تحزُّ في النفس تلك الكلمات.. الأقرب الى الصفة أو التهمة التي تُلصَق بالمسلمين دون غيرهم.. وهي تهمة الفساد في إدارة البلاد.. يوجد مسلمون يقولون عن المجتمع الإسلامي بأن فساد الحكومات سبب تراجعهم.. هو قول يتكرر في محافل ومؤتمرات وتصريحات.. تنشره وسائل الإعلام.. لا مغالاة في الأمر.. البؤس المرض علامات ما يجري.. كلها تنطق بالفساد.
في واقعنا عقبة تساعد على الفساد.. تضاعف من حجمه.. عندما يغمض الحاكم عينيه ويمنح حاشيته وموظفيه الضوء الأخضر.. لهم الحق في كل ما يعملون.. الذي يهمّ الحاكم ولاء الموظف له.. وبعد إبداء الموظف هذا الولاء لسيّده.. له ما يشاء من الفساد.. المنظمات المستقلة تنقل مثل هذا الكلام في وسائل الإعلام.. لا رقابة على الموظفين المعاونين المؤيدين للحاكم حتى لو عاثوا فسادا في الأرض.
النموذج الجيد القادم من الماضي يقول غير ذلك.. نقصد الحاكم الجيد.. فهو يراقب.. يتابع.. ينصح.. يصحح.. يعطي فرصة وأخرى للتصحيح.. لكن يشعر المسؤول صاحب السلطة بأنه تحت المراقبة فلا يشطّ بعيدا عن الصواب.
ينطبق على هذا التخريج قول السيد المرجع صادق الشيرازي (دام ظله) في كتابه السياسة من واقع الإسلام وهو كتاب مهم نقرأ فيه بأن (رقابة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام للموظفين كانت في رأس سياسته الإدارية لهم).
هناك رقابة صارمة على الصلاحيات.. استعمال النفوذ محدود غير ممدود.. التعليمات الصحيحة تحدد صاحب النفوذ.. من الموظفين من يتقن التملق ويسبّح باسم الحاكم.. هذا أسلوب يرافق الشخصية الانتهازية المتملقة.. مع الإمام علي لا ينفع هذا التسبيح ولا يمر التملق الى أهدافه.. التسبيح لله فقط وليس لغيره.. وطالما كان الإمام علي مسؤولا عن تنصيب الموظف فهو مسؤول عن عزله أيضا لو ثبت فساده.
يرد في كتاب السيد المرجع الشيرازي ما يثبت هذه السياسة.. من كلامه مثلا (إنّ علي بن أبي طالب عليه السلام لا يريد الموظفين لكي يسبحوا باسمه شأن كثير من الحكام والساسةـ وإنما يريدهم يسبحون باسم الله تعالى، يريدهم على طريق الله دقيقاً وكاملاً ودائماً، لذلك: فكما تم نصبهم على يده، كذلك يرى نفسه مسؤولاً عن تصرفاتهم).
حتى يحدّ الحاكم من الفساد وينجح في مكافحته.. يذهب الى أسلوب المتابعة والتنبيه على الخطأ وإشعار الموظف بأنه تحت المراقبة.. هناك أسلوب المعاتبة.. يعتب الإمام على من يأتمنه.. خاصة ماذا يقدم للناس.. هل يرعاهم.. هل يؤدي ما بذمته من خدمات لهم.. الخطأ الدائم غير مسموح به لأنه دليل على الإهمال والتكاسل وعدم الاهتمام.. هنا سوف تكون العقوبة جاهزة لمن يستحقها.
هنا يعاقب الموظف بعيدا عن نوع الولاء ودرجته.. إذا بقيَ إصراره على الخطأ رغم التنبيه والنصح.. نلحظ ذلك في قول سماحة المرجع الكبير صادق الشيرازي (كان - الإمام (ع)- ينصح موظفيه، ثم يوجههم، ثم يعاتبهم على تصرفات غير لائقة، ثم إن لم يفد ذلك كله كان يعمد إلى عزلهم، وعقوبتهم إن استحقوا العقوبة).
لا حصانة للموظف المصرّ على الخطأ
هذه الدروس القيادية لمَ يتم إهمالها؟ قادة الحاضر من المسلمين متى ينبشون تجارب الماضي.. متى ينتشلون ما ينفعهم من النماذج الفريدة في تصريف أمور الدولة.. هل استفادوا حقاً من قادتنا عبر التاريخ.. لو كان الجواب بنعم.. ما كان المسلمون يعانون اليوم من التأخر والآخرون ينعمون بالتقدم ويحققون الامتياز تلو الآخر فيما نحن نراوح في نفس المكان.
كيف نتصرف حيال الخطأ.. هل نصححه أم نتركه وشأنه؟ هل نعاقبه.. في السابق كيف تتم معالجة هذا الشأن؟ هل الموظّف محمي ضد القانون.. لا يخضع له.. هل هناك موظفون من هذا النوع في واقعنا الوظيفي؟.. نعم هناك من له حصانة ضد العقاب حتى لو كان مستحقا له.. للأسف توجد لديه حصانة من النفوذ الرسمي او الحزبي او سواه.. في عهد الإمام علي لا يوجد إنسان خاطئ محمي من الجزاء بعد ان يتم تنبهه.
لهذا السبب يقول المرجع الشيرازي (دام ظله): (الحصانة الدبلوماسية، والحصانة الإدارية، وحصانة الوظيفة، ونحو هذه المصطلحات لا مفهوم لها عند علي بن أبي طالب عليه السلام إذا خرج الدبلوماسي عن الحق، وجار الإداري، وعمد الموظّف إلى ما لا يليق به من إجحاف، أو ظلم، أو عدم اهتمام بالأمة).
فالجميع متساوون أمام العقاب والثواب كأسنان المشط.. لا يوجد من هو محصّن إذا أصرّ على الزلل.. واقعنا اليوم مختلف.. صاحب السلطة يبحث عن الولاء ولا يعنيه معاقبة الموظف المخطئ.. (اعطني ولاءك أعطيك حمايتي).. هذا شعار قادة المسلمين اليوم.
وهناك عقبة أخرى.. القائد لا يتابع معاونيه وموظفيه ولا شأن له بهم.. حتى أنه يستكثر توجيههم نحو سبيل الحق.. يتركهم وشأنهم.. لا يراقبهم.. لا ينبههم.. فيزيدون من الأخطاء ويضاعفونها.. في عهد الإمام علي لا يوجد معاون أو موظف محمي.. أو غير مراقَب.. بهذه الطريقة صارت الدولة قوية ونظامها الإداري والسياسي رصين (كان الولاة والموظّفون الذي يبثهم الإمام هنا وهناك يعرفون أسلوب أمير المؤمنين عليه السلام جيداً.. لكن مع ذلك كله لم يكن ليفوّت علياً عليه السلام مراقبة أحوال ولاته وعمّاله ومحاسبتهم، لكي لا يظلم بعضهم الناس).. كما نلاحظ في قول السيد المرجع صادق الشيرازي.
وإذا كان القائد على هذه الدرجة من المتابعة والمراقبة لمعاونيه وموظفيه.. ومن يكرر الخطأ بإصرار سوف ينال جزاءه.. فكيف تضعف الدولة.. وكيف تسوء الأحوال؟؟ نظام الدولة وحركتها تسير كأنها عقارب الساعة المنضبطة.. والسبب جدية رأس السلطة في المتابعة والمراقبة والتنبيه والتصحيح.. ثم العقاب إذا لزم الأمر.. فالكيّ آخر العلاج.. وهو موجود لمن يستحقه.. كم من قادة المسلمين يتعامل مع مسؤوليته على هذه الشاكلة؟؟.. هل درسوا أسلوب الإمام علي في إدارة الحكم.. وهل تعلموا منه؟؟ نحن نشك في ذلك.
في عهد الإمام علي كان الناس أحرارا.. في العمل والتجارة والرأي وسوى ذلك.. ولكن صاحب المسؤولية الكبيرة.. صاحب المنصب الكبير يخضع للمحاسبة.. إنه ليس حرّا ولا معفيّا من الحساب.. يخضع للمراقبة.. وعندما يخطئ بحق الناس عليه أن يتلقّى العقاب.. اليوم لا يتم تطبيق هذا المبدأ.. فالموظف من (الحزب الحاكم.. والكتلة الأقوى.. والأقرب للحاكم) محصَّن ومحمي.. بعضهم تم تهريبهم خارج البلاد لكي يتخلصوا من العقاب.. نعم عامة الناس أحرار بأموالهم لأنها أموال خاصة.. لكن الموظف ليس حرا في التصرف بالمال العام.. لأنه ليس ملكه الخاص.. فهو ملك عام للأمة.. الإسراف به وتبذيره أو التجاوز عليه يوجب العقوبة.. حدث هذا في حكومة الإمام علي عليه السلام.
فـ (الناس في منطق الإسلام أحرار، لا يطالب أحد منهم بحساب، ولا يقال لأحد منهم: من أين لك هذا؟ قضاءً لحكم الله تعالى) كما يقول المرجع الشيرازي.. ويضيف سماحته (أما الوالي، والحاكم، والعامل والموظف الكبير، فيقال لـه: من أين لك هذا؟).. هل ساسة المسلمين اليوم وقادتهم يطبقون ذلك كي ينجحوا في مواجهة الفساد الإداري؟؟.. واقعنا يقول غير ذلك.
اضف تعليق