شهد تاريخ الفلسفة العديد من الصراعات حول قضايا اساسية، وكان من بين اهم تلك القضايا التي دار حولها جدل كبير هي قضية أصل المعرفة. ما هي اهم الاسس في اي عقيدة انسانية؟ ما هي نقطة الانطلاق الاساسية في اي رؤية للعالم؟ من اين تنبع المعرفة الانسانية؟
التجريبيون لطالما ادّعوا ان الخبرة الحسية هي الاساس الاول للمعرفة. الحواس، حسب رأيهم، تقدم لنا كل البيانات الخام حول العالم، وبدون هذه المواد الخام، لن تكون هناك اي معرفة على الاطلاق. الادراك الحسي هو نقطة البدء في العملية، ومن هذه العملية تأتي جميع العقائد. التجريبية، في أنقى اشكالها تؤمن بان الخبرة الحسية وحدها هي منْ يمنح الولادة لجميع عقائدنا ومعارفنا. المثال الكلاسيكي هو التجريبي الفيلسوف البريطاني جون لوك (1632-1704).
من السهل رؤية مدى مقدرة التجريبية على كسب العديد من المعارك، انه من الصعب تشخيص اي عقيدة معينة لم تأت بوسائل الخبرة الحسية – البصر، السمع، اللمس، الشم، الذوق. من الطبيعي اذاً، الايمان بان الحواس هي المصدر الوحيد والاساس للمعرفة.
ولكن لا اتفاق بين الفلاسفة على ان الحواس تعمل لوحدها في انتاج عقيدة معينة. هناك عقائد لا تأتي عبر تجربة الحواس او لا يمكن اثباتها عبر الادراك الحسي. ولهذا، وجدنا تاريخيا العديد من التيارات الفلسفية المتصارعة تطرح مختلف الاجوبة للسؤال عن المصدر الذي تأتي منه او يجب ان تنطلق منه المعرفة.
العقلانيون ادّعوا ان نقطة الانطلاق الاولى للمعرفة هي ليست الحس وانما العقل. هم اكّدوا انه بدون المعرفة القبلية والمبادئ التي يوفرها العقل، فلن نستطيع تنظيم وتفسير خبرتنا الحسية مهما كانت. سنكون فقط امام حركة واحدة سريعة وكبيرة وغير مختلفة من الاحاسيس التي لاتدل على شيء.
العقلانية في شكلها النقي تؤمن بان جميع عقائدنا العقلية وجميع المعرفة الانسانية تتألف من المبادئ الاولى والمفاهيم الفطرية (مفاهيم ولدنا معها) التي تنشأ وتتأكد بالعقل، الى جانب اي شيء مُدرك منطقيا من هذه المبادئ الاولى.(1)
كيف يمكن للعقل تزويدنا بالمعرفة الذهنية او المبادئ الاولى؟ بعض العقلانيين ادّعوا اننا ولدنا وفي عقولنا العديد من المفاهيم الجوهرية او المعارف الجاهزة للاستعمال. هذه تمنحنا ما يسميه العقلانيون "المعرفة البديهية". من الامثلة على ذلك ربما معارف معينة عن المكان، الزمان، السبب والنتيجة.
نحن طبيعيا نفكر وفقا للسبب والنتيجة. هذا يساعد في تنظيم خبرتنا عن العالم. حيث نعتقد بأنفسنا اننا نرى بعض الاشياء هي السبب في حدوث اشياء اخرى، ولكن بالنسبة لخبرتنا الحسية الخام، نحن نرى فقط اشياء معينة تحدث قبل اشياء اخرى، ضمن سلسلة متتابعة من الاحداث. فمثلا، الصخرة تضرب الشباك، ومن ثم الشباك يتحطم.
نحن لا نرى الشيء الثالث الذي يُسمى السببية. لكننا نعتقد بحدوثه. الصخرة التي تضرب الشباك تسببت في كسره. لكن ذلك لم يُمارس مثلما تتم حركة الصخرة او يتحطم الزجاج. التجربة لا تفرض كما يبدو مفهوم السببية علينا. نحن نستعمل المفهوم فقط لتفسير ما نمارس. السبب والنتيجة هما معرفة لا يمكن قرائتها ابدا من تجاربنا ولذلك لا بد من جلبها لتلك التجربة عبر استعدادنا الذهني الفطري لتأكيد مثل هذا الارتباط. هذا هو المنظور العقلاني.
الفلاسفة العقلانيون ادّعوا ان اسس معرفتنا هي افتراضات بديهية او صادقة بالبداهة. الافتراض الصادق بداهة له خاصية غريبة كونه صادقا دون الحاجة لأي دليل خاص من اي نوع، نستطيع فكريا رؤية انه صحيح. امثلة على ذلك:
- اي سطح ذو لون احمر هو ملون.
- اذا كانت (س) اكبر من (ص) وكانت (ص) اكبر من (د) فان (س) اكبر من (د).
حالما نفهم هذه الاقوال، فإننا لا نحتاج الى اي تجربة حسية اخرى، فهي حقيقية.
ديكارت كان مفكرا استخدم الشك كمقدمة لبناء فلسفة عقلية. هو كان مقتنعا بان جميع عقائدنا المؤسسة على خبرة الاحاسيس الخارجية يمكن استدعائها للشك، ولكن بالنسبة لمبادئ بديهية معينة، مثل "انا افكر"، لا مجال لأي شك فيها. ديكارت عندئذ حاول ايجاد مبادئ اولية اخرى ليست عرضة للشك العقلاني يمكنها توفير اساس عقلاني لا يرقى اليه الشك لجميع المعتقدات الشرعية الاخرى (2).
الفلاسفة لا يؤمنون ان ديكارت نجح. لكن محاولاته كانت جديرة بالثناء. العقلانية بقيت فكرة مغرية للأفراد المنجذبين للرياضيات ولجمال النظرية الموحدة، لكنها لم يُقصد بها ابدا لتعمل كمسألة تطبيقية.
اضف تعليق