ما حدث ويحدث، يعني بما لا يقبل الشك أن التاريخ العربي قد انتكس وعاد إلى الوراء... فقد برزت في زمننا العربي البئيس والتعيس، بعض السمات التي لم يَدُرْ في خلد مواطن أن يتصور بروزها بخاصة تلك التي تجعل ممن يحتلُّ بيتَك الحريصَ الوحيدَ على ملكيتك له، وحريتك فيه، وتصبح إذ ذاك أميركا، وأوروبا الاستعمارية، وإسرائيل المسؤولين الوحيدين عن خلاصنا ـ نحن العرب الشعب ـ ممن يحتلنا من أهلنا، وذوينا. والمسألة بناء عليه هي أن نظامنا يحتلنا، ويهدد أي مشهدية تؤدي بنا إلى الحياة الكريمة أسوة بالذين يحيون حياة كريمة في أوطانهم. ويريدوننا لا نرى إلا بالعين الصهيو أمرو أوروبية كي لا يصل مدار رؤيتنا إلى فلسطين كيف تهوّد، وإلى القدس كيف تهدد، وإلى أثيوبيا كيف ستحرم المواطن العربي في السودان، ومصر من أمنهما المائي والوجودي، وإلى تركيا أردوغان على ماذا تُسدد. وإلى كل ضمير عربي بماذا يتهدد؟ نعم كل الذي يريدونه منا ينصبُّ على أن لا نرى العدو الحقيقي، والعداوة الحقيقية، ونستدير كالأعمى بعكس حقوقنا، ومصالحنا، وشروط وجودنا الإنساني على أرض الله.
كل الكتاب القوميين في العالم، وبخاصة القوميات التي نهضت وتحركت وركزت وجودها الحضاري والنهضوي اعتبرت التاريخ حافزاً للنهوض وتأكيد الاستمرار، إلا نحن العرب، فمن خلال ما نراه اليوم من حال العرب، نجد أن التاريخ يشكل عبئاً مملوءاً بالأثقال، توقفنا عند فسوخ هذا التاريخ القبلية والطائفية والمذهبية والقطرية، وتجاهلنا قوة هذا التاريخ في بناء وحدة الأمة وقوتها العلمية والحضارية والثقافية والتنويرية.
والسؤال: ماذا فعل العرب النائمون على أسرّة النفط والدعة والكسل...؟ أطالب بالتوقف عن التفاخر بهذا التاريخ المجيد، ليس لأنني أريد للأمة الانفصال عن تاريخها، فالتاريخ بمضمونه المضيء يشكل الحافز لبناء مستقبل مضيء، وإنما لأننا لا نستحق هذا التاريخ، لأننا لا نشبهه أبداً، ولم نحافظ عليه ولم نمسك بأطراف أثوابه. وكثيراً ما أتساءل: هل يا ترى نحن أبناء تاريخ آخر؟!
التاريخ بالنسبة للشعوب الناهضة منصة استمرار إلى الأمام وحالة تقدم في المجالات الإبداعية كافة، إلا نحن في العالم العربي. ففي العالم العربي لم نستفد من ألق الماضي، ولم نحاول جعله منصة للارتقاء في حياتنا المأزومة ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وسلوكياً. نحن في العالم العربي اليوم نعيش حياة لا صلة لها بهذا التاريخ، مأزومون، غارقون في فتاوى التحليل والتحريم، غارقون في البحث عن العورة وغير العورة في جسد المرأة، عن الحلال في زواج المسيار أو زواج المؤانسة أو جهاد النكاح، عن الحلال والحرام في الأدب... وأشياء أخرى كثيرة... باختصار إننا نجعل هوامش الأمور وتوافهها قضايا رئيسية. وتضيع الملامح المعروفة بين ضباب الاستتباع، وزوابع الارتهان للآخر، وخذلان الوطن الكبير، والمواطن المستهدف في أرضه، ووجوده، ومصيره. وربما يقول لنا مؤرّخ بأن هذا الحال قد تكرر غير مرّة في التاريخ العربي، والعرب لا يقرؤون في تاريخهم، ولا يستبصرون. ومن الممكن أن تكون الإجابة بنعم، لكن اللامعقول اليوم لا يغفر للذين هم في ذرا هائلة للتقدم العلمي والمعرفي العالمي، ولم يبق شعب لا يملك من أدوات التفكير، ومن طرائق التدبير ما يفرز له الخيط الأبيض من الأسود.
إن تواريخ الأمم، وشعوب الأرض قد شابها في حقبٍ ما هو موجود في التاريخ الراهن للعرب، لكنها سرعان ما التقطت عناصر الاستهداف، وتولّت تغيير الاتجاهات لتخرج من الكارثة الوطنية بأقل الخسائر، ولا توجد أمة في الأرض انقلب حليفها التاريخي إلى عدوٍّ، وعدوُّها التاريخي إلى حليف ومدبِّرٍ لشؤونها، كما هي عليه الصورة في النظام الرسمي العربي الذي يدّعي بأنه نظام الأمة العربية الممتدة في الوجود الجغرافي من العراق إلى موريتانيا. والقاعدة المعروفة في كل زمان تشير إلى أن مصائر البشر كلما كانت بيد خبرائهم، ومخلصيهم، والقدوة فيهم سارت الأمور نحو تحقيق المصالح العليا، والمشاريع الموعودة. ومن عجب أن بعض الدول اعتقدت ـ فعلياً ـ بأن المحرك العالمي الوحيد هو أميركا، وأن (إسرائيل) ربيبتها فلا بد من التطبيع معهما، فأوراق كل حل لديهما ولم يعد بيد العرب حلول.
وهنا انقسم العرب إلى برنامجين: الأول مقاوم، صامد متمسك بالحقوق العربية، والثوابت والمقتنع بأن الحل من عند العرب في كل زمان، وفي كل حالة دولية، والثاني أصبح يجهر بأن أوراق كل حلٍ هي باليد الأميركية، ومنذ تلك اللحظة ارتهنت الإرادة العربية للعوامل الخارجية ولاحقاً وظهر هذا الارتهان على صورة معسكر الاعتدال العربي. وبقي الطرف العربي المقاوم على برنامج التحدي، والاستقلال والسيادة، والثوابت والمقاومة. وبين هذين البرنامجين كان الشعب العربي يراقب، ويتنفس من الرئة القومية المقاومة ويحاول أن يعلي صوته أمام المطبعين، والمستتبعين ولكن الذين تجاهلوا إرادة شعبهم قد تجاهلوها، ولم يعد يمكنهم الإصغاء لها...
وطننا العربيّ اليوم خراب هائل: حروب تلو حروب، وقتل يليه قتل ونهب للثروات والأعصاب يليه نهب، فننام على كارثة لنستيقظ على كارثة أخرى في زمن التجاذبات الإقليميّة والعالميّة... لقد تبعثرت مقومات الكيان أو الدولة، وتعطلت مسيرته، ونمت في تربته وفضاءاته بذور التفكك والانهيار، وتالياً، فإن ما تشهده عدة دول عربية من إرهاب دموي/سورية ـ العراق ـ ليبيا ـ مصر/ما هو إلا نتاج بعض الأنظمة العربية الحاكمة ولاسيما في السعودية وقطر، وبالطبع بضوء أخضر من واشنطن والعواصم الغربية الحليفة لها وتركيا في ظل حكم العثماني/أردوغان، فهذه الدول هي التي رعت الإرهاب، وزرعت بذوره هنا وهناك، ومدته بكل أنواع الدعم والمساندة مالاً وتسليحاً وإعلاماً، ليعيث في الدول العربية التي جئنا على ذكرها قتلاً وتدميراً وليزرع بذور الفتنة والشقاق ضمن نسيج مجتمعاتها المتآلفة منذ عدة عقود.
إن معظم الأنظمة العربية الحاكمة التي رسخت الكيانات، حوّلت هذه الكيانات إلى مزارع خاصة بعائلاتها وأسرها مثلما يحدث في الدول الخليجية المتربعة على السلطة منذ عدة عقود، وحولت الدولة في بعض البلدان إلى تجمع طوائفي متصادم، والوطن إلى ساحة مباحة تتوزع عليه هذه الفئات المتنافرة، والشعب إلى مذاهب وطوائف مسكونة بالكراهية ومتقاتلة أحياناً، ترفض بعضها وتستقوي بالخارج وتستحضره عند كل استحقاق.
لن نسأل لماذا... بل ليكن السؤال: كيف نغادر هذه الصحراء القاحلة... هذا الانحدار نحو الهاوية... ألا يدرك هؤلاء الفاعلون خط الجحيم الذي يدفعون إليه؟! من الماء إلى الماء، ومن شرقنا إلى غربنا كوطن عربي، يحاول أعرابنا أن يشعلوا النار في أجسادنا، ويتصرفون كأنهم أباطرة الأرض، كأنهم القدر النازل علينا ولا مهرب منه، كأنهم حقيقة قادة شعوب. دمى تُحرك... أصنام توضع لحين وتحطم بعد انتهاء صلاحيتها... نعم ليتها كانت جاهلية لكنا وجدنا الحميّة العربية لكنها أبعد من ذلك وربما كان شاعرنا العربي القديم يقصدهم حين قال في الأصنام:
أربّ يبول الثعلبان برأسه لقد هان من بالت عليه الثعالب
فالأعراب مهانون... مدنسون... محاصرون... فثعالب الغرب، لم تبل عليهم وكفى بل أبعد من ذلك بكثير... وهنيئاً للأعراب عطركم من ثعالب الغرب وانتظروا ما بعده فلن يوفركم. فكل ما يحدث الآن يُغري الكاتب الموضوعي المحايد بمواصلة الاعتقاد''بأنّ الانتظار عقيم ليس وراءه مطر أخضر، وأنّ الأمة التي نزِع منها فتيلُ القوة ودَسَم الإرادة أضحت اليوم ركاماً من اللحم الهشّ، بل وإسفنجة بملايين الأفواه الفاغرة التي تخلو من الألسنة ونعْمة النطق! لكنّ سليل هذا الدّم العربيّ، والإبن غير العاق للأسلاف الأماجد ـ الذين تقاطر سَلسَبيل الضوء من أرواحهم وأقلامهم ومواقفهم ـ قد لا يمتثل لموعظة الغراب، وقد لا يُغمِد رأسه بين كتفيه كالنعامة، قائلاً: ما أظنّ أنّ الدور التاريخي للنخب المثقفة في وطننا الكبير، هو دور الندّابة المحترفة صاحبة المناديل السّود التي تتنقل من مأتمٍ لمأتم ومِنْ عزاءٍ لعزاء، كي تعدّد مزايا الموتى ومحاسِنهم مقابل حفنة من المال.
إنّ دَور النخب الحقيقي هو اجتراح الطريق في الغابة، وتعليق الأجراس بأعناق النمور وليس القطط والكلاب والمتآمرين فقط! لكنّ الأمصال واللقاحات المغشوشة المستورَدة، التي يُحقَن بها هذا العربيّ دائماً تشلّ مناعته وتصيبه بـ ''أنيميا'' حادّة في ذاكرته وضميره وشرايين ''عروبته''! فالتاريخ المجيد لا يصنعه مُخدَّر مأجور، أو عميل مرتزِق، أو متآمر دنيء، أو مجرم سفاح بحق ناسه وأبناء جِلدته، أو خائن لتراب الوطن، أو عِقال أبيض أو أحمر منقط صاحبه بالخزي والسقوط ونكران الجميل، الذي لا يمكن أن ينتمي لحبة تراب أو رمل في صحرائنا العربية بأية صلة، ولا حتى مختال متغطرس يتعثر بظله ولا يرى أبعدَ من سيفه أو صَولجانه أو عباءته أو أرنبة أنفه!
إنّ عزوفنا عن قراءة التاريخ قراءة موضوعية معمقة، واكتفاءنا بمتابعة ''فبركات'' الإعلام المضلل، وبالمنقول الشفاهي المشوّه، هما ما يُفقران مصدّاتنا ودفاعاتنا الذهنيّة ضدّ وابل التزوير وخبث النيات وانسحاق بعض الضمائر وتكلسها! والحق، فإنّ الحرب التي تُعلَن الآن وتُمارَس ضد أكثر من بلد عربي، هي حرب معلنة بالفعل على العرب المؤجلين القادمين من أقصى المستقبل، والدور يماشيهم كظلهم بكل تأكيد، إن عاجلاً وإنْ آجلاً! ألم يقل شاعر عربي يوماً:
فإن يك صدر هذا اليومِ ولى فإنَّ غداً لِناظِره قريبُ
أعذروني إن كنت مستفزاً ومحرضاً ومتحدياً، لكن لا خير فينا ولا فيكم إن لم نقل كلمة الحق ونصغي لها... ما للمرء خير في حياة إذا عُدَّ من سَقَطِ المتاع، ولا خلاص لنا من ذلك إلا أن نطلِقَ هِمَمَنا التي إن انطلقت مع حوْلِ الله وقوته، حققت المعجزات، واقتحمت الأهوال والصعاب، وكانت أهلاً لوعد الله سبحانه وتعالى:
(ونريد أن نَمُنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)...
فهل من مجيب...؟!
اضف تعليق