تحتفي الأمم الحية بعظمائها فتحيي أمرهم، وتستحضر مواقفهم، وتحفظ ذكراهم وآثارهم، وتفرح بأفراحهم وتحزن لأحزانهم، وتسعى الشعوب – من خلال ذلك – الى استلهام قيم عظمائها واستكمال تحقيق أهدافهم، والاحتفاء بمواليد العظماء فعل إنساني يدل على عمق الارتباط المعنوي والعاطفي بهم، يقول الإمام الشيرازي (قده): (في أيام مواليد العظماء يجب أن يقف الجميع وقفة إجلال وإكبار لهذه المناسبات ولأصحابها، لأن ذلك يعكس شيئاً مهماً جداً، وهو قوة تمسّك أجيالنا الحالية وارتباطها بعظمائهم، كما يدلل على العلاقة الوثيقة بين الناس وبينهم).
وصف الله (عزوجل) سيد الكائنات (صلى الله عليه وآله) بـ(العظيم)، قال (عزوجل): (وإنك لعلى خلق عظيم). وما يصفه (عزوجل) بـ(العظيم) لا يمكن لأحد أن يتصور حدود هذه العظمة أو يتخيل مداها، يقول (قده): (إن الخُلُق ليس مادة نتخيل عظمتها مهما كانت عظيمة، فمن هنا نعرف أن (الخلق العظيم) في علم الباري (عزوجل)، لا يمكن لأي بشر أن يصل إلى نهايته مهما كانت قوة مخيلته، لأنه عظيم بالمقياس الإلهي وليس البشري، فمن أراد أن يتكلم عن خلق الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، يتكلم وهو قاصر، لأن العظيم (عزوجل) سبق إلى وصفه بـ(الخلق العظيم)، فأين نحن من ذلك، وماذا نريد أن نقول بعد قول الله(عزوجل): (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
كرّم الله (عزوجل) أمة الإسلام بخاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) الذي أرسل رحمة للعالمين. وقال (عزوجل): (لقد كانَ لكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة). وهو تكريم عظيم، على الأمة استثماره لنيل خير الدنيا والآخرة، الأمر الذي يجعل الاحتفال بمولده (صلى الله عليه وآله) مناسبة ليست كغيرها من المناسبات، يقول الإمام الشيرازي (قده): (الاحتفال بالمولد النبوي الشريف لا يعني توزيع الحلوى والمرطبات، ونصب المصابيح والنشرات الضوئية، وغيرها من أدوات الزينة في الشوارع في أيام الاحتفال فحسب، بل يجب أن يتعداه إلى أن يشمل توزيع الكتب والنشرات الثقافية الإسلامية، وتقديم الخدمات للناس، وتكثيف الأعمال الخيرية للجميع، وإقامة المؤتمرات والندوات والمهرجانات في هذه الأيام المباركة، فالبلدان المسيحية مثلاً، في حركة دائبة، حيث تفتتح آلاف الكنائس في مولد السيد المسيح (عليه السلام)، بالإضافة إلى إنها تفتتح المستشفيات، ومراكز الأمومة والطفولة، ومعاهد الصم والبكم، ودور الحضانة، وملاجئ الأيتام، ودور رعاية المسنين، ومراكز رعاية ذوي العاهات المستديمة، وإقامة حفلات الزواج الجماعية، ومختلف الأعمال الخيرية). وفي معرض هذا التناقض بين أمتين، أمة عاملة منتجة، وأمة متكاسلة مقصرة، يقول الإمام الشيرازي (قده): (ألا يجدر بنا نحن المسلمين أن نقوم بأكثر من هذه الأعمال في مولد نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وهو سيد الكائنات، ونبني المساجد والحسينيات والمكتبات والمؤسسات الخيرية بكافة أنواعها، وكل ما يخدم الناس، تكريماً لهذه الذكرى العظيمة، لما لهذه الأعمال من أثر فاعل في النفس البشرية، ونشر الوعي الإيماني بين صفوف المسلمين، وزرع روح المحبة والتعاون بينهم، وفوق كل هذا رضا الخالق (عزوجل)).
إن استحضار الأمة لأيام الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وآله الطيبين الطاهرين (عليهم السلام) ينم عن نبل الأمة وعمق وفائها لهم (عليهم السلام)، كما أنه عمل يحفز وعي الأجيال، ويجدد إيمانها، ويستنهض هممها للارتقاء بواقعها، فهو استحضار يتزود من الخزين المعرفي والثقافي الذي تركوه (عليهم السلام) لهداية الناس وسعادة البشرية جمعاء، فهو تراث ينسجم مع كل حاضر يتجدد، ويرسم مستقبلاً واعداً. يقول (قده): إن يوم ولادة منقذ البشرية (صلى الله عليه وآله) وعترته الأطهار (عليهم السلام) هو أحق أن يكون أهم يوم في حياة البشرية جميعاً، فهل يفعل المسلمون جزءاً مما يفعله المسيحيون في ولادة المسيح (عليه السلام)! وهل عاتب المسلمون أنفسهم على ذلك؟ وهل تنبهوا إلى ما يجري من استعدادات تسبق رأس السنة الميلادية لإحياء ذكرى مولد السيد المسيح (عليه السلام)، فالمسيحيون يوقفون جميع مشاريعهم لما بعد الميلاد، ويعطلون الأسواق والمدارس، وتغلق أبواب الشركات والمؤسسات العامة، إلا بعض ما كان خدمياً منها، أي أن مرافق الحياة العامة شبه متوقفة لمدة ثلاثين يوماً لإحياء هذه الذكرى التي يعتبرها المسيحيون عيداً عالمياً، ويدخل المسلمون ضمن المحتفلين في هذا العيد، من حيث يدرون أو لا يدرون، بينما يتركون عيدهم الكبير يمر وكأنه يوم كبقية الأيام الأخرى من السنة، بل بعض المسلمين، للأسف الشديد، لا يعطلون حتى يوماً واحداً احتراماً لميلاد نبيّنا العظيم (صلى الله عليه وآله)!).
إن غالبية المجتمعات المسلمة اليوم تعايش أزمات خانقة، وتترقب تهديدات خطيرة، وهذا الواقع المأزوم يؤكد ضرورة الشروع بالتغيير والإصلاح، ومن أولويات الإصلاح المطلوب اليوم، تقييم موضوعي لتديّن المجتمعات المسلمة لغرض تقويمها، وبلورت ذلك الإيمان الى واقع ملموس، من خلال بناء الإنسان المؤمن والمجتمع الصالح ودولة عادلة، وإن ذكرى المولد النبوي المبارك مناسبة عظيمة للهداية والرشاد والتغيير والإصلاح والتقدم والرفاه، يقول (قده): (إن التمسك بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) لا يعني أداء بعض المراسم في مواليدهم فقط، بل نشر فضائلهم وتعاليمهم، واتباع سيرتهم، وقد قال الإمام الرضا (عليه السلام): (رحم الله عبداً أحيا أمرنا). فقيل له: وكيف يحيى أمركم؟ قال (عليه السلام): (يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)).
اضف تعليق