لا تزال الاحداث والتصريحات الارتدادية لخروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي تضرب الطليقين غير الودودين "الاتحاد الاوربي وبريطانيا" وكأن الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس عادت الى احتلال العالم من جديد، لكن شمسها قد حجبتها سلبية الاخبار التي حجزت مساحة خاصة للحدث البريطاني في وسائل الاعلام العالمية. وفي كل يوم تظهر حقائق جديدة عن الطلاق البريطاني وخفايا المعايير السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتحكم في الدول الاوربية بشكل عام.
وبين كم المعلومات الكبيرة التي تم كشفها عن علاقة بريطانيا بالاتحاد الاوربي تطرقت وسائل الاعلام الى اسس بناء العلاقة الاوربية البريطانية التي شابها نوع من استعلاء الاخيرة، بالإضافة الى هشاشة التكتل الاوربي الذي كان مثار اعجاب الكثير من الدول. وفي الداخل البريطاني تحدثت وسائل الاعلام عن امكانية تمزق بريطانيا وتحولها الى دول صغير ما يضعف من قوة تأثيرها في السياسة العالمية او اندثارها في سجلات التاريخ، وهو ما يعد فشلا لانصار الاستفتاء الذين ارادوا صيانة النظام العالمي الجديد وفق رؤية بريطانية عبر بوابة الخروج من الاتحاد الاوربي.
وفق الادبيات الشرقية فان الامبراطورية البريطانية هي السبب او المشارك في الكثير من المشاكل التي تعاني منها البلدان النامية من خلال صناعة الحروب او ما عرف بسياسة "فَرِّق تَسُدْ" لتفريق الخصوم والهاء الشعوب بمشاكل جانبية تبعدهم عن مقاومة الاستعمار. ومع انتقال السيطرة العالمية من بريطانيا الى امريكا بقيت التهمة ملصقة على جبين البريطانيين في اغلب المشاكل والازمات التي تحدث بين فترة واخرى على اعتبار انهم بارعون في تمزيق الشعوب والبلدان واتفاقية سايكس بيكو احدى اكبر الامثلة على هذه السياسة البريطانية.
في المقابل يعترض البعض ويقول ان الدول النامية دائما ما تلقي بمشاكلها وازماتها على مسبب خارجي وفق ادبيات نظرية المؤمرة، وبالفعل هناك الكثير من الانظمة الفاشلة التي لا تستطيع حل مشاكلها مصدرة فشلها الى خانة العدو الخارجي من خلال نظرية المؤامرة، ولكن ذلك لا يعني ان البريطانيون ابرياء من التدخل في شؤون الاخرين وصناعة ازمات قد لا يمكن حلها عبر قرون عديدة.
عندما تنهار الدول الكبرى دائما ما تظهر الكثير من الامور التي كانت خافية على عامة الناس، فالثورة البلشفية التي حدثت عام 1917 في روسيا على يد فلادمير لينين ويده اليمنى جوزيف ستالين؛ قد فضحت اتفاقية سايكس بيكو بعد ان وجد لينين نسخة من الاتفاقية السرية سايكس بيكو في ارشيفات القيصر وكانت تنص على ان تستولي روسيا القيصرية على إسطنبول وقام لينين بنشرها لعل العالم يرى من اجل اي شيء كانت تدور الحرب العالمية الأولى.
وكما اشرنا انفا الى لعب بريطانيا على وتر التأزيم الدائم من اجل ابقاء نفسها كقوة عظمي، يطرح التساؤل هنا عن امكانية كشف ملفات سرية عن اتفاقيات وحروب كان يخطط لها تحت طاولة الديمقراطية الملكية، لكن قد يختلف وضع بريطانيا عن الثورة الروسية التي افضت الى تغيير جذري في نظام الحكم وهذا مالم يحدث في الاستفتاء البريطاني، الا ان ما يدعم فرضية امكانية كشف بعض الملفات السرية التي من الممكن ان تأخذ منطقة الشرق الاوسط نصيبها منها هي نقطتين اساسيتين:
اولا: الخلافات الحادة التي بدت تزداد يوما بعد يوم في الساحة البريطانية فرئيسة وزراء اسكتلندا تدعو لإعادة الاستفتاء على الاستقلال عن بريطانيا، وفي المقابل وقع أكثر من 2.5 مليون بريطاني عريضةً موجهة إلى البرلمان تدعو لتنظيم استفتاء جديد حول العضوية في الاتحاد الأوروبي، وما يزيد الوضع تعقيدا هو ارتفاع مناسيب التطرف الى مستويات غير مسبوقة قد تهدد بفيضان يغرق العالم في بحر من الحروب.
ثانيا: تغلغل بريطانيا في الكثير من الملفات الشائكة في العالم، فهي ورغم افول نجمها الا انها ما زالت تمسك في الكثير من خيوط السياسة العالمية مستندة الى القوة المعنوية التي ورثتها من العهد الاستعماري وقدرتها على التأقلم مع الظروف الطارئة، وفي الوقت الذي تنشط فيه الجماعات المتطرفة تُتَهم بريطانيا باحتفاظها بعلاقات مع الجماعات المتطرفة من اجل خدمة السياسة البريطانية في منطقة الشرق الاوسط والعالم وفي الازمة السورية اقرب مثال لهذه الحالة.
قد تختلف اوضاع بريطانيا الاستفتاء في عام 2016عن روسيا الثورة في عام 1917 والانقلاب الكلي لم يحدث بعد الا ان استمرار الفوضى التي اجتاحت اوربا وبريطانيا على وجه الخصوص قد تنذر بانحدار الوضع البريطاني الى ما لم يتوقعه أي احد، والعريضة التي وقع عليها أكثر من مليوني بريطاني يطالبون بإعادة الاستفتاء تعكس الانقسامات العميقة التي ظهرت في ضوء الاستفتاء، لاسيما بين الشباب والمسنين، وبين إسكتلندا وأيرلندا الشمالية ولندن من جهة، وأطراف المدن والأرياف من جهة أخرى.
والسفينة البريطانية التي تسير على بحر من تراكمات الماضي قد تتطاير الكثير من اوراقها، بفعل رياح التغيير وتمزق اطراف الوطن الى شظايا متناثر، او بفعل غضب المتطرفين الطامحين الى امساك السياسة بانفعالية مستوحاة من فكر التطرف العالمي، وبانتظار وقت تلك السفينة التي يتوقع ان يطول انتظارها تتأمل الكثير من بلدان العالم النامي ان لا تشبه السنوات القادمة سابقتها والشعوب التي تحطمها النزاعات تنظر بعين الرجاء لساسة العالم لعلهم يجدون سبيلا لتقليل الاعتماد على القتل والتجويع كوسيلة للهيمنة، وايجاد مصادر متجددة لا تستهلك الكثير من دماء الابرياء.
اضف تعليق