رغم ان الامر تأخر لزمن تجاوز مئات الالوف من الشهداء والمغيبين وملايين اللاجئين الذين ضاقت بهم ارض المسلمين بما رحبت.. فانه لا يمكن للمرء -مبدئيا على الاقل- الا التفاؤل باي جهد من الممكن يؤدي إلى عمل مشترك يقود إلى الحد من قدرات داعش الارهابي ويساعد على تدمير قوته.. ومن هذا المنطلق، فان المنطق يقول بانه من المفيد الترحيب -نظريا هذه المرة- بإعلان تشكيل تحالف إسلامي عسكري بقيادة السعودية لمحاربة الإرهاب "عسكريا وفكريا وإعلاميا".
فكلمات بقوة ووضوح الخطاب الذي يقول ان التحالف جاء "لمكافحة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره والقضاء على أهدافه ومسبباته، وأداءً لواجب حماية الأمة من شرور كل الجماعات والتنظيمات الإرهابية المسلحة أيا كان مذهبها وتسميتها، والتي تعيث في الأرض قتلا وفسادا وتهدف إلى ترويع الآمنين"... وتزامنها مع خطوة سياسية ذات أهمية كبيرة بجمع اكثر من ثلاثين دولة في هذا التحالف، قد تشكل دعماً معنوياً مهما انتظرته الشعوب المكتوية بنار الارهاب منذ فترة طويلة، وقد تكون رسالة سياسية واضحة بالتفات الدول الاسلامية الى خطر الارهاب لكونه "اصبح عامل تهديد لأمن وسلامة جميع دول العالم، وان البلدان الاسلامية تعد "أكثر المتضررين به واتُّخذ ذريعة لتشويه صورة الإسلام الصافية، كما اتُّخذ ذريعة للعبث بأمنه ومصالحه الحيوية والتدخل في شؤونه".
ولكن على الرغم من قوة الخطاب.. وهذا الترحيب.. فانه لا يمكن المرور سريعا على بعض المفارقات التي تضمنتها هذه المبادرة والتي قد تستحق التوقف عندها قليلا.. وقد يكون اهمها السؤال الكبير عما إذا كانت المملكة العربية السعودية هي الدولة المناسبة لتوجيه الجهود نحو مكافحة الارهاب، وهل ان محاولتها الاستحواذ على قرارات واستراتيجيات التحالف سوف ترضي دولا أقوى عسكريا، خاصة تركيا ومصر....
والاهم هو تفسير الاشارات الكثيرة التي وردت من العديد من عواصم العالم التي ابدت عدم معرفتها المسبقة بهذه الخطوة رغم ان المألوف في مثل هذه التحالفات ان تكون ذات خطة وأهداف محددة وأسلوب تنسيق للعمل وتنفيذه ناتج عن مشاورات ولقاءات واجتماعات كثيرة وطويلة وتتخذ عادة طبيعة العناية الدقيقة بأقل التفاصيل اثارة للاهتمام.
كما انه من المربك تفهم ذلك التريث الاقرب الى الفتور الذي ساد اغلب المواقف الدولية تجاه الاعلان، والذي اجبر اشرطة الاعلام الخليجية على اجترار بروتوكوليات داود اوغلو وهاموند المرحبة ليومين كاملين قبل ان تتسيد الساحة التصريحات الناكرة والنافية والمتفاجئة بما لا يتلائم -حد الفضيحة- مع مبادرة بحجم تحالف بمثل هذه القاعدة العريضة والاهداف الكبيرة التي كانت تستدعي علم الاطراف المشاركة به على الاقل..
فالإعلان بهذه الطريقة اثار العديد من علامات الاستفهام والارباك نتيجة القفز مباشرة الى اشهار التحالف من دون مباحثات مكثفة أو اجتماع مشترك لقادة أركان تلك الدول، فقد نتفهم -بصعوبة في البلع- تصريح الناطق باسم الخارجية الأمريكية، جون كيربي، الذي نفى فيه أن تكون المملكة قد أخطرت واشنطن مسبقا بتأسيس الحلف، ولكن ان يستيقظ الناس في العديد من دول العالم ليجدوا انفسهم جزءاً من التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب، فهو من الامور التي لم يسبق ان تعارفت عليها السياقات التي تحكم العلاقات الدولية في مثل هذه المواقف، فالنفي الواضح من دول كباكستان وماليزيا وإندونيسيا ولبنان والسلطة الفلسطينية -المحظور عليها بأمر أوسلو وإسرائيل ومجتمعها الدولي حمل السلاح أو المقاومة أو حتى المشاركة في الانتفاضة- لعلمهم المسبق بانضمامهم للتحالف الإسلامي العسكري، رغم إعلان المملكة أنهم جميعا أعضاء فيه، قد يثير الشكوك في مدى جدية هذا الاعلان، ويخفض كثيرا من سقف المتوقع -وبالنتيجة المنتظر من الآمال المعلنة - منه.. وانه بالنظر إلى السياقات التي جاء فيها هذا التحالف، وخاصة مع ظروف التجربة اليمنية، "لا يمكن سوى توقع فشل كبير لهذا التحالف قد تخرج من خلاله داعش بقوة أكبر مهددة أمن الدول المشاركة فيه"، على حد تعبير الخبير العسكري الجزائري سليم بلمزيان.
ان المعضل الذي تواجهه المملكة العربية السعودية في مبادراتها انها عادة ما تكون فجائية وطارئة بصورة اقرب الى العبثية ومحكومة بتقنيات المسلسلات البدوية اكثر منها على قواعد العلاقات الدولية، والاستناد على ردود الافعال المتشنجة المفتقرة الى الدراسة المعمقة المدعمة بالاتصالات الكافية والخبرة والدراية والبحث المستفيض لأوضاع معينة تساعد الحكم السعودي في اتخاذ القرار نحو ما يحقق الحاجة الفعلية من اصداره..
فصدور مثل هذه القرارات التي تقترب من الانعطافة في مسيرة الثوابت السعودية المبنية على الانغلاق والتأكيد على الخصوصية وفي هذه المرحلة المفصلية من تاريخ المنطقة.. ومع كل هذه الاعتراضات والتحفظات التي تخللتها.. قد يكون مما يشير الى وجود خلل واضح وجلي ومربك في بنيوية مؤسسة القمة في الاسرة الحاكمة وفي آلية التوصل الى القرار ضمن البيت السعودي الذي يشهد المزيد من الفردية والتطرف في المواقف المؤدية الى التقاطع والازمات اكثر مما تقدم من حلول..
كما ان الاسراف السعودي في بناء سياساتها اتكاءً على وجود مفترض لعالم سني واسع متحد في قراراته الطائفية، وقيادتها الوهمية الملتبسة لهذا العالم، وفي ظل الرغبة العارمة في اختبار لذة الاحساس بشعور الدول الحقيقية القوية، وهوس ابن سلمان في التموضع امام الكاميرات في موقع القيادة القادرة، قد يدفع بها الى المزيد من التوحل في مسارات التحشيد واللململة العجول التي قد تدعو الى الفرقة اكثر مما تقدم من وعود بالوحدة والانصهار والتجمع..
المؤلم في هذا الامر، هو ان شعوب المنطقة ستضطر من جديد.. ودون نهاية مرتقبة لهذا المسلسل الدوامي المكرور.. الى اجترار الصبر وهي تراقب جوق المحللين السياسيين المرتبطين بالاعلام السعودي وهم يكابدون الجهد المستحيل في تبرير خطوات المملكة واضفاء بعض التفسير على قراراتها المرتجلة.. ومرة اخرى سيكون عليه تجرع محاولات الاقلام مسبقة الدفع في استنباط بعض الجدوى الزائفة من مثل هذه المبادرات على حساب الولوغ في دماء الابرياء.. وللاسف..سيكون علينا الاستمرار في التقاط اشلاء ابنائنا واحبائنا من ساحات العهر السياسي الموشاة بالموت والدخان ورائحة البارود الاخرق لأيام واسابيع اخرى، لحين تفتق عقول ولاة الامر عن مبادرة خرقاء اخرى.
اضف تعليق