q

قبل ثلاثين عاما، نظر العديد من الاوربيين الى التعددية الثقافية multiculturalism -احتضان المجتمع المتنوع– باعتبارها الجواب لمشاكل اوربا الاجتماعية. اليوم، يرى عدد كبير من الناس ان التعددية هي سبب تلك المشاكل. هذا الانطباع قاد التيار العام للسياسيين بما فيهم رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون والمستشارة الالمانية ميركل، للإدانة العلنية للتعددية الثقافية والتحدث صراحة عن اخطارها. ذلك سرّع من نجاح احزاب اليمين المتطرفة والسياسيين الشعبويين عبر اوربا، بدءا من حزب الحرية في شمال ايرلندا الى الجبهة القومية في فرنسا. وفي حالات متطرفة قادت تلك التصريحات الى اثارة اعمال العنف مثل الاحداث التي اعقبت قيام بريفيك اليميني المتطرف بقتل ثمانية اشخاص في جزيرة اوتويا بالنرويج عام 2011.

كيف حدث مثل هذا التحول؟ طبقا لنقاد التعددية الثقافية، كانت اوربا قد سمحت للهجرة المفرطة دون استكمال متطلبات التكامل الاجتماعي – وهو ما قاد الى تآكل النسيج الاجتماعي وأضعف الهويات القومية وأضر بثقة الجمهور. انصار التعددية الثقافية، من جهة اخرى، يرون ان المشكلة ليست في المزيد من التنوع وانما في المزيد من العنصرية.

لكن الحقيقة حول التعددية الثقافية هي اكثر تعقيدا مما يظن كلا الجانبين، والنقاش حولها عادة ينحدر نحو السفسطة. التعددية الثقافية اصبحت تعبيرا لقضايا اجتماعية وسياسية اخرى: الهجرة، الهوية، الخيبة السياسية، انحدار الطبقة العاملة. مختلف الدول اتبعت مسارات متميزة. المملكة المتحدة سعت لإعطاء مختلف الجماعات الاثنية حصة متساوية في النظام السياسي. المانيا شجعت المهاجرين لممارسة حياة منفصلة بدلا عن منحهم المواطنة. فرنسا رفضت سياسة التعدد الثقافي مفضلة سياسات الاستيعاب والتكامل. محصلات ذلك اختلفت ايضا: في المملكة المتحدة، كان هناك عنف طائفي، في المانيا، ابتعدت الجالية التركية عن التيار الرئيسي للمجتمع، وفي فرنسا، اصبحت العلاقة بين السلطات والجاليات من شمال افريقيا متوترة كثيرا. ولكن في كل مكان، كانت النتائج هي ذاتها: مجتمعات متشظية، اقليات مغتربة، ومواطنين متذمرين.

ان التعددية الثقافية، كأداة سياسية عملت ليس مجرد استجابة للتنوع وانما ايضا كوسيلة لكبحه. هذا الاتجاه يكشف عن مفارقة. سياسات التعدد الثقافي تقبل بان المجتمعات متنوعة، مع ذلك هي تفترض ضمنا ان هذا التنوع ينتهي عند حافات الجاليات الاثنية. انها تسعى الى شرعنة التنوع عبر وضع الناس في صناديق اثنية وثقافية – في جالية مسلمة متجانسة، على سبيل المثال، وتعريف حاجاتهم وحقوقهم طبقا لذلك. هذه السياسات ساعدت في خلق الانقسامات التي اريد ادارتها.

اسطورة التنوع

ان فك التشابك في العديد من نقاشات التعددية الثقافية يتطلب فهم المفهوم ذاته. مصطلح "التعدد الثقافي" يعرّف كل من المجتمع المتنوع، عادة نتيجة الهجرة، والسياسات الضرورية لإدارة مثل هكذا مجتمع. ولذا هو يضم كل من وصف المجتمع ووصفة للتعامل معه. اجتماع الاثنين –المشكلة المتصورة مع الحل المفترض– شدد الضغط على جوهر النقاش. ازالة ذلك الضغط يتطلب تقييما حذرا لكل من المشكلة والحل.

كل من المؤيدين والمنتقدين للتعددية الثقافية يقبلون بمبدأ ان الهجرة الواسعة حولت المجتمعات الاوربية بجعلها اكثر تنوعا. والى حد ما يبدو هذا صحيحا. اليوم، المانيا هي ثاني دولة يقصدها المهاجرون بعد الولايات المتحدة. في عام 2013، كان هناك اكثر من عشرة ملايين شخص او ما يزيد عن 12% من السكان ولدوا في الخارج(بلدان الاصل). في النمسا، بلغت تلك النسبة 16%. في السويد 15% وفي فرنسا والمملكة المتحدة حوالي 12%. ومن منظور تاريخي، لا يمكن تأكيد الادّعاء بان هذه الدول هي اكثر تعددية من السابق. مجتمعات اوربا في القرن التاسع عشر ربما تبدو متجانسة وفق الرؤية السائدة اليوم، لكن ذلك يختلف عن الكيفية التي نظرت بها تلك المجتمعات لنفسها في ذلك الوقت.

لو نظرنا الى فرنسا، في سنوات الثورة الفرنسية، مثلا، كان نصف السكان فقط يتحدثون الفرنسية و حوالي 12% فقط يتحدثونها بطلاقة. وكما يبين المؤرخ ايغين ويبر ان تحديث وتوحيد فرنسا في ما بعد الثورة تطلّب زعزعة عميقة للثقة وعملية طويلة من السيطرة الذاتية الثقافية والتعليمية والسياسية والاقتصادية. تلك الجهود خلقت دولة فرنسا الحديثة وافرزت ولادة فكرة تفوّق فرنسا(واوربا) على الثقافات غير الاوربية. لكنها ايضا عززت الاحساس بالاختلاف الثقافي والاجتماعي الذي لايزال يشعر به معظم السكان. في خطاب للجمعية السايكولوجية-الطبية في فرنسا عام 1857، تساءل المسيحي والاجتماعي فيليب بوشيز كيف يمكن حدوث هذا "من بين السكان كما نحن، قد يتشكل العرق –ليس عرقا واحدا وانما عدة اعراق- بشكل مزر جدا، ودوني واقل نقاءا لدرجة انه ربما يُصنف دون اغلب الاجناس البربرية الوضيعة، لأن دونيته احيانا تتجاوز العلاج". "العرق" الذي سبب لبوشيز هذا القلق لم يكن المهاجرون من افريقيا او آسيا وانما فقراء الارياف في فرنسا.

في العصر الفيكتوري، نظر العديد من البريطانيين ايضا، للطبقة العاملة الريفية والفقراء الريفيين كآناس اخرين. مقالة قصيرة عن حياة الطبقة العاملة في ساحة بيثال غرين بشرق لندن، ظهرت عام 1864 في نشرة السبت The Saturday Review، المجلة الليبرالية الشهيرة آنذاك، كانت نموذجا لموقف الطبقة الوسطى الفكتورية. "فقراء ساحة بيثال غرين" بشرق لندن، كما توضح القصة، كانوا "جماعة منعزلة، عرق لا نعرف شيئا عنهم، حياتهم مختلفة جدا عنا، افراد ليس لنا اتصال بهم." والشيء ذاته كما تقترح المقالة يصح على "الجماهير الواسعة للفقراء الريفيين". وبالرغم من ان الفروق بين العبيد والسادة كانت بارزة اكثر من تلك التي تفصل بين الاغنياء والفقراء، لكنها في الحقيقة قدمت نظيرا مشابها، انها كانت عميقة لدرجة منعت "اي شيء من قبيل الارتباط او المصاحبة".

اليوم، تمثل ساحة بيثال مركزا للجالية البنغلاديشية في شرق لندن. العديد من البريطانيين البيض يرون سكانها كفقراء جدد لساحة بيثال، متميزون عنهم ثقافيا وعرقيا. ولكن المهمشين سياسيا هم فقط منْ يقارن الاختلافات بين البريطانيين البيض وجيرانهم البنغاليين مع تلك التي بين السادة والعبيد. الاختلافات الاجتماعية والثقافية بين السيد الفيكتوري او مالك المصنع، من جهة، وعامل يدوي او ميكانيكي في مزرعة، من جهة اخرى، كانت في الحقيقة اكثر بكثير من الاختلاف بين الابيض والمقيم من اصول بنغالية اليوم.

هناك نقاشات تاريخية مشابهة تدور حول الهجرة. العديد من نقاد التعددية الثقافية يقترحون ان الهجرة الى اوربا اليوم هي غير تلك في العهود السابقة. في كتابه(تأملات في الثورة في اوربا) يقترح الصحفي كريستوفر كالدويل بانه قبل الحرب العالمية الثانية، جاء المهاجرون للاقطار الاوربية اغلبهم من نفس القارة ولذلك تم استيعابهم بسهولة. يرى كالدويل ان "استخدام كلمة هجرة لوصف الحركات الاوربية الداخلية"، لا يختلف كثيرا عن وصف المقيم في نيويورك كـ "مهاجر"الى كاليفورنيا. هو يرى ان المهاجرين بين الدول الاوربية قبل الحرب اختلفوا عن الهجرة من خارج اوربا بعد الحرب بسبب ان "الهجرة من الدول المجاورة لا تثير الكثير من القلق المتعلق بالمهاجرين، مثل "المدى الذي ينسجمون به؟، "هل الاستيعاب هو ما يريدونه؟ والأهم من ذلك، اين يكمن ولائهم الحقيقي؟.

هذه الاسئلة لقيت ترحيبا من المهاجرين الاوربيين في سنوات ما بعد الحرب. كتب الباحث ماكس سلفرمان، ان فكرة فرنسا استوعبت المهاجرين من اماكن اخرى في اوربا بسهولة قبل الحرب العالمية الثانية هي مجرد "وهم". والشيء ذاته يصح على المملكة المتحدة. في عام 1903 عبّرت لجنة ملكية حول الهجرة عن مخاوفها من ان القادمين الجدد للمملكة المتحدة سيميلون للعيش "طبقا لتقاليدهم واعرافهم". كانت هناك ايضا مخاوف من ان "المنتجات الرديئة في اوربا ربما يُلقى بها في السوق البريطاني". اول قانون للهجرة في بريطانيا عام 1905 Aliens Act صُمم اساسا لوقف تدفق اليهود الاوربيين. بدون هذا القانون، كما يرى رئيس الوزراء ارثر بلفور، سوف لن تكون القومية البريطانية هي ذاتها وسوف لن تكون هي الوريث لنا خلال العصور القادمة.

العمل تحت المظلة

في وصف المجتمعات الاوربية الحالية بالتنوع الاستثنائي، تكون التعددية الثقافية قد انتكست بشكل واضح. ما هو اذاً علاج التعددية الثقافية في ادارة التنوع المفترض؟ في العقود الثلاثة الماضية، تبنّت العديد من الدول الاوربية سياسات التعدد الثقافي، لكنها قامت بهذا بطرق متميزة. اجراء مقارنة تاريخية بين هذه الدول، كالمملكة المتحدة والمانيا، وفهم مابينهما من مشتركات، يكشف الكثير عن التعددية الثقافية ذاتها.

احدى اكثر الاساطير السائدة عن السياسات الاوربية هي ان الحكومات تبنّت سياسات تعددية لأن الاقليات ارادت الاعلان عن اختلافاتها. وبالرغم من ان الاسئلة حول الاستيعاب الثقافي قد استحوذت على انتباه النخب، لكنها لم تكن تشغل المهاجرين انفسهم حتى عهود متأخرة. عندما وصلت اعداد كبيرة من المهاجرين من الكاريبي والهند وباكستان الى المملكة المتحدة في اواخر الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي لسد النقص في العمالة، خشي المسؤولون البريطانيون من ان هؤلاء المهاجرين سيضعفون احساس البلد بالهوية. وكما حذر تقرير الحكومة عام 1953"جماعة ملونة كبيرة كسمة قائمة في حياتنا الاجتماعية ستضعف... مفهوم انجلترا او بريطانيا التي ارتبط بها البريطانيون في جميع دول الكومنويلث ".

المهاجرون جلبوا معهم تقاليدهم واعرافهم من بلادهم الاصلية، وهم فخورون بها. لكنهم نادرا ما انشغلوا بالاحتفاظ بفروقاتهم الثقافية، ولا هم ايضا اعتبروا الثقافة كقضية سياسية.. ما اساء لهم كان ليس الرغبة بان يُعاملوا بشكل مختلف وانما حقيقة انهم بالفعل جرت معاملتهم بشكل مغاير. اهتمامهم الرئيسي كان العنصرية وعدم المساواة، وليس الدين والاثنية. في العقود اللاحقة، برز جيل جديد من النشطاء السود والاسيويين، شكلوا جماعات مثل حركة الشباب الاسيوي، عملت على تلك المظالم، بتنظيم الاحتجاجات متحدية التمييز العنصري في العمل والترحيل وعنف اجهزة الشرطة. هذه الجهود بلغت ذروتها في سلسلة من التمردات التي اندلعت في المدن الداخلية للمملكة المتحدة في اواخر السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي.

وهنا بدأت السلطات البريطانية تدرك بانه ما لم تُمنح للاقليات حصة سياسية في النظام، فان التوتر سيستمر مهددا استقرار مراكز المدن. من هذا السياق برزت سياسات التعددية الثقافية. الدولة، على كلا الصعيدين القومي والمحلي دشنت ستراتيجية جديدة لسحب السود والاسيويين الى العملية السياسية عبر تخصيص منظمات معينة او قادة جاليات ليمثلوا مصالحهم. الاتجاه الجديد اعاد تعريف مفهومي العنصرية والمساواة. العنصرية لا تعني الآن مجرد انكار حق المساواة وانما ايضا انكار حق الاختلاف. والمساواة لم تعد تتضمن امتلاك الحقوق التي تتجاوز العرق والاثنية والثقافة والمعتقد، انها تعني تأكيد مختلف الحقوق المترتبة بسبب ذلك.

لننظر في حالة برمنجهام وهي ثاني مدينة شعبية في المملكة المتحدة. في عام 1985، اجتاحت المدينة اضطرابات واسعة نتيجة الاستياء العام من الفقر والبطالة وقمع الشرطة. شخصان ماتا في تلك الاحداث والعديد اصيبوا بجراح. بعد الاضطرابات سعى المجلس البلدي الى اشراك الاقليات عبر خلق تسع مظلات او منظمات للجماعات تعمل على تشجيع اعضاءها في مسائل سياسة المدينة. هذه اللجان تقررت وفقا لحاجة كل جماعة، والكيفية التي تخصص بها الموارد لها، والطريقة التي توزع بها السلطة السياسية. انها اصبحت وبفاعلية الاصوات الممثلة للجماعات المعرّفة اثنيا.

كان المجلس البلدي يأمل بدفع الاقليات الى العملية السياسية، لكن الجماعات كافحت لتعريف حقوقها الفردية والجماعية. بعضها مثل حركة الشعوب الكاريبية والافريقية، مثّلت جماعة اثنية، جماعات اخرى مثل مجلس الكنائس بقيادة السود كانت ايضا دينية. التنوع بين الجماعات كان يقابله تنوع ضمنها، لم يكن جميع الناس الممثلين بلجنة الخطط الاستشارية الاسلامية البنغالية، على سبيل المثال، متساوين في التدين. مع ذلك خصصت خطة مجلس المدينة كل عضو في الاقلية الى جالية منفصلة، وعرّفت حاجة كل جماعة ككل، ووضعت مختلف المنظمات في منافسة مع غيرها للحصول على موارد المدينة. وكل شخص يقع خارج هذه الجاليات المعرّفة يتم استبعاده كليا من العملية التعددية الثقافية.

المشكلة في سياسات برمنجهام هي انها ركزت على الاثنية كعنصر اساسي للاستحقاق. تخصيص الموارد وفق خطوط اثنية ودينية اصبح ممارسة مقبولة. لذا بدلا من تلبية حاجات الناس او توزيع الموارد بالتساوي، نجد المنظمات اُجبرت للتفكير في توزيع الاثنية. النتائج كانت كارثية. في شهر اكتوبر 2005 اي بعد عقدين من الاحداث الاولى، انفجر العنف في المناطق المجاورة. حيث نزل المحتجون من السود والاسيويين الى الشوارع احتجاجا على الفقر والبطالة وسلوك الشرطة. في عام 2005 اصبح الصراع بين السود والاسيويين.

لماذا اصبحت جاليتان قاتلتا جنبا الى جنب عام 1985 تقاتلان بعضهما عام 2005؟ الجواب يكمن في سياسات برمنجهام في التعددية الثقافية. ان نموذج المشاركة من خلال مظلة جماعات ادت الى المنافسة بين جاليات السود والاقلية الاثنية حول الموارد بدلا من اولوية الحاجات والعمل عبر الجالية، مختلف جماعات المظلة حاولت تعظيم مصالحها الخاصة.

سياسة المجلس البلدي، لم تؤد فقط الى ربط الناس بقوة الى هويات معينة وانما ايضا قادتهم للخوف والتذمر من الجماعات الاخرى كمنافسين للسلطة والنفوذ. هوية الفرد كان يجب تأكيدها كشيء متميز عن هويات الافراد من الجماعات الاخرى: كونك بنغالي في برمنجهام يعني ايضا لست ايرلنديا او سيخا وليس افريقيا كاريبيا. كانت النتيجة في برمنجهام تأسيس انقسامات بين الجاليات السود والأسيويين امتدت لتتحول الى عنف عام.

انفصال ولامساواة

طريق المانيا للتعددية الثقافية كان مختلفا عن المملكة المتحدة رغم ان نقطة البدء كانت واحدة. كغيرها من دول اوربا الغربية واجهت المانيا نقصا كبيرا في العمالة في السنوات التي اعقبت الحرب العالمية الثانية فقامت بتوظيف كثيف للعمال. على عكس بريطانيا، العمال الجدد جاؤوا ليس من المستوطنات السابقة وانما من دول حوض البحر المتوسط مثل اليونان وايطاليا واسبانيا وتركيا. هم ايضا قدموا ليس كمهاجرين وانما كعمال ضيوف، يتوقع عودتهم لبلدانهم عندما لم يعد الاقتصاد الالماني بحاجة لخدماتهم.

وبمرور الزمن، انتقل هؤلاء الضيوف، والغالبية منهم من الاتراك، من كونهم ضرورة مؤقتة الى وجود دائم. هذا كان بسبب ان المانيا استمرت بالاعتماد على عملهم لأن المهاجرين واطفالهم جاؤوا ليروا المانيا وطنا لهم. لكن الدولة الالمانية استمرت بالتعامل معهم كخارجيين ورفضت مواطنتهم.

المواطنة الالمانية حتى وقت قريب ترتكز على مبدا "حق الدم" فيه الفرد يكتسب المواطنة فقط عندما يكون ابوا الفرد مواطنين. المبدأ استبعد من المواطنة ليس فقط الجيل الاول من المهاجرين وانما اولادهم المولودين في المانيا. في عام 1999 صدر قانون جديد للوطنية جعل من السهل للمهاجرين اكتساب المواطنة. مع ذلك غالبية الاتراك بقوا خارج المواطنة. فقط ثمانمائة الف تركي من مجموع ثلاثة ملايين حصلوا على حق المواطنة.

وبدلا من الترحيب بالمهاجرين كمتساوين، تعامل السياسيون الالمان مع ما سمي بالمشكلة التركية من خلال سياسة التعددية الثقافية. بدءا من عام 1980، شجعت الحكومة المهاجرين الاتراك للحفاظ على ثقافتهم الخاصة ولغتهم واسلوبهم في الحياة. السياسة لم تجسد احتراما للتنوع بقدر ما هي وسيلة ملائمة لتجنب قضية خلق ثقافة مشتركة. والنتيجة الرئيسية كانت ظهور جاليات موازية.

الجيل الاول من المهاجرين كان علمانيا، والذين كانوا متدينين لم يكونوا متشددين في ايمانهم وممارساتهم. اليوم، تقريبا ثلث البالغين من الاتراك في المانيا يذهبون بانتظام الى المساجد، وهي نسبة اعلى مما في عدة اجزاء من تركيا. كذلك، لم تكن المرأة التركية من الجيل الاول ترتدي غطاء الراس، حاليا العديد من بناتهن يرتدين الغطاء. العديد من الاتراك ليس لديهم الحافز للمشاركة في الجالية القومية ولا يجهدون انفسهم لتعلّم الالمانية.

سياسة الاستيعاب

سياسة فرنسا في الاستيعاب اعتُبرت بشكل عام القطب المضاد للتعددية الثقافية، التي رفضها السياسيون الفرنسيون بفخر. خلافا لباقي اوربا، هم اصروا بان فرنسا تعامل كل فرد كمواطن بدلا من عضو في جماعة ثقافية او اثنية معينة. في الواقع، فرنسا منقسمة اجتماعيا كالمانيا او المملكة المتحدة وبطريقة مشابهة.

الاسئلة المتعلقة بالسياسة الاجتماعية الفرنسية، والانقسامات الاجتماعية في البلاد، اصبحت محط تركيز حاد في باريس في شهر جنوري عام 2015، عندما قام احد الاسلاميين بقتل 12 شخصا رميا بالرصاص في مكتب مجلة شارل هيبدو. السياسيون الفرنسيون اعتبروا سياسات التعدد الثقافي مسؤولة عن تربية الجهاديين في المملكة المتحدة. الان عليهم الاجابة لماذا مثل هؤلاء الارهابيين جرت تربيتهم في فرنسا الاستيعابية ايضا.

احيانا يُطرح تبرير ان هناك خمسة ملايين مسلم في فرنسا – اكبر جالية مسلمة في اوربا الغربية. في الحقيقة، المهاجرون من اصول شمال افريقيا هم اقل تدينا. حيث كانوا علمانيين وربما معادين للدين. تقرير بيو ريسيرش سنتر عام 2006 يشير الى ان 42% من المسلمين في فرنسا عرّفوا انفسهم كمواطنين فرنسيين اولا – اكثر من المانيا واسبانيا او المملكة المتحدة. اعداد متزايدة في الفترة الاخيرة اصبحت منجذبة للاسلام. ولكن حتى اليوم، طبقا لدراسة ايفوب عام 2011، فقط 40% عرفوا انفسهم كمسلمين ملتزمين، و25% فقط يحضرون صلاة الجمعة.

وكما في بريطانيا، واجه الجيل الاول من المهاجرين الى فرنسا عقب الحرب العالمية الثانية مقدارا لا يستهان به من العنصرية، اما الجيل الثاني كان اقل رغبة بقبول التمييز الاجتماعي والبطالة وبطش عناصر الشرطة. هم نظموا انفسهم في منظمات علمانية وذهبوا الى الشوارع عادة في احتجاجات عنيفة. الاضطرابات التي اكتسحت المدن الفرنسية في 2005 كشفت عن تمزق المجتمع الفرنسي تماما مثلما حدث لبريطانيا قبل عقدين من ذلك التاريخ.

في المملكة المتحدة كانت سياسات التعدد الثقافي اعترافا بمجتمع ممزق ومصدرا له. في فرنسا، سياسات الاستيعاب قادت الى نفس النتيجة. السياسيون وهم يواجهون جمهورا غير منخرط وفاقد للثقة، حاولوا اعادة التأكيد على الهوية الفرنسية. ولكن بما انهم غير قادرين على التعريف الواضح للافكار والقيم التي تميز البلد، هم قاموا بهذا اساسا عبر بذر الكراهية تجاه مظاهر الاغتراب – كتحريم النقاب كما حصل عام 2010.

وبدلا من قبول الافريقيين الشماليين كمواطنين تامين، مالت السياسة الفرنسية الى تجاهل العنصرية والتمييز الذي يواجهونه. الكثير في فرنسا ينظرون الى مواطني شمال افريقيا الاصل ليس كفرنسيين وانما كعرب او مسلمين. لكن الجيل الثاني من شمال افريقيا ابتعدوا عن ثقافة آبائهم وعن التيار الرئيسي للاسلام باعتبارهم من مجتمع فرنسي اوسع. هم وقعوا ليس بين ثقافتين بل انهم ليسوا في اي منهما. وبالنتيجة بعضهم عاد الى الاسلام والقليل عبّروا عن سلوك عدواني من خلال عنف الجهاديين.

وفي نفس الوقت، فاقمت سياسات فرنسا الاستيعابية الاحساس بالانعزال الذي تشعر به جاليات الطبقة العاملة التقليدية. طبقا لاستبيان اجري عام 2013( Ipsos-CEVIPOF poll) وُجد سبعة من بين كل عشرة اشخاص اعتقدوا بوجود الكثير من الاجانب في فرنسا، و74% اعتبروا الاسلام غير منسجم مع المجتمع الفرنسي معتبرين الاسلام تهديدا للقيم الفرنسية وهو ما اضاف قوة الى الدور السياسي للثقافة وزاد من اليأس من سياسة التيار السائد.

هل هناك طريقة اخرى؟

التعددية الثقافية والاستيعاب استجابتان سياسيتان مختلفتان لنفس المشكلة: تجزئة المجتمع. لكن كلاهما له تأثير واحد في جعل الاشياء اكثر سوءا. حان الوقت اذا للتحرك الى ما وراء النقاشات غير المنتجة بين الاتجاهين. وذلك يتطلب عمل ثلاثة انواع من التمييز.

اولا، يجب على اوربا ان تفصل بين التنوع كتجربة معاشة والتعددية الثقافية كعملية سياسية. تجربة العيش في مجتمع اصبح متنوعا بفعل الهجرة يجب الترحيب بها. اما محاولات تسييس هذا التنوع من خلال اعتراف رسمي بالاختلافات الثقافية يجب ان تُقاوم.

ثانيا، يجب على اوربا ان تميز بين عمى الالوان وعمى العنصرية. الحل الاستيعابي بالتعامل مع كل الاشخاص بالتساوي كمواطنين، بدلا من كونهم حاملين لخلفيات تاريخية ثقافية وعرقية معينة هو شيء ثمين. لكن ذلك لا يعني ان الدولة يجب ان تتجاهل التمييز ضد جماعات معينة. المواطنة ليس لها معنى عندما يتم التعامل مع مختلف طبقات المواطنين بطريقة مختلفة، ـسواء بسبب سياسات التعددية الثقافية او بسبب العنصرية.

اخيرا، يجب على اوربا ان تميز بين الناس والقيم. التعدديون الثقافيون يجادلون بان التنوع الاجتماعي يفسد امكانية وجود قيم مشتركة. وبالمثل، يقترح الاستيعابيون ان مثل هذه القيم ممكنة فقط ضمن مجتمع متجانس اثنيا وثقافيا. كلاهما يعتبر الجاليات الاثنية ككل متجانس ارتبط بمجموعة معينة من السمات الثقافية والمعتقدات والقيم بدلا من اجزاء مكونة للديمقراطية الحديثة.

النقاش الحقيقي يجب ان يكون ليس بين التعددية الثقافية والاستيعاب وانما بين شكلين من الاولى وشكلين من الثانية. السياسة المثالية يجب ان تربط بانسجام بين احتضان التعددية للتنوع الحقيقي، بدلا من النزعة لتسييس الاختلاف، والحل الاستيعابي في معاملة كل شخص كمواطن، بدلا من النزعة لبناء هوية قومية عبر تشخيص جماعات معينة كغرباء عن الامة. على صعيد الممارسة، عملت اوربا عكس ذلك. انها شرّعت اما سياسة تعدد ثقافي وضعت الجاليات في صناديق ضيقة او سياسة استيعابية ابعدت الاقليات عن الاتجاه التقليدي العام.

* الشؤون الخارجية Foreign Affairs، مارس/ابريل 2015

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق