ثمة شعور روسي عميق أن الولايات المتحدة الأميركية، لا يؤمن جانبها، ولا يمكنها أن تحترم المصالح الروسية في المنطقة.. ولا يغفل الروس حين الحديث عن هذه المسألة عن المشروعات والخطط الأميركية التي ساهمت بطريقة أو بأخرى في التعجيل بانهيار الاتحاد السوفييتي.. وبالتالي فإن أغلب المشاكل الاستراتيجية التي تعاني منها روسيا اليوم، هي تعود في معظمها إلى الصدام الأميركي وطبيعة المشروعات الأميركية التي تعرقل وتخرب الوضع الروسي.. هذا ما يقرره الخبراء الروس، ويستندون عليه حين الحديث عن مسار العلاقات الروسية الأميركية وحجم الجهود المبذولة أميركياً وتستهدف بشكل مباشر عرقلة وتعويق النهوض الروسي والعمل على تكبيل الإرادة الروسية بالعديد من الاستحقاقات التي لا تسمح للروس التفكير في معاودة الدور الدولي لروسيا، وإغراقها بالعديد من الملفات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية التي تعمق المأزق الروسي وتخرجها من مربع الدولة الكبرى التي تعمل الإرادة الروسية على البقاء فيه ونيلها سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً ما تستحق على ضوء استمرارها في عداد الدول الكبرى.
وعليه فإن الإرادة الروسية الحالية وبالذات في عهد الرئيس بوتين الذي يحسب له ومنذ ما يقارب العقد العمل في كافة الاتجاهات لإعادة الدور الروسي بزخم أكبر مما يحافظ على المصالح الحيوية الروسية، ولا يجعل الولايات المتحدة الأميركية متفردة بالقرار والمؤسسات الدولية.. وهذا بطبيعة الحال يتطلب مقاربة روسية جديدة لتنشيط العلاقة الروسية الأميركية على أسس جديدة تضمن الحدود الاستراتيجية للدور الروسي في العالم وتعمل على منافسة الولايات المتحدة الأميركية في كل مناطق النفوذ في دول العالم.
والأميركي في المنظور الروسي لا يوثق به ولا يمكنه أخلاقياً وسياسياً من حماية الاتفاقات أو تنفيذ التفاهمات إذا كانت لا تخدم المصلحة الأميركية.. ودائماً يتحدث الروس عن طبيعة الدور الأميركي عشية انهيار الدولة السوفييتية.
فالاتحاد السوفييتي أقدم آنذاك على حل حلف وارسو وهدم جدار برلين مقابل تعهدات أميركية بعدم توسيع حلف شمال الأطلسي شرقاً، واحترام مصالح روسيا في المناطق التي تدخل ضمن دائرة نفوذها الجيوسياسي، لكن النتيجة الفعلية أن حلف شمال الأطلسي واصل شرقاً وسعى إلى فرض طوق أمني وعسكري حول روسيا، وأضحت الولايات المتحدة الأميركية تقيم في قواعد عسكرية في عدد من المجموعات السوفييتية السابقة.
ولا ريب وفق هذه الحقائق أن العلاقات الأميركية الروسية، أضحت محملة بكثير من الاعتبارات التي تعود في جوهرها إلى غياب الحد الأدنى من الثقة السياسية والاستراتيجية بين الطرفين.
وأيّ محاولة لتزخيم وتنشيط العلاقة، يقتضي في المرحلة الأولى العمل على تجاوز الحقائق السياسية التي تشكلت خلال العقدين الماضين، وهي وليدة الاستفراد بالقرار الدولي والسعي الأميركي الحثيث نحو تطويق روسيا بالعديد من دول الجوار التي أضحت في المعسكر الأميركي ومعبرة عن الرؤية الأميركية في المنطقة.. ويعتبر في هذا الإطار الرئيس بوتين بوصفه رأس حربة في مشروع ضرورة التعلم من أخطاء روسيا في مرحلة الانهيار والبناء عليها.
وعلى خلفية هذا الإرث السياسي الذي أضحى مؤثراً أو متحكماً في مسار العلاقات الأميركية الروسية، فإن المختبر السوري وطبيعة الأداء الروسي والأميركي وإمكانية التوافق بينهما، هو الذي سيحدد إلى حد بعيد مستقبل العلاقة بين الطرفين..
ثمة مخاوف عديدة عند الطرفين من بعضهما، إلا أن الميدان السوري، هو الذي سيقرر طبيعة العلاقة في الآتي من الأيام.. ويبدو أن التشدد الروسي في الملف السوري، ينطلق من حرص الروس على الإمساك بأغلب أوراق الملف السوري، حتى لا يتمكن الأميركي من الاستفراد بكل تفاصيل الملف، وصياغة حلول منسجمة والمصلحة الأميركية في المنطقة.
والنظرة الواقعية لحقائق الملف السوري، تجعلنا في موقع الاعتقاد أن كلا الطرفين يعملان على توظيف هذا الملف بما يخدم المصالح الاستراتيجية لكلا البلدين.. ولعل الاختلاف الجوهري بينهما في الملف السوري، يعود إلى تحالفاتهما مع الأفرقاء المحليين في سورية.. فالولايات المتحدة الأميركية متحالفة مع الدول الإقليمية المتحالفة مع المعارضة السياسية والمسلحة، والدولة الروسية متحالفة مع نظام الحكم في سورية والدول والأطراف المؤيدة لنظام الحكم.. فهذه المفارقة في التحالفات هي التي تفضي إلى خيارات سياسية مختلفة بينهما في الملف السوري.. ومن المؤكد أن العمل على وقف إطلاق النار بعد الاجتماع بين وزير الخارجية الأميركي السيد كيري ووزير الخارجية الروسي السيد لافروف، هو الاختبار الأول الذي سيحدد مدى جدية الطرفين في إيجاد معالجة سياسية للمعضلة السورية.. لأن الروس مع تدخلهم العسكري المباشر في الملف السوري، إلا أنهم ليس لها مصلحة فعلية في إطالة أمد الأزمة السورية مما يفضي إلى نتائج ليست بالضرورة لصالح الدولة الروسية.
فالتدخل الروسي العسكري يستهدف بالدرجة الأولى ضمان أن أي تسوية سورية ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار المصالح الروسية.. ولكن في ذات الوقت ليس من مصلحة روسيا إطالة أمد الأزمة السورية، مما يفضي إلى نتائج قد تتأثر بها الدولة الروسية استراتيجياً وأمنياً واقتصادياً.
ويبدو من المنظور الاستراتيجي أن الولايات المتحدة الأميركية لا تمانع من تقسيم سورية إلى عدة دويلات وفق المقاسات الطائفية، والتدخل الروسي المباشر يراهن على أنه بالقدرات العسكرية والميدانية الروسية وغيرها قادر على فرض حلول بعيداً عن نزعات تقسيم سورية.. فالتسوية السياسية وفق المنظور الروسي، تأتي بعد مكاسب سياسية وميدانية، والأميركي يرى أنه لا تسوية حقيقية في الملف السوري إلا بتشجيع خيار التقسيم.. لهذا فإن الميدان السوري هو الفضاء الذي سيختبر فيه أي توافق أو تفاهم بين الروس والأميركان.
اضف تعليق