اختتم قادة الاتحاد الأوروبي قمتهم التي عقدوها الجمعة في العاصمة السلوفاكية براتيسلافا في غياب بريطانيا للمرة الأولى منذ تأسيسه، وأكدوا التوصل الى "خارطة طريق" تتضمن إجراء إصلاحات داخل المنظومة الأوروبية، وذلك ردا على خروج بريطانيا من الاتحاد، وتعهد الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في مؤتمر صحفي مشترك بعد القمة بالعمل معا "بشكل مكثف جدا" من أجل نجاح الاتحاد بعد الخروج البريطاني.
وذكرت ميركل أن الزعماء الأوروبيين المجتمعين بدون بريطانيا، اتفقوا على عرض خطط جديدة لتنشيط الاتحاد الأوروبي بحلول الذكرى الستين للمعاهدة المؤسسة للاتحاد في مارس/ آذار المقبل. وقالت: لقد "اتفقنا على أن أوروبا، في الوضع الحرج الذي تجد نفسها فيه بعد الاستفتاء البريطاني وأيضا بسبب الصعوبات الأخرى التي لدينا، فإنه يتعين علينا أن نتفق بشكل مشترك على جدول أعمال ويتعين علينا أن تكون لدينا خطة عمل حتى نتمكن من تناول القضايا الفردية حتى الذكرى السنوية الستين لمعاهدات روما".
من يسمع كلام الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية وهما القوتان الأبرز في الاتحاد الأوربي يجدها متفائلة أكثر من اللازم لان هناك ثلاثة مشاكل رئيسية تواجه مستقبل الاتحاد الأوربي وحلولها ليست سهلة على الاطلاق كما يصورها هولاند وميركل وهي كالاتي:
1- ازمة اللاجئين: ربما تكون موجات الهجرة المتواصلة للاتحاد الأوربي هي السبب الأكبر لأغلب المشاكل الأمنية والسياسية وحتى "الانفصالية"، وقد تحملت المانيا القدر الأكبر من اللاجئين لكن طاقتها الاستيعابية ليست مفتوحة وهذا ما تؤكده المستشارة الألمانية في أكثر من مناسبة وقد استغلت هذه القمة الاوربية لتوبيخ الدول التي لم تتعاون معها في هذا الشأن ولو بشكل غير صريح إذ قالت إن الاتحاد بحاجة لمزيد من التضامن والتعاون وهي القيم التي أسسته عليها ست دول في عام 1957.
2- صعود الأحزاب المتطرفة: وفرت ازمة اللجوء البيئة الملائمة لتهييج الخلافات الاوربية وتظهرها الى السطح، فالأزمات الأمنية والاقتصادية وحتى السياسية دائما ما تلقي بها الأحزاب المتطرفة على سياسة الأبواب المفتوحة امام اللاجئين، كما ان غياب الخطط المدروسة لاستيعاب اللاجئين والمهاجرين أدت الى استغلال المتطرفين لهذه الثغرة وتأليب الفئات المسحوقة ضد بلدانهم وهذا يتضح في الهجمات الإرهابية التي ضربت دول الاتحاد الأوربي، وفي المقابل استغلت الأحزاب اليمينية هذه الهجمات لتأكيد وجهة نظرها برفض اللاجئين بل تعدت ذلك الى مطالبة الأحزاب اليمينية الى الانفصال عن الاتحاد الأوربي كونه لا يلبي الطموحات الوطنية والمثال "حزب البديل من اجل المانيا، وحزب الجبهة الوطنية في فرنسا". وكل هذه القضايا المتشابكة جعلت من أوربا مكانا آمنا لطفيليات الازمات.
3- توتر العلاقات مع الولايات المتحدة الامريكية: فالعلاقات بين الطرفين ليست على ما يرام منذ سنوات وكانت بريطانيا تمثل الطرف الأكثر انحيازا لصالح الولايات المتحدة وبخروجها باتت المشاكل بين الطرفين أكثر بروزا، والهاجس الدفاعي كان الأكثر الحاحا بالنسبة للأوربيين الذين يخشون من المرحلة المقبلة مع إمكانية انتخاب المرشح الجمهوري المثير للجدل دونالد ترامب. وحتى لو انتخبت المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون يبقى هاجس الاستقلال الدفاعي عن الناتو قضية ملحة، لان حلف الناتو لم يعد مهما بعد تنصله عن الوقوف مع تركيا التي وجدت نفسها وحيدة في مواجهة روسيا بعد حادثة اسقاط المقاتلة الروسية على الحدود السورية. كما ان الغطرسة الامريكية الاقتصادية واجبار الشركات الاوربية للخضوع لكل قرارات واشنطن بشأن العقوبات ضد أعداء أمريكيا لم يعد يحتمل، إذ ترفض بروكسل ان تكون العصى الاقتصادية لزجر كل أعداء واشنطن. وهذا واضح لا سيما بعد الاتفاق النووي الإيراني.
ويمثل المرشح الجمهوري دونالد ترامب حجر العثرة في أي علاقات اوربية أمريكية متينة فقد طالب في احدى تصريحاته بضرورة دفع الاوربيين ودول الناتو للأموال مقابل الخدمة الدفاعية التي توفرها الولايات المتحدة لهم، كما ان تصريحاته المثير لم تعجب قادة الاتحاد الأوربي بالمرة، وفي ضوء ذلك ذكر مارتن شولتز رئيس البرلمان الأوروبي لمجلة "دير شبيغل" الألمانية أن فوز المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأمريكية دونالد ترامب في التصويت المقرر سيكون مشكلة للعالم أجمع. وقال شولتز في المقابلة التي نشرتها المجلة على موقعها على الإنترنت الخميس 15 سبتمبر/أيلول، إن "حدث هذا الأمر فإنه سيشجع على انتخاب شخصيات مماثلة في أوروبا"..."ترامب ليس مشكلة للاتحاد الأوروبي فقط بل أيضا للعالم بأسره".
اذا ما اردنا الوقوف على الازمة التي يعانيها الاتحاد الأوربي فيمكن النظر الى خصومه الاخرين الذين وكما يبدو انهم افضل حالا منه، ففي الوقت الذي تصعد فيه القوة الصينية (اقتصاديا وعسكريا)، وروسيا (عسكريا)، وتزداد العلاقات بينهما على مختلف الأصعدة؛ يتراجع الاتحاد الأوربي امنيا وسياسيا واقتصاديا فعلى مستوى الامن لم تعد اخبار التفجيرات في باريس او ميونخ مثيرة او مفاجئة، وعلى المستوى الاقتصادي فان التكتل الأوربي يتجه رويدا رويدا للتراجع بعيدا خلف العملاق الصيني، اما سياسيا فالدور الأوربي الخارجي تحديدا يبدو شبه معدوم او مهمش في مختلف القضايا الدولية المحورية وخاصة في الشرق الأوسط التي بات الحل والاتفاقات بشأنها بيد المفاوضين الروس والامريكيين.
يشير الواقع الأوربي انه لن يستطيع تضميد جراح الخروج البريطاني، فمع خروجها رفعت لندن الغطاء عن المشاكل الاوربية القابعة في قِدْرٍ يغلي بالعنصرية والتطرف والمشاكل الاجتماعية. وهذه المؤتمرات والقمم لا تعبر عن توافق او نجاح بقدر ما تبحثه عن حلول لم تعد واقعية وهذا ما أكده وزير الخارجية السلوفاكي إيفان كُرتسوك قبل انعقاد القمة الاوربية بانها: لن تكون رسمية ولن يتم إتخاذ أية قرارات. وبالفعل فقد كانت القرارات لا تتعدى الخطابات المعتادة التي تؤكد على قوة الاتحاد الأوربي وصموده امام انتشاء وباء التطرف والخلافات الداخلية التي قد تمثل (سرطان) الالفية الثالثة بالنسبة لأوربا.
اضف تعليق