كمال شوماني
قبل خمسة أشهر، غادر نوشيروان مصطفى المنظّم العام لـ «حركة التغيير» («كَوران») في كردستان العراق إلى لندن بحجّة تلقّي العلاج الطبّي لمعاناته ألم مزمن في الظهر. وقد حيّرت إقامته الطويلة ليس أخصامه فحسب، بل مؤيّديه أيضاً. ويثير السكوت الذي يحيط بحالة مصطفى، بالإضافة إلى وضع كردستان المتدهور، جدلاً كبيراً حول مستقبله السياسي في المنطقة. ويحلم المتفائلون من معسكر مصطفى بعودته لكي يقوم بحشد الجماهير للتظاهر والإطاحة بالأكراد الحاكمين. إلّا أنّ هذا التخيّل بعيد كل البعد عن نهج مصطفى العملي، ويُعدّ مؤيّدوه سُذّج إن لم يفهموا أنّ مسار مصطفى في المرحلة القادمة سيقتضي اتخاذ مجموعة مذهلة من القرارات السياسية الصعبة والطرق المسدودة.
منذ الإطاحة بنظام صدّام في عام 2003، شكلت الطفرة الاقتصادية والديمقراطية المزدهرة البَطَلان في القصة السردية لـ «حكومة إقليم كردستان». بيد، تمّ الكشف على نحو متزايد أنّ قصة بروز «حكومة إقليم كردستان» قد ارتكزت على الخيال أكثر من الواقع. وبدلاً من ذلك، كمنت نجاحات «حكومة إقليم كردستان» بشكل رئيسي في إخفاء النمو الاقتصادي المنخفض من خلال ملايين الدولارات التي حصلت عليها من الحكومة العراقية وصادرات النفط المستقلّة. وبالمثل، قوّضت عمليّات القمع الدورية لحريّة التعبير، وهم الديمقراطية الليبرالية لـ «حكومة إقليم كردستان»، بكشفها أنّ مطلع القرن الحادي عشر هو عصر كردستان المموّه بالذهب وليس الذهبي.
والآن، تجاوزت الديون الحالية لـ «حكومة إقليم كردستان» مبلغ الـ 20 مليار دولار، مما يمثل حوالي 200 بالمائة من الميزانية السنوية لـ «حكومة الإقليم». وفي هذا الصدد، فإن الإصلاحات التي أدخلها مسعود بارزاني، رئيس «حكومة إقليم كردستان» بحكم الأمر الواقع، لم تسهم كثيراً في التخفيف من القروض المتزايدة المستحقة من قبل حكومته للدائنين.
إن «حكومة إقليم كردستان» ليست مفلسة اقتصادياً فحسب، بل سياسياً وقانونياً أيضاً. فقد شلّت البرلمان في 12 تشرين الأوّل/أكتوبر 2015 عندما مُنع رئيس البرلمان من الدخول إلى إربيل لعقد جلسة برلمانية. ومنذ ذلك الحين، مُنع رئيس البرلمان وأربعة وزراء من حزب «كَوران» في مجلس الوزراء، بمن فيهم وزير البشمركة مصطفى سيد قادر، من الدخول إلى العاصمة. كما استمرّ الرئيس الحالي في حكم البلاد متخطّياً فترته الانتخابية التي انتهت تقنياً في آب/أغسطس الماضي. وقد أدت هذه التطورات المزعزعة للاستقرار إلى دفع المنطقة الكردية نحو أسوأ أيامها خلال العقدين الماضيين. وازدادت الشقة اتساعاً بين الأحزاب حول مجموعة من المسائل، في حين تستمرّ الأزمة السياسية كما أن الأطراف المختلفة لا تقترب من التوصل إلى اتفاقات جوهرية.
وقد صدم الوضع الحالي وحيّر الكثيرين في كردستان العراق. كما أنّ الخيارات أمام نوشيروان مصطفى صعبة أيضاً.
بعد نيسان/أبريل 2014، عندما توصّلت حركة «كَوران» و«الحزب الديمقراطي الكردستاني» الذي يتزعمه مسعود بارزاني إلى اتفاق لتشكيل مجلس الوزراء الثامن لـ «حكومة إقليم كردستان»، وعد زعيم «كَوران» نوشيروان مصطفى بأربع سنوات من الاستقرار والنموّ. وبالرغم من تفضيل نوشيروان بقاء «حركة التغيير» كحزب معارض في «إقليم كردستان»، دفع زملاؤه «كَوران» إلى داخل الحكومة لأنّهم كانوا يخشون أنّ العمل المتواصل خارج الحكومة سيؤدّي إلى خسارة الدعم والأعضاء نظراً للصعوبات المالية التي يواجهها الحزب. كما اعتُبر دخول الحكومة مفيداً لأعضاء «حركة التغيير» أيضاً لأنّهم سيتمكّنون من المشاركة والحصول على وظائف في الإدارة لتعزيز وجود «كَوران» فيها. وفي غضون ذلك، أظهر «الحزب الديمقراطي الكردستاني» استعداده لمعالجة مطالب «حركة التغيير» في الحكومة.
إلّا أنّه عندما انضم «كَوران» إلى الحكومة، لم تسر الأمور كما توقّع نوشيروان و«حركة التغيير». فسرعان ما رُدعوا عن القيام بأي إصلاحات.
وقد اجتمع نوشيروان ببارزاني عدة مرّات في محاولة لإقناعه بأنّ على «إقليم كردستان» القيام بإصلاحات جذرية وأنّه يتوجب على البرلمان المصادقة على الدستور. وقد ركّز نوشيروان على تغيير النظام السياسي الكردي إلى نظام برلماني، وهو نظام قد يضعف بلا شك الرئاسة وبارزاني. لكن سرعان ما عارض بارزاني و«الحزب الديمقراطي الكردستاني» محاولات «كَوران» لتغيير هيكل سلطة الحكومة وعادت مرحلة الصراع الخفي لتبرز مجدداً بين الطرفَين.
وفي عام 2015، طلبت أحزاب «كَوران» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» و«الجماعة الإسلامية في كردستان» تعديل قانون الرئاسة من عام 2005، وهو أمر عارضه مسعود بارزاني و«الحزب الديمقراطي الكردستاني». وأدرك نوشيروان أنّه أخطأ في تقدير رد فعل مسعود بارزاني حيال المطالبة بإصلاح قانون الرئاسة، إذ أنّه توقّع تنحّي بارزاني. ومع ذلك، لم يكن أمام نوشيروان أي خيار سوى تأييد رئيس البرلمان وأعضاء حزبه في البرلمان في نضالهم لتعديل القانون، لأنّ هذا الموقف كان يلاقي في تلك المرحلة دعم العديد من الوسائل الإعلامية الكردية، والإصلاحيين، والأوساط المثقفة، وأعضاء في «الاتحاد الوطني الكردستاني»، والإسلاميين، وأعضاء في «حركة التغيير». وقد كان هذا الدعم أساسياً لأنّ «كَوران» خسر آلاف الأصوات في الانتخابات العراقية العامّة بعد توصّله إلى اتفاق مع «الحزب الديمقراطي الكردستاني» في نيسان/ أبريل 2013. ومن خلال الطعن في مسألة الرئاسة، يبدو أن «حركة التغيير» قد استعادت الدعم الشعبي الذي خسرته لصالح «الاتحاد الوطني الكردستاني» عام 2013. ويجدر بالذكر إنّ «كَوران» و«الجماعة الإسلامية» هما الحزبان الوحيدان اللذان بقيا ملتزمَين بمخططاتهما الإصلاحية ويبدو أنّ ذلك قد عزّز تأييدهما خلال الاضطرابات الأخيرة.
وسيبقى هذا الخطر المتعلق بتحوّل تأييد الناخبين إلى حزب معارض آخر، طالما لم ينجح نوشيروان رسمياً في تشكيل تحالف بين «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«كَوران» و«الجماعة الإسلامية». إلّا أنّه يبقى إحدى أقوى الشخصيات في المعارضة الكردية والخيار الوحيد لقيادة مجموعة معارضة موحدة ضدّ «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، ولا يزال الشخصية الوحيدة التي يهتمّ «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بالتعاون معها.
كما أنّ قوّة «حركة التغيير» هي نسبية إذا قورنت بضعف الجماعات المعارضة الأخرى. فالصراعات الداخلية في «الاتحاد الوطني الكردستاني»، قد أضعفت قيادته، كما أنّ أداء عضو «الاتحاد الوطني الكردستاني» ونائب رئيس الوزراء لـ «حكومة إقليم كردستان» قُباد طالباني قد أحرج أعضاء حزبه الآخرين. وبالرغم من أنّ العديد من أعضاء «الاتحاد الوطني الكردستاني» وأولئك خارجه يدعمون زعيم "الاتحاد" برهم صالح، إلّا أنّ هذا الأخير يلاقي معارضة من قبل جناح عائلة طالباني و«الحزب الديمقراطي الكردستاني». إنّ عدم قدرته على إنشاء قيادة فعّالة قد ظهرت في فشله في الإعلان عن خطة رسميّة تبرز أفكاره إمّا داخل «الاتحاد الوطني الكردستاني» أو للجمهور.
بالإضافة إلى ذلك، توحي أفعال «الحزب الديمقراطي الكردستاني» مؤخراً بتعاون محتمل في المستقبل مع «كَوران». ومن المفاجئ أنّ خطوات «الحزب الديمقراطي الكردستاني» الأخيرة تدلّ على أنّه آسف على منع رئيس البرلمان من الدخول إلى إربيل وأنّه قد أدرك أنّه لن يكون هناك أي حلّ للأزمة السياسية الحالية من دون «حركة التغيير». وقد قام عضو قيادة «الحزب الديمقراطي الكردستاني» ورئيس الاستخبارات في "الحزب" نزهت هالي بكتابة عدّة مقالات ادعى فيها إنّ نوشيروان ومسعود بارزاني هما الوحيدان اللذان باستطاعتهما وضع حدّ للأزمة وإنقاذ كردستان.
وحالياً، هناك خياران أمام «الحزب الديمقراطي الكردستاني» في مقاربة «كَوران». يتمثّل الأوّل في تسوية الوضع من خلال إعادة تفعيل البرلمان وإعادة رئيسه، والطلب بعودة وزراء «حركة التغيير» إلى الحكومة، وتمديد فترة رئاسة مسعود بارزاني خارج البرلمان. ويدعم هذا الخيار رئيس وزراء «حكومة إقليم كردستان» نيجيرفان بارزاني.
أمّا الخيار الثاني الذي يدعمه مستشار مجلس أمن «إقليم كردستان» من «الحزب الديمقراطي الكردستاني» مسرور بارزاني فيقضي بتوصّل "الحزب" إلى اتفاق مع «الاتحاد الوطني الكردستاني» وتشكيل مجلس وزراء جديد، مما سيدفع «حركة التغيير» إلى الخلف وإلى حزب معارض. وفي الواقع، قد يُفضّل «كَوران» الخيار الثاني إذ سيسمح له التراجع عن مركز تقرير السياسات ونحو تركيز الجهود على حالات الفشل الحالية للحكومة، مضيئاً على فشل «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، وعلى «الاتحاد الوطني الكردستاني» إذا ما انضمّ إليه [في حكومة جديدة]. وفي هذا السيناريو، قد يكون أمام «حركة التغيير» فرصة التحوّل إلى أقوى حزب في الانتخابات المقبلة، مما سيسمح بتحقيق المزيد من الإصلاحات الكاسحة.
ولكن إلى أن يقرّر «الحزب الديمقراطي الكردستاني» كيفية التعامل مع «كَوران»، سيبقى مستقبل "الحركة" غير واضح، كما أنّ التحدّيات التي تواجه نوشيروان مصطفى ستجبره على البقاء في لندن لبضعة أشهر إضافية على الأقل. ولو لم يكن خطر تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») قائماً، لقاد نوشيروان مصطفى إضراباً شعبياً عامّاً، إلا أن نوشيروان يخشى أن تؤدي الاضطرابات السياسية إلى ترك كردستان مُجزّأة كما حصل في سوريا أو أفغانستان أو اليمن. في ضوء ذلك، قد يبقى مصطفى في لندن حتّى تتمّ الإطاحة بـ تنظيم «الدولة الإسلامية» في الموصل. وكبديل لذلك، قد يعود نوشيروان إلى كردستان إذا انخرط مسعود بارزاني في مفاوضات مع «كَوران» لتمديد رئاسة بارزاني مقابل القيام بإصلاحات سياسية، وهي عمليّة يبدو أنّها قد بدأت.
وفي النهاية، ما لم تبرز فرصة إصلاح قابلة للتطبيق، من غير المحتمل أن يخاطر مصطفى بحلمه في تشكيل كردستان ديمقراطية موحّدة من خلال تقسيم كردستان. إنّه صبور لكن على الأرجح أنّ هذا الصبر هو تحضير مدروس لمعركة عصيان مدني جذرية تنشب في الوقت الملائم. وقد يُشنّ هذا الصراع السلمي والحملة ضدّ الفساد بشكل مستقلّ أو كجزء من تحالف معارض، لكن من الأرجح أن يبدأ في الوقت الملائم لجني الثمار في انتخابات عام 2017. وإلى حينها، سيكون على مؤيّدي مصطفى انتظار عودته من لندن.
اضف تعليق