في تجربته الثقافية المعاشة في فرنسا يكشف الكاتب الفرنسي الجزائري الاصل محمد اركون عن تصادم مايسميه بالجهل لدى الطرفين، وهما وفق توثيقه الاصولية الاسلامية، وكيف يخلع فيها رجال الدين الذين يطلق عليهم المتلاعبين بتفسير الكتابات المقدسة، المشروعية على العنف الارهابي، والتطرف المعاكس الذي يمثله تطرف علمانوي - الحادي تكنوقراطي، وهو ما ادى الى تفكك القيم والمشروعيات القديمة وفق تسميته، ويعني بها قيم العلمانية ومشروعية الفصل بين الدين والسياسة.
ويشدد اركون في كل كتاباته على الفصل بين العلمانية والعلمانوية في منهجية الفصل لديه بين العقلانية والتطرف في كل مجالات الفكر وتطبيقاته العملية. وهو ينحو باللائمة على المرجعيات العليا الدينية والعلمانية على عدم الكشف عن تراجع هذه القيم وانتصار ما يطلق عليه المثلث الانثربولوجي "العنف، التقديس، الحقيقة" والذي يبدو من وجهة نظرنا ان العلمانوية والاصولية تتشارك فيه بقوة وتكسب الصراع بينهما بعدا اكثر اتساعا واخطر نتائجا. انها تضع الشعوب بمواجهة الشعوب، والحضارات والثقافات بإزاء بعضها البعض في الصدام والمواجهة، وستكون نهاية التاريخ لحضارات وأمم، لكنها غير متعينة وغير محددة، وهو ما يرشح عن هذا التطرف والجهل العلمانوي والاصولي.
وقد بدت فرنسا هي حلبة الصراع الاولى في العالم لهذا التطرف المتعاكس الاتجاه من خلال اعمال ارهابية استهدفت مراكز ومؤسسات ثقافية مما يعكس هوية هذا الصراع الايديولوجي والثقافي وانتمائه الى الحيز الخطير في صراع الهويات، وكان الرد الفرنسي هو العمل على وضع خطة لإنهاء الاسلام في العام 2027م على ان يبدأ العمل بها في العام 2017م، وطرد المسلمين من فرنسا وفق مقتضى العمل بهذه الخطة. وقد كشفت هذه الخطة صحيفة القدس العربي في خبر نشرته بتاريخ 23/مايو/2015م ونسبت الخبر الى سياسي فرنسي هو روبير شاردون، وهو يميني ينتمي الى حزب ساركوزي، وقد دعا الى سن قانون يقضي بحظر الاسلام وسحب الجنسية الفرنسية عن المسلمين ونقلهم الى حدود البلاد لغرض طردهم واعادتهم الى دولهم وهناك يجدون فيها اسلامهم وتكون افضل لهم، والكلام له.
وكانت موجة معاداة الاسلام في فرنسا سجلت نسبة مرتفعة في الربع الاول من العام 2015م، فقد ذكرت تقارير صحفية ان عدد الاعتداءات بلغت قبل تفجيرات باريس الاخيرة ما يقارب " 222 " اعتداء، وقد توزعت بين عمل منفذ ضد اشخاص مسلمين واماكن عبادة، وبين تهديدات طالت مسلمين واماكن عبادة، وقد بثت مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد فيدوية مصورة هجوم عدد من الفرنسيين ليلا على اشخاص مسلمين وعرب في شوارع ومتاجر في باريس وبطريقة ثأرية وانتقامية في اعقاب تفجيرات باريس الاخيرة.
لكن علينا ان نتذكر حجم الهزيمة النفسية للفرنسيين وهم يشعرون انهم يعيشون بين اعداء غير معلنين، وهم بنفس الوقت منظورين يتخللون شوارعهم ومناطقهم.
جذور الازمة بين الاسلام وفرنسا
تتسم علاقة فرنسا بالإسلام ومن بين كل دول الغرب بنوع من التداخل والتعقيد، فرنسا بلد الفكر والثقافة الحديثة، وكانت حصة الاسلام في دراساتها واستشراقها كبيرة ومؤثرة في بناء تصورات متفاوتة حول الاسلام في عالم اليوم، وهي الدولة الاوربية في تاريخها الاستعماري التي ارادت احلال النموذج الفرنسي ثقافيا في مستعمراتها العربية الاسلامية في شمال افريقيا، وكانت بداية احلال النموذج الفرنسي هو فرنسة لغات هذه المستعمرات مما اكسب الصراع معها بعدا ثقافيا أوليا منذ البداية، وأكسب ايضا ذلك الصراع نوعا من التعقيد الذي ظل يعيد انتاج ذاته ثقافيا.
وقد تخللت تلك الحالة من الالحاق الفرنسي الثقافي المتعمد لهويات مستعمراتها الاسلامية الحاجة الى اليد العاملة والتجنيد الاجباري، فقد اصدرت فرنسا مرسوما جمهوريا في العام 1916م ومع اشتداد الحرب العالمية الاولى، خيّرت فيه الجزائريين بين التشغيل الطوعي والتجنيد الاجباري، وقد نتج عنه دخول الجيل الاول من المغاربة الجزائريين الى فرنسا، ثم دعت الحاجة الى اليد العاملة في فرنسا الى تشجيع هجرة العمالة اليها من مستعمراتها الشمال افريقية في الفترة الممتدة بين عام 1945م – 1975م، وهكذا ينتج عن السياسة الفرنسية تجاه مستعمراتها القديمة في التجنيد الاجباري وهجرة العمالة العربية الاسلامية اليها، شعورا بالاستغلال من جانب فرنسا لدى الافراد والمجموعات المغاربية الوافدة الى فرنسا، لاسيما وان الفرنسيين وبعد استقلال الجزائر خذلوا اعدادا كبيرة من الجزائريين الذين تعاونوا مع الاحتلال الفرنسي للجزائر، مما اورث عندهم استياء بالغا تجاه الفرنسيين.
هكذا تبدو العلاقة متوترة بين المسلمين المغاربة والدولة الفرنسية، ويبقى فشل سياسات الدمج في فرنسا تعبير عن هذا التوتر والانكماش الاجتماعي في المجتمع الفرنسي، وقد شهد العام 2005م اعمال شغب وتظاهرات في ضواحي باريس على اثر وفاة شابين احدهما تونسي والاخر افريقي بصعق كهربائي في غرفة كهربائية بعد مطاردة الشرطة الفرنسية لهما، وقد تخللت تلك التظاهرات أعمال عنف أصيب بها العشرات وقتل احد افراد الشرطة، وقد وصف ساركوزي، وكان يشغل فيها وزارة الداخلية، مدبري التظاهرات بانهم رعاع واوباش ويجب اخراجهم من فرنسا، وكان سبب التظاهرات وفق مراقبين هو سياسات التمييز التي يعاني منها ذوي الاصول الافريقية، ونسبة معاناة المغاربة المسلمين من سياسات التمييز هي الاكثر لاسيما وانهم يشكلون مانسبته 03/0 من المجتمع الفرنسي، ويبلغ تعدادهم وفق وزارة الداخلية الفرنسية أربعة ونصف مليون وهناك تقديرات تذهب الى اكثر من هذا الرقم، وهم يعانون من غياب فرص العمل والوظائف المناسبة ويعيشون الفقر والحرمان، وتكتظ تلك الضواحي بالعاطلين عن العمل والخارجين على القانون وفق تقارير صحفية، ولكن في حينها لم يطرح الاسلام في مواجهة فرنسا او معاداة فرنسا للإسلام مما يؤشر تحولا خطيرا مع التفجيرات واعمال العنف الاخيرة التي اخذت بعدا عدائيا اسلاميا في تحليلات وتصورات الساسة الفرنسيين والغربيين.
التطرف وأزمة الازدواجية في فرنسا
هكذا تبدو العلاقة متوترة بين المسلمين المغاربة والدولة الفرنسية، ويبقى فشل اندماج المسلمين في المجتمع الفرنسي تعبيرا عن هذا التوتر المستمر، ورغم علمانية الدولة الفرنسية وعدم وجود أي ضغوط فيها ومن جانبها للتخلي عن المعتقدات الدينية للمسلمين ولغيرهم، الا ان تاريخا من الاستغلال والاحساس بالاضطهاد وهو الذي يفسر كل هذه المواجهة الحادة لم يكن نسيانه بالشيء اليسير من جانب المغاربة المسلمين، ثم المشاعر العنصرية التي تكتنف نفوس اعداد كبيرة من الفرنسيين تجاه المسلمين، وهي اذ تكشف عن ذلك العداء المستتر والراسخ بين الفرنسيين والمسلمين، فإنها تكشف ايضا عن ازدواجية العلمانية الفرنسية وأزمتها الراهنة.
ويبرر هؤلاء الفرنسيون موقفهم بالدفاع عن علمانية فرنسا ومصالحها المهددة من قبل الارهاب الاسلامي وفق تصورهم، واذ لم تتخذ الدولة الفرنسية سياسات رادعة تجاه مشاعر العنصرية والكراهية وجزء منها النشر المتكرر للرسوم المسيئة لنبي الاسلام، وهي المشاعر التي يغذيها اليمين الفرنسي بقوة وتطرف علمانوي –إلحادي بدا صاخبا وظاهرا في الشارع الفرنسي، وهو جزء من أزمة العلمانية الفرنسية وازدواجيتها، فان التطرف والتشدد الديني– الاسلامي وجد له مناخا قابلا للتأثير ونشر قواعده بين صفوف المسلمين في فرنسا.
لكن بنفس الوقت، فان التطرف والتشدد الديني الذي يراد به وصم كل المسلمين في فرنسا وباقي دول اوربا مستغلا فضاءات الحرية الممنوحة للأديان في الدولة العلمانية، كان يثير أزمة اجتماعية واخلاقية بالنسبة للمسلمين. فالدولة التي آوتهم ومنحتهم الاقامة ووفرت لهم حرية الدين والمعتقد، كيف يتم التعامل معها بهذا الشكل من العدوانية والترصد للإيقاع بها لاسيما مع نمو التنظيمات الارهابية واكتساب اعداد كبيرة من افرادها جنسية الدول التي يقيمون فيها، وقد اوجدت تلك الازدواجية الاخلاقية التي عانت منها الحالة الاسلامية في اوربا، وهي تقابل أو تكافأ ازدواجية العلمانية الفرنسية شعورا اوربيا مشتركا بان دول اوربا صارت مهددة من قبل الاسلام كدين يصطدم وثقافتهم ويتعارض وقيمهم الديمقراطية والانسانية، وليس مجرد تهديد او خطر يأتي من قبل افكار احادية متطرفة او افراد متطرفين "مسلمين–ايديولوجيين" حيث تبقى صعوبة الفصل قائمة في اذهان الكثير من الاوربيين بين الاسلام والسلوكيات الاسلامية المعتادة اجتماعيا وثقافيا، وهي تشتمل ايضا على السلوك المتطرف والمتشدد لأفراد او جماعات اسلامية في ازدواجية غير مبررة دينيا وانسانيا، وتشكل بالنسبة لنا كمسلمين ورثنا الاسلام كثقافة واعتقدنا به كدين إلهي انحرافا بيّنا وظاهرا عن الاسلام، لكن التطرف الفكري والتشدد في السلوك الديني يقود الى مثل هذه الازدواجية في الحالة الاسلامية، مثلما تقود العنصرية والكراهية العرقية الى الازدواجية في العلمانية الفرنسية.
اضف تعليق