لقد دأبنا كعراقيين، نخبويين وجمهور عام، على تحميل أوزار حياتنا السياسية والاجتماعية على كاهل النظام، سواء في منظومته الدستورية والتشريعية والتنفيذية، وقد شمل التأثيم لهذا النظام حتى منظومته القضائية، مما حدا الى تكوّن وجهة نظر أو رأي عام عراقي حول التأثيم الكلي للهيئات والمؤسسات الرسمية والمعبرة عن هيكلية الدولة ووجودها، اضافة الى التأثيم التفصيلي لكل الافراد المشاركين في ادارتها والعاملين في دوائرها، التي تظل مشاركتهم وادارتهم هي محور التأثيم عمليا، والذي تمدد الى تأثيم الدولة بأزاء الفساد–الاثم الذي مارسوه أو تورطوا به في مشاركتهم وادارتهم في مفاصل النظام ومواقع العمل في الدولة.
لقد عشنا إشكالية التداخل والمماهاة الخالصة بين النظام الحاكم والدولة، فالنظام الحاكم ظل يشكل مفهوم الدولة في الرؤية العراقية العامة، وهو يعود الى عوامل تاريخية واجتماعية وقنوات سياسية ضيقة حصرت الدولة في طبيعة النظام القائم، وبذلك شمل التذمر والتأثيم ومن ثم الالغاء للدولة من جانب مواطنيها، فالدولة التي تنطق أو تصمت، تتحرك أو تسكن، تبعا لإرادة النظام القائم هي دولة ملغاة لاوجود حقيقي لها، وانما على سبيل المجاز السياسي وهي تكون قائمة دون حقيقة قانونية مما يعيق تفسيرها نظريا ويعطل تبريرها عمليا، بل هي قائمة حتى دون حقيقة تاريخية مما يدعها دائما مهددة بالزوال وهو ما حدث مع الدولة العراقية بعد سقوط نظامها في 9/4/ 2003.
لقد عملت الانظمة المستبدة التي حكمت العراق في العصر الحديث على امتصاص الدولة وإذابتها في مسالك او سلوك النظام القائم، واستهلاك مؤسساتها في الهيكل التنظيمي للحزب الحاكم أو الجهة الحاكمة، هنا نذكر بمقولة دكتاتورية كانت هي الحاكمة أو الحاكية عن تشوهات الدولة العراقية في الذهنية العراقية العامة وهي مقولة "اذا قال صدام قال العراق" التي درج النظام الدكتاتوري على الترويج لها والتأسيس وفقا لها لدولة لم تعد قائمة بفعل سياسات قائمة وفق ضوابط الاستبداد ومنهج الانفراد بالسلطة، وهو منهج يقوض حقيقة الدولة.
فالدولة وفق جورج بردو في نظريته الدولة –المؤسسة يرهن وجود الدولة بانتقال السلطة فيها من الافراد - مالكيها القدامى الى شخص أو كيان مجرد هو الدولة بالذات – فلسفة الدولة، د. منذر الشاوي، ص 45 - ولذلك نرى من الضروري فك التداخل في الذهنية العراقية بين الدولة والنظام الحاكم الذي يمتلك السلطة، وتشتيت المماهاة بينهما لغرض العمل على ديمومة بقاء الدولة وتغيير النظام الحاكم وفق منطق الصالح العام للشعب والدولة، وهما يتداخلان في علاقة حقيقية ومماهاة ليست مجازية وفق هيغل، الذي يرى الدولة بانها الشكل النهائي للمجتمع الانساني، وكذلك يراها روسو بصفتها حتما تتحد فيها ارادة المواطنين فتصير هي ارادة الدولة، بينما يرى روبرت ماكيفر أن المجتمع غير الدولة وأنه سابق عليها – تكوين الدولة، روبرت ماكيفر، ص 484-486-
لقد كانت واحدة من مشاكلنا العصية على الحل هو إبهامات البناء الديمقراطي الذي باشرناه أو توقعناه في بلدنا بعد 9/4/ 2003 م واعتبرنا الديمقراطية هي بمثابة الحل الساحر لكل أزماتنا أو هكذا أوهمتنا اللبرالية الاميركية والمؤيدون لها في الداخل العراقي، وأنها الديمقراطية، السبيل الخلاصي وقاعدة بناء دولة حديثة في العراق تقوم على مفاهيم حقوق الانسان وإمكانات السوق الحرة، وقد فاتنا أن الديمقراطية في تجربتها التاريخية هي سلوك سياسي عام يتعلق بالنظام السياسي ولا صلة له في هذه التجربة بتأسيس الدولة وبنائها ونحن كعراقيين لم ننجز هذا البناء والتأسيس لدولتنا الذي يحيل السلطة فيها الى شخص أو كيان مجرد، أو يؤشر وجودا حقيقيا لها، مما يؤشر عدم قدرتنا على بناء نظام ديمقراطي بل وعدم الجدوى في السعي نحو بناء نظام ديمقراطي أو أي نظام سياسي أخر معادل له في حالتنا الراهنة.
وبالمناسبة فان هذه الاشكالية هي التي توضح فشل المشروع الديمقراطي في بلدنا وتفسر الفوضى الراهنة والضاربة في الدولة العراقية – المفترضة. اذا علينا أن نشرع في تحديد دولتنا وفق أي الاسس نشًرع لها هويتها، هل وفق أسس النظرية التفسيرية القديمة أم وفق النظرية التبريرية الحديثة؟..
دولتنا وحزمة المفاهيم الحديثة.."إمكانية تجاوز أزمتنا"
علينا أن نميز بدءا بين النظريات التي تفسر نشأة الدولة وظهورها وبين النظريات التي تبرر هذه النشأة وظهورها. فالنظرية التفسيرية تستند الى قاعدة فكرية مسبقة أو أيديولوجيا تتناول تفسير نشأة الدولة وفق مسلماتها فتضع تفسيرا أحاديا يستقطب مفهوم الدولة ولاحقا يستقطب طبيعة النظام فيها، فيكون هذا النظام جزء من أيديولوجيا سياسية تهيمن على الدولة عامة. ولو أخذنا نظرية القوة في تفسير نشأة الدولة وظهورها وهي تعتمد فكرة أن جهة ما أو طرف ما يكون قويا وتتوفر لديه وسائل القوة أن يحكم مجتمعا أو شعبا وبذلك تتأسس الدولة على يد هذا القوي شخصا أو قبيلة أو أتحاد قبائل، فان هذه النظرية تبرر له مسبقا أن يستمر في إنتهاج القوة في التعامل مع الشعب وشرعنة نظام حكم يؤمن بالقوة بديلا عن الحق، وكذلك نظرية الابوية التي تقول ان الدولة في أصلها إستمرار لأبوة رئيس العائلة – الأب مما تمنحه لاحقا في نظام الدولة تلك السلطة المطلقة التي يمارسها الاب في عائلته والتي تتحول الى دكتاتورية مطلقة لدى رئيس الدولة الأبوية، وهكذا نجد خطورة تلك النظريات القديمة في تفسير الدولة ونشأتها وأثرها على أداء الأنظمة التي تتولد وتنشأ في منظومة مفاهيمها ووقوع الشعب تحت سطوة الملوك والرؤساء المستبدين.
لكن التبرير–التعليل المتبع في النظريات الحديثة حول الدولة انما يستند الى ضرورات الحياة الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين وهو يضع أفكاره وخياراته بين خيارات متعددة حول طبيعة الدولة المقترحة ويكون منطقه التحليلي لاحقا على وجود الدولة وليس سابقا له، مما يعفيه من خضوعه الى أيديولوجيات وأفكار مسبقة، ولقد شهدت الدولة الحديثة تطورات اقتصادية مهمة على ضوء تبريرات هذه النظريات الحديثة، بينما ظلت الدولة القديمة والتي تخضع الى التفسيرات القديمة خاضعة الى مستوى واحد غير قابل للتطوير فتجاوزها التاريخ السياسي الحديث وظلت تعيش حالة من التخلف السياسي ولم يكن لاقتصادها الريعي ان يرفعها الى مستوى الدولة الحديثة هنا نأخذ مثالا الدولة السعودية التي نشأت اساسا على مبدأ القوة والهيمنة بالسيف لاتحاد من القبائل البدوية.
ثم أن النظرية التفسيرية القديمة تتناول الدولة التي تكونت في الماضي وظلت على ماهي عليه دون تطور بل هي سائرة حتما وقدرا الى الاضمحلال والتلاشي مثل دولة العصبة الخلدونية، وبذلك تضع الدولة في تأسيسها ونشأتها أمام خيار واحد حتمي قدري يبتدأ من الماضي ويتوقف عند الحاضر، وهذا هو معنى التفسير لغويا الذي يفصح أو يكشف عن سبب أحادي في تحليله وتفسيره لحالة ما. لكن النظرية التبريرية الحديثة تضع الدولة أمام خيارات متعددة تبتديء من الحاضر السياسي للدولة الى المستقبل السياسي لها وإمكانية التطور لديها قائمة، ان التبريرية لا تفسر بقدر ما تهتم بتبريرات قبول صيغة من نظام سياسي معين لدولة تريد الانتقال الى طور سياسي أخر وأهم.
ثم هناك مائز أخر هو مجال تخصص كلا النظريتين في تفسير وتبرير نوع الدولة بين القديمة والحديثة، فالنظرية القديمة تتعلق بتفسير نشأة الدولة القديمة مع اختلاف مضامين وأفكار التفسيرات التي تقترحها، من النظرية الابوية، الى نظرية القوة، الى النظرية الطبيعية، الى نظرية العقد الاجتماعي، ورغم ان الدولة الحديثة تستند تاريخيا في نشأتها ولو جزئيا الى أفكار العقد الاجتماعي، لكن نظرية العقد هي ذاتها ناقشت أصل ظهور الدولة مما يعيد وظيفتها التفسيرية الى سياق تاريخي، قديم بينما تشكل المفاهيم الحديثة للدولة تبريرا تاريخيا واجتماعيا في ظهورها ونشأتها وتعليل الحاجة اليها في ظل التغيرات المتواترة الي يشهدها العالم الحديث.
وأهم المفاهيم الحديثة التي تبرر الدولة وجودا وضرورة اجتماعية هي:
أولا-الدولة الحارسة، وهي تقوم وفق المذهب الفردي – الرأسمالي وتنحصر وظائفها في حماية الافراد والعقود المبرمة والممتلكات، وتمتنع عن التدخل في الاقتصاد باعتبارها سياسة حماية لحركة الرأسمال الحر، وهي دولة نفعية محدودة في تحصيل نفعها من الضرائب.
ثانيا -دولة العناية، وقد تحولت عن مفهوم الدولة الحارسة الى تبني أنظمة الضمان الاجتماعي والعمل على ضمان مستوى من العيش اللائق للفئات المحرومة، وتقليص حجم الفارق بين الاغنياء والفقراء لما له من أثر في توفير الامن والسلام الاجتماعي، وأهمية الضمان الاجتماعي تبرز من خلال إلزام المجتمع الذي تعبر عنه أو تمثله دولة العناية بضمان الحد الادنى من العيش الكريم لأفراده، وقد شهدت الدولة الحديثة التطور اليها-الى دولة العناية- بعد الحرب العالمية الثانية ويطلق عليها أيضا الدولة المتدخلة.
ثالثا - دولة الرعاية، وتسمى أيضا دولة الرفاهية، وهي تمثل أعلى تطورات الدولة الحديثة وقد بلغت مستواها الدول التي نجحت في سياساتها الاقتصادية ومواكبتها بسياسة العدالة، الى الدرجة التي صارت فيها الدولة مسؤولة عن حماية وتوفير الرفاه الاقتصادي والاجتماعي لمواطنيها، وهي تشكل ذروة التحول والتطور في وظائف الدولة الحديثة من دولة تهتم بالعناية بالمواطنين فقط الى دولة توفر الرفاه الى مواطنيها، وهي بذلك أعلى مستوى للدولة المتدخلة التي تهتم بمبدأ توظيف المال لأغراض الرعاية والرفاه، وهي تعبر بهذا عن الانتقال من المالية المحايدة في الدولة الحارسة الى المالية الوظيفية في الدولة المتدخلة.
ولعل لابد من التذكير بان هذه المفاهيم الحديثة للدولة لا تسعى الى تفسير النشأة المبكرة للدولة أو البحث في الظروف التاريخية التي أدت الى نشأتها، بل غاية الامر انها تبرر الحاجة الاجتماعية والاقتصادية لتأسيسها والعمل على تطويرها من خلال تأسيس مباديء جديدة لدولة قائمة، وهي مبادئ أو مفاهيم تتموضع بين الدولة ونظام يسعى الى ادارة وقيادة الدولة من أجل ضمان ورعاية المصالح لكل فئات المجتمع تحقيقا لمبدأ العدالة الاجتماعية.
واذا كانت قدرة الدولة الحديثة وشرعيتها في نظر مواطنيها تستند الى التمثيل العادل لهم، فان هذا التمثيل يجب ان لا يأخذ بعدا واحدا، وهو تمثيل هوية معينة وصيغة تاريخية محددة، بل التمثيل يجب ان يكون تمثيلا للمصالح لاسيما مع تعدد الهويات العرقية والدينية في بلد مثل العراق، وبالطبيعة الملحة للمصالح باعتبارها ذا بعد اقتصادي خالص نرى ضرورة توظيف الاقتصاد باتجاه تأسيس الدولة في العراق، والذي سيترتب عليه بناء هوية وطنية تستند الى المصالح ومن ثم تنمو في انتماء واقعي الى وطن صار يوفر كل شيء لمواطنيه فتزداد لحمة الانتماء من خلال مفهوم الواجب المترتب على تحصيل الحقوق للمواطنين وبذلك تتموضع الهوية الوطنية بين الحق للمواطن الذي تضمنه الدولة، وبين الواجب الذي يؤديه المواطن بإزاء الدولة، وهنا نتذكر قول الامام علي عليه السلام "الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة"، فالوطن الذي تتأسس فيه الدولة وتقوم الدولة برعاية مصالح الناس فيه ويوفر الغنى لمواطنيه تنسجم العلاقة بينه وبين ساكنيه من المواطنين وتزدهر الدولة فيه وهي تؤدي وظائفها في الضمان المتعدد الصور والرعاية غير المنقطعة للمواطنين، وبذلك نجد ضرورة توفر المفاهيم الحديثة للدولة المقترحة في العراق، مثل الضمان والرعاية والحماية وهي مفردات وخيارات فاعلة في بناء الدولة الحديثة بعد استنادها الى مفهوم دولة القانون.
وبالمناسبة فهي مفاهيم متداخلة وغير قابلة للفصل، وان سعى الكثير من المختصين في الشأن السياسي والاقتصادي الى التمييز بينها وتحديد وظيفة كل دولة من هذا النوع، الا ان التداخل بينها ظاهر وقوي وان امكانية تطورها المتداخل يحيلها الى امكانية الاختصاص بوظيفة كل منها كأن تكون حمائية، او ضمانية، او رعائية، لكنها تظل تؤدي وظائفها الاخرى المتداخلة والمترابطة. فالدولة الحارسة هي بذاتها دولة العناية، ودولة العناية هي بذاتها دولة الرعاية، وهي بذاتها دولة القانون، لكن المهم فيها هو حزمة المفاهيم الحديثة التي تبرر لها وجودها وتكمن شرعيتها في نظر مواطنيها في ما تقدمه من خدمات ومنافع وضمان للمصالح لكل الفئات، وبذلك يمكن تجاوز أزمتنا الاقتصادية والسياسية نحو بناء دولتنا الضامنة لمصالحنا والحارسة لحقوقنا من خلال تضمين الرؤية السياسية في بلدنا لحزمة هذه المفاهيم الحديثة وخياراتها في بناء دولتنا.
اضف تعليق