتقد أن رجل الدين هو الأكثر قبولا وانسجاما بسبب الصورة النمطية الغاطسة في أعماق الشاب عن رجل الدين المثالي.. في هذه النقطة بالذات.. يستطيع رجل الدين أن يكون قارب الإنقاذ لانتشال الشباب من بحر الثقافات والقيم الهائجة المتدفقة نحو الشباب.
الخطيب ونبرة الخطاب العقائدي
هل هناك غرابة عندما نقول أن رجل الدين محط ثقة الشاب؟.. في ظل ما يحدث الآن لم يعد الشاب يثق بأحد.. لأنه كما يبدو الجميع تخلى عنه.. الأبوان.. الأستاذ.. المنظمات.. الحكومة.. ولكن في نظرنا تبقى النسبة الأعلى من ثقة الشاب برجل الدين المثالي.. فكيف يمكن أن يقول رجل الدين بهذا الدور؟؟.
هل يرفع نبرة صوته الغاضبة كي يحشد الآخرين ضد الشباب؟.. هل يطالب الحكومة والجامعات والمؤسسات أن تعاقب الشباب الخارجين على المقبول أو السائد.. هل وسطية واعتدال رجل الدين أفضل.. أم الحدّية في الموقف من الشباب؟.. هذه أسئلة لا يوجد من يجيب عنها غير رجل الدين نفسه.
لماذا تصبح نبرة رجل الدين حادة.. وهل صحيح عندما يطالب بمعاقبة الشباب.. أليس الأصح أن يكسب رجل الدين المثالي عقول الشباب باعتداله ونبرة صوته الهادئة.. أليس الأنسب أن يتقرّب رجل الدين أكثر من الشباب.. يفهمهم ويفهمونه.. يناقش مشكلاتهم معهم.. يبادر لطرح الحلول.. يقدم المساعدة بأية درجة كانت.. أما يكسب عقول وميول الشاب بهذه المبادرات بدلا من أن يطالب بضرب الشباب أو إجبارهم على السير في المسار أو ذاك بالقوة؟.. أين نحن من مضمون النص القرآني (ادفع بالتي هي أحسن)؟؟.
رجل الدين المتمكن هو من يكسب الشباب.. وهو من يقدر على التأثير فيهم.. وهو من يزيد قدرة عقولهم على البقاء صامدة أمام موجات الإلحاد.. والثقافات الوافدة الغريبة غير الإنسانية.. هكذا سيكون دور رجل الدين مثاليا مثل الصفة التي يحملها.. فلا تليق برجل الدين سوى أنه إنسان مثالي.. وهذا النوع من الناس لا يمكن أن يحرِّض على ضرب أو معاقبة أو قتل الشباب.. لمجرد أنهم وقعوا ضحية التغييرات الهائلة في الواقع العراقي.
اضف تعليق