q

منذ اللحظة الأولى التي يطأ فيها الإنسان قاع المعمورة.. تبدأ رحلة الاختبار المضنية.. فأي اختبار وأية رحلة شائكة.. تعتور مسيرة الإنسان وتملأ حياته (بالمغريات، ومكامن الانحراف) وكل ما يحث النفس على الفساد بوجود الشيطان الذي يغري ويدفع نحو إضعاف الإرادة.. وتكسير السدود التي يحتمي بها الإنسان من الولوج في حومة الزلل.

في يد الكائن البشري حلول أتاحها الله له.. كي ينجو بذاته وينأى بها بعيدا عن الرضوخ لمغريات الشياطين.. فالدنيا وإن كانت تلوّح بملذاتها وتشجّع على الرضوخ لمحاسنها.. إلا أن هناك ما يدعو الإنسان للتريث.. والتأني.. واعتماد الأسلوب التحذيري من السقوط في الفخ.. يحدث هذا بوساطة تكبيل النفس.. ووضعها قيد الاحتجاز والمراقبة بشكل لحظوي.

فإن كنت ممن يروم الخروج من الدنيا بيد بيضاء.. وقلب مزكّى ونفس محصّنة من الخطل.. لديك ما يحميك ويجنبك مكاره الزلل.. إنها محاسبة الذات ومراقبتها وكبحها في الوقت المناسب.. هذا الأسلوب يساعد الإنسان حتى يضبط خطواته في القول والتفكير والعمل.. ولا يسقط في براثن الخطيئة.. حاسب ذاتك.. عنّف نفسك ووبخها.. ضعها في الصراط السليم.. فأنت من يمكنه ردعها.. أنت الأقدر على محاسبتها.. وفي هذا الحساب منجاتك.

جاء في كتاب (حلية الصالحين) للمرجع الديني السيد صادق الشيرازي ما يجعل الإنسان أكثر وعيا.. وأنْبَهُ عقلا.. وأفصحُ قولا.. وأصدقُ نيةً.. من أجل تجنيب النفس الانخراط في دائرة الخلل.. ورعونة الزلل.. نقرأ هذا النص في (حلية الصالحين): ("لنتوقّف قليلاً ونحاسب أنفسنا قبل أن نحاسَب". فقد روي عن الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام قوله: "ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم؛ فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيّئاً استغفر الله منه وتاب إليه". ولنعتبر بقصص المسترشدين).

يجب أن تتوقف أيها الإنسان يوميا.. في وقت تحدده أنت.. وتبدأ في محاورة الذات.. ومحاسبة النفس.. حتى تعرف هل انحرفت في خط لا يقودك الى الله بيدٍ بيضاء.. فمن يصعد بروحه الى ربه بيد ملوثة.. سيلقى العقاب المناسب وهو في حل من ذلك.. فلماذا يلقي بنفسه الى التهلكة.. كيف يحمي الإنسان يده من لوثة العصر.. إنها وإن بدت محنة ما من بعدها محنة.. في زمن يُباح فيه ما لا يُباح.. وتتاح فيه ما لا يجب ولا يصح أن تتاح.. لكن ثمة الردع الذاتي العظيم القائم على إرادة السموّ والدنوّ من أبواب الله.. أئمتنا العظام وخلاصنا من مخابئ الظلام.

يرد في كتاب (حلية الصالحين) لسماحة آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي.. قول فريد من نوعه للإمام زين العابدين (عليه السلام) تأتي فيه الجملة التالية: "اللّهُمَّ وَفّرْ بِلُطْفِكَ نِيّتي، وَصَحِّحْ بمِا عِنْدَك يقيني، وَاسْتَصْلِحْ بقُدْرَتِكَ ما فسدَ مِنّي".

فالنيّة إذا صلحت وخلتْ من السوء.. واستطابت بالبياض الناصع.. وخلت من مآرب النفس الأمارة الذليلة للمغريات.. فهذا أول الغيث في السياق الأسلم.. النيّة السليمة تؤدي الى الفعل السليم.. لهذا يطلب الإمام من الله تعالى (حفظ النية باللطف الإلهي)، فهذا تحصين ذاتي.. وحماية ربانية من الولوج في مهالك الخطايا السوداء.

أما اليقين.. فيا له من صمام أمان.. يحمي الإنسان من الانبهار بالمحرمات.. والانزلاق في طرق سالكة نحو الشر.. فيقين الإنسان درعهُ الحصين من السقوط في مهاوي الانحراف اللعين.. فإن صحَّ اليقين سلمت المآرب.. ونظّفت الأهداف.. وصحّ عقل الإنسان.. وصار دربه خاليا من طموحات السوء.. هكذا يطلب الإمام من ربه تصحيح اليقين.. وهو مطلب أساس.. يطلبه إمام معصوم من الزلل والخطل والخطايا بأنواعها.. فكيف بنا نحن البشر المحاطين بالرزايا.. كم نحتاج من قوة اليقين حتى ننجو؟؟.. ذلك ما يبتغيه من يرعوي ويعرف جمال المنتهى.

لنأتِ الى المرتكز في هذا الدعاء.. ونعني به الحماية من (الفساد الذاتي).. فبعد تنقية النيّة.. وتصحيح اليقين.. يأتي الدور على ما هو أهم وأكثر حساسية وتأثيرا في فكر الإنسان وعمله.. ألا وهو الفساد الذي يطال النفس من داخلها.. وهو فساد عصيّ على العلاج.. إلا من كتب له الله القدرة والحصانة والحماية اللازمة من هذا الداء الذاتي الخطير.

في دعائه الجزل يطلب الإمام زين العابدين (ع) من العزيز القادر أن يُصلح ما فسد منه! مع أن الإمام معصوم.. فكيف بنا نحن البشر الضعفاء إزاء ما تعرضه علينا الدنيا من مصائب ومآرب ومزايا الحرام الملقاة على قارعة الحياة؟؟ لنا الله من هذه الرزايا.. وقرآننا وديننا ونبينا (ص) وأئمتنا المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.. وإلا الى أين المفر.. عندما يفسد الإنسان.. وأين يقع هذا الفساد.. في النية واليقين والنفس والفكر وأخيرا في الفعل والعمل والسلوك.. فيا لها من كارثة بحق!.

الفساد يجتاح الذات.. يدور حول النفس.. يعرض على الإنسان ما لذ وطاب من الخطايا.. فإن كان من الضعفاء غير المحميين.. وإن لم تحط به رعاية الله كان من الضالين بما لا يقبل الريب.. وإذا كان مقرّبا من الذات الإلهية وعفوها ورحمتها.. فإنه لا ريب سوف يكون مصحَّح اليقين والنية.. ومحمي من فساد العقل والنفس والذات.. وهذا هو المرام الأعظم لكل من يقطع رحلة الشقاء من لحظة الولادة حتى لحظة الرحيل.

ربما ما نعيشه اليوم (في العراق) من وباء خطير للفساد.. مبعثه خلل في نفس الإنسان المسؤول وغيره.. فكل من يُصاب بهذا الوباء.. ربما لم يمر بدعاء الإمام زين العابدين هذا.. ولم يرَ طريقا الى الغفران الإلهي.. فالمسؤول إنسان غير محصَّن.. وغير المسؤول قد يكون غير محمي أيضا.. وإلا كيف نفسر هذا الاستشراء الغريب للفساد في النفوس.. حتى أن اليد البيضاء باتت نادرة في دوائر الدولة ومؤسساتها.. وربما في مجالات الحياة الأخرى أيضا.

هي دعوة الى الإنسان العراقي والمسلم في أي مكان.. أن يطّلع على دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام).. حتى تتاح له فرصة التشبث بالحماية.. والتعلّق بأمل الرحمة الإلهية والغفران.. وتحصيل اليقين المتين.. والنيّة النقية.. ودرء الفساد عن نفوس العباد.. تلك هي مطالب لا ينبغي للإنسان المسؤول أن يبتعد عنها.. المؤسف أننا نلهث نحو المناصب والمسؤولية.. ولكننا لم نفكر بالمصائب التي ستجلبها لنا المناصب.. فكلما كبر المنصب وعلا.. كانت المزايا وفرص الفساد متاحة بصورة أكبر وأكثر.. هنا نحتاج الى إنسان منتقى من بين كثيرين.. محصّن النفس.. طيب الذات.. مصحح اليقين.. نقي الني.. محمي من الفساد.. هكذا هو المسؤول الذي سيكون قادرا على إدارة المنصب بعيدا عن تلويث اليد بالسحت الحرام.

فيا له من مأزق.. ونعني بذلك فرص الفساد الكثيرة.. أما إذا كانت النفس ضعيفة مهلهلة بإرادة خاوية.. ويقين بائي لا سمح الله.. فتلك مصيبة ستفتك بالإنسان المقصود.. وبالناس الآخرين الذي سوف يتضررون من دناءة النفوس.. ورداءة النيّات.. وعبث الأيادي بحقوق الجمع.. ويبقى الأهم أن يرقى المسؤول الى فحوى دعاء الإمام (عليه السلام)، وأن يحمي ذاته.. ويحسّن إرادته ويقوّي نفسه.. حتى يُفشل مآرب الخطايا.. ويصون حقوق الناس.. ولا يُعفى الإنسان البسيط من هذه المسؤولية ونعني بها.. النظافة التامة من الفساد بكل أنواعه.

اضف تعليق