التكنلوجيا كميدان له منطقه الخاص احيانا – لها نزعة حتمية نحو تطور الثقافة الشعبية الفعالة نظرا للإمكانية المتمثلة بالنظرة العلمية والتقنية الجديدة. ان التحول الاكثر اهمية في الطرق التي تأمّل بها المؤرخون تاريخ التكنلوجيا في الثلاثين سنة الماضية هو الاعتراف الواضح بان التكنلوجيا هي دائما نتاج اجتماعي. وبالتالي فان مؤرخي التكنلوجيا اعترفوا دائما بحالة اللايقين التي تميز ظهور نماذج او اصناف تكنلوجية معينة.
توماس هجز Thomas Hughes هو من بين أهم مؤرخي التكنلوجيا في زمانه. كتابه الأخير (عالم صناعة الانسان: كيف نفكر في التكنلوجيا والثقافة) يُعتبر من الكتب الجديرة بالقراءة. انه ينظر الى التكنلوجيا من منظور واسع جدا ويسأل عن الكيفية التي اثّر بها هذا البُعد الحضاري على ثقافتنا في القرنين الماضيين. مدينة القرن العشرين، مثلا، ما كانت لتبرز للوجود بدون اختراع الكهرباء وبناء الصلب والمصاعد وشبكات الطرق وتكنلوجيا معالجة النفايات. ولهذا فان التكنلوجيا خلقت المدينة الحديثة. ولكن من الواضح ايضا ان الحياة في مدينة القرن العشرين قد شهدت تغيرات في حياة عدة اجيال من الناس القرويين الذي هاجروا اليها. وان الادب والفن والقيم والوعي الاجتماعي للناس في ذلك القرن تأثّرت حتما بهذه الانظمة التكنلوجية الجديدة.
هذا المستوى من التحليل يركز في مجاله الأوسع على الكيفية التي اثّرت بها التكنلوجيا على الثقافة (وربما على الكيفية التي أثّرت بها الثقافة على التكنلوجيا). أظهر هجز في عمله حقيقة ان معظم الاسئلة الملفتة حول الالتقاء بين "التكنلوجيا والمجتمع" يمكن تأطيرها بمستوى تجزيئي كبير. لننظر الى الارتباطات التي عرضها هجز في كتابه المبكر عن تاريخ الطاقة الكهربائية (شبكات الطاقة: الكهربة في المجتمع الغربي، 1880 – 1930):
1- اختراع (بواسطة افراد ذوي خلفية تعليمية وثقافية محددة)
2- تطور واقعي ملموس للموروث الثقافي ضمن التجربة(يستلزم علاقات اجتماعية معينة بين مختلف الخبراء والعمال)
3- "بيع "الابتكارات الى السلطات المحلية (للاضاءة وعمليات السحب) وللرأسماليين الصناعيين (لأغراض الطاقة)
4- ايجاد مستثمرين ومصادر تمويل لإستثمارات رأسمالية كبيرة في الطاقة الكهربائية.
5- تأسيس بنية تحتية لإيصال الطاقة الكهربائية
6- قوانين حكومية للممارسات الصناعية
7- تطوير امكانات بحث واسعة لمعالجة مشاكل التكنلوجيا.
كل جزء من هذه القصة المعقدة يستلزم عمليات مشروطة ومتداخلة بدرجة عالية مع علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية. وان الشكل النهائي للتكنلوجيا هو نتيجة للقرارات والضغوط المُمارسة عبر شبكة العلاقات التي من خلالها يتحدد شكل التكنلوجيا. غير ان النقطة الهامة هنا هي عدم وجود اية فترة في هذه القصة يصبح فيها بالإمكان وضع "التكنلوجيا" في جانب "والسياق الاجتماعي" في جانب الاخر. بدلا من ذلك، فان التكنلوجيا والمجتمع يتطوران مجتمعين.
يستكشف هجز ايضا بعض الطرق التي أثّرت فيها ثقافة الماكنة على الهندسة المعمارية والفن والادب. هو يناقش الفوتوغراف بواسطة شارلس شيلر (الذي عرّف باعماله الشهيرة الفن الصناعي)، والفنانين كارل بروسبيرج ومرسيل دوشامب، والمصممين امثال بيتر بهرين. الموضوع الرئيسي هنا هو فكرة ان التطورات التكنلوجية الصناعية احدثت تغيرات ثقافية هامة في اوربا وامريكا. امثلة هجز يأتي معظمها من الثقافة "العالية"، لكن المؤرخين للثقافة الشعبية ايضا ركزوا على تأثير التكنلوجيا مثل شبكة الطرق والسيارات او السجائر على الثقافة الشعبية الامريكية. هناك ايضا نقاش لـ (ديبورا كلارك) حول تاثير ثقافة السيارات، واختبار بام بينوك لتأثير اعلانات الكحول والتبغ على الثقافة الامريكية.
هنا لم يأخذ هجز بالاعتبار الخط الآخر من التأثير الممكن بين الثقافة والتكنلوجيا: كيف تؤثر الجماليات السائدة والافضليات الثقافية على تطور التكنلوجيا. هذه كانت فكرة هامة في خط التفسير المشار اليه بـ "البناء الاجتماعي للتكنلوجيا" (SCOT). يتحدث وايب بيكر عن البناء الاجتماعي للتكنلوجيا الكسولة مثل البايسكل. اما مؤرخ السيارات جس موم يجادل بان الاختيار بين الاحتراق الكهربائي والداخلي للمركبة في بداية القرن العشرين كان قد تحوّل الى افضليات واساليب حياة جمالية بدلاً من الفاعلية الاقتصادية والتقنية. هذا ايضا اتجاه تجزيئي للسؤال. انه ينطلق من فكرة اننا نستطيع تعلّم الكثير عبر اختبار العمليات "الجزئية" في الثقافة والمجتمع الذي يؤثر على تطور التكنلوجيا.
ان الاطار المفاهيمي "لنظرية التجميع" assemblages theory سيكون مفيداً في مناقشة تاريخ التكنلوجيا (انظر مانويل ديلاند في (فلسفة جديدة للمجتمع: نظرية التجميع والتعقيد الاجتماعي)، و(نك سرنكس الذي استعمل كثيراً مفهوم الاطار). الاطار هنا مفيد لأن التكنلوجيا ظاهرة اجتماعية تمتد من المطبخ الخاص لرب المنزل مرورا بمدن شيكاغو او برلين، وصولاً الى النت العالمي والنظام الدولي للتصنيع والتصميم. وهناك عملية مشابهة من التشكل والاشتراطية تحدث على المستوى الجزئي والمتوسط والكلي. بكلمة اخرى، ربما نستطيع فهم "التكنلوجيا" على المستوى الاخلاقي، كمركب معقد من الفعاليات والعمليات بعدة مستويات قريبة للفرد المركب اجتماعيا. اما القيمة المضافة من جانب السوسيولوجيا وتاريخ التكنلوجيا هي القاء الضوء على آليات العمل بكل المستويات التي لها تأثير على الاتجاه التراكمي وشكل التكنلوجيا المنبثقة.
حين نأتي لموضوع "التكنلوجيا والثقافة" لابد من الاشارة الى مجلة (التكنلوجيا والثقافة) وهي اكبر مجلة عالمية في تاريخ التكنلوجيا، برزت من جمعية تاريخ التكنلوجيا(SHOT، تأسست عام 1958). المجلة لعبت دورا هاما في تعريف الحقل عبر الثلاثين سنة الماضية وتشكل مصدرا حيويا لكل من يهتم بالاسئلة المثارة هنا.
اضف تعليق