يبدو أن طبيعة التطورات السياسية الداخلية والخارجية بدأت تدفع المملكة العربية السعودية إلى إعادة النظر بمقتضيات الحكم والاستمرارية في الإدارة والقيادة إقليمياً، وهذا ما يبدو واضحاً في التنافس بين أبناء العائلة المالكة والذي حسم برؤية ولي ولي العهد محمد بن سلمان في إستراتيجية (رؤية السعودية 2030)، والتي تستهدف وضع المملكة في المستقبل القريب، ورغم أن العائلة المالكة قد حسمت قضية الحكم بطريقة محكمة عبر تقوية نفوذ (السديريين) في مراكز صنع القرار إلا أن تهور السياسات التي تتبناها المملكة قد تجعلها أمام سيناريوهات جديدة تجعلها تفقد كل مكانتها.
التحالف الإسلامي.. التحضر الإستراتيجي القادم
أصبح تنظيم داعش الإرهابي يمتد بتهديده لجميع منطقة الخليج، فإستراتيجية ضبط نفوذه للخارج كما كان مع تنظيم القاعدة لم تعد ممكنة، وأصبح تمدده يشكل تهديداً بشكل مضاعف خاصةً بعد تنامي هذه التنظيمات في سوريا وإنقسامها إلى أكثر من جهة.
وأمام هذا المنحى أصبح الوضع في الشرق الأوسط يشكل حالة من التطور غير المنضبط، مما دفع المملكة العربية السعودية بسبب تفوق مكانة إيران الإستراتيجية أثناء المفاوضات الحاسمة للإتفاق النووي إلى إعلان عاصفة الحزم في اليمن من أجل تقليص فوارق القوة بينها وبين إيران، إذ كان لتفوق الحشد الشعبي وتمدده في مناطق جديدة مصدراً لإجبار المملكة على ذلك. غير أن إستراتيجية الحرب في اليمن لم تؤدِ إلى نتائج ملموسة، بل جاءت بنتائج سلبية خاصةً بعد تشتت مواقف أهم الدول في هذا التحالف المصرية والإماراتية عن الموقف الأول لها أيام الحرب، فالتردد الإماراتي كان له أثراً مهماً في دعم شرعية الخليج للحرب، الأمر الذي أجبر القادة في المملكة إلى مراجعة خطواتهم الإستراتيجية بشأن التعامل مع الحرب ضد الحوثيين.
برز في مركز صنع القرار الملكي إتجاهين، حيث تبنى أنصار الاتجاه الأول وهم المناهضون للسديريين وسياسة التفوق عبر القوة المسلحة المباشرة، بالعودة إلى الإسلوب الدبلوماسي في التعامل مع القضايا الإقليمية، من خلال تبني إسلوب المبادرات والوساطة، الأمر الذي يزيد من مقبولية المملكة في المنطقة.
أما الإتجاه الثاني فهو نقيض الرأي الأول، فتعزيز مكانة السعودية في توازنات القوى الإقليمية يتطلب من المملكة تبني إستراتيجية عسكرية واضحة في مجال التوازنات الإستراتيجية في المنطقة، الأمر الذي يجعلها تميل إلى تعزيز التحالفات الإقليمية في هذا المجال.
إن إستقرار سياسة المملكة كانت أقرب عند الرأي الثاني الذي يميل له السديريون، وهو ماعجل من خيارات التحالف الإسلامي الذي أعلنت عنه المملكة بطريقة عاجلة من أجل الضغط على الحلفاء من تبني إستراتيجية جديدة تعيد للسعودية مكانتها المفقودة في عاصفة الحزم. مما يبدو أن حرب اليمن قد جعلت السعودية تعيد الحسابات بشأن إستراتيجيتها العسكرية خاصةً بعد تبني موقف مواجهة الحركات الإرهابية بدلاً عن الحوثيون من أجل تغيير إتجاهات الحرب مستقبلاً، والذي استقر بعدها بمشاركة التحالف الجديد في عمليات عسكرية في سوريا من أجل مواجهة الإرهاب هناك.
القيادة القادمة.. هيمنة هشة إلى جانب إستراتيجية الحرب على الإرهاب
كانت السعودية قد بدأت تحاول أن تعيد بناء ذاتها الهرمة بطريقة جديدة قائمة على أساس تكامل رؤيتها الداخلية والخارجية، فإستراتيجية الحرب والقيادة تتطلب أنماطاً معينة من المؤسسات المنتجة في هذا الجانب، وهذا ماتمثل في رؤية الأمير محمد بن سلمان للملكة، إذ إرتبطت رؤيته بمؤشرين:
المؤشر الأول: هو أن ولي ولي العهد الأكثر تأثيراً في صنع القرار، رغم أنه يحتل المركز الثالث في هرم السلطة، إلا أنه يسعى إلى تأمين سيطرته على أهم مؤسسات صنع القرار في المملكة بطريقة متسارعة.
المؤشر الثاني: إن هذه الرؤية هي برنامج لإدارة المملكة وهو مقدمة لحكم الدولة في المستقبل القريب، بعد أن يتمكن محمد بن سلمان من إبعاد منافسيه في السلطة وفي مقدمتهم الأمير متعب بن عبد الله وضم الحرس الوطني إليه، وهذا مايعمل عليه ولي ولي العهد، إذ يسعى إلى تأمين الظروف التي تساعده في تنفيذ رؤيته من خلال إبعاد منافسيه المؤثرين كما يذكر سايمون هندرسون. وترتكز رؤية محمد بن سلمان على العديد من الأمور في مجال الطاقة والتغيير الوظيفي لأداء الوزارات، غير إن الأكثر أهمية في ذلك هو ما يخص تطوير الصناعات العسكرية، والتعامل مع التوازنات الإقليمية بإسلوب نوعي قائم على أساس الحدود المتحركة. ففرض الهيمنة المالية على المنطقة سوف يمنح المملكة فرصاً في إعادة مسار التبادلات التجارية والسياحية في العالم من خلال الجسور العملاقة والتي يعتبرها البعض إحدى أهم المعابر البرية في المنطقة والتي سوف تساهم في زيادة تأثير المملكة على توازنات القوى الإقليمية.
إن الأطر الجديدة في السياسات الداخلية والخارجية التي تتبناها المملكة تتجه إلى إعادة إنتاج الذات بطريقة تجعلها أكثر تأثيراً مما سبق، فتوظيف الجغرافيا سوف يغير من خارطة التفاعلات التجارية والعسكرية في آن واحد وسوف يزيد من فرص الدور السعودي إقليميا.
إن إحتمالات الإستراتيجية الأمريكية غير المستقرة بشأن التعامل مع الجماعات الإرهابية والتوازنات الإقليمية تجعل من السعودية إحتمالاً جديداً لنقل المهام الإستراتيجية إليها، فتركيا الحائرة بين الشرق الأوسط وأوروبا، وإيران المرفوضة من معظم دول المنطقة تؤهل المملكة السعودية بدور إستراتيجي أكبر من خلال مضاعفة قوتها عبر تجاوز مجلس التعاون الخليجي، لبناء محور إستراتيجي جديد قائم على أساس فهم جديد لحركة الجغرافيا.
إن ملامح البناء الإستراتيجي المرتبطة برؤية محمد بن سلمان ستبقى مرتبطة بطبيعة الظروف الإقليمية التي تعج بالمنطقة، فإيران التي تزيد من مكانتها الإستراتيجية بعد الإتفاق النووي أصبحت قادرة على المناورة والتأثير بشكل أكبر رغم تطورات الوضع في سوريا، غير أنها مازالت تحتفظ بالكثير من الأوراق السياسية هناك، من جهة أخرى فإن التحالف الذي تسعى المملكة إلى التأثير من خلاله هو تحالف ضعيف ومعظم دوله تعاني من أزمات مالية حادة، فضلاً عن أزماتها الأمنية، الأمر الذي يضعف من إحتمالات إستعادة المملكة لهيبتها المفقودة بعد حرب اليمن.
اضف تعليق