من الخطأ التعامل مع هذه الظاهرة بوصفها مشكلة فردية ناتجة عن ضعف أخلاقي، بل يجب النظر إليها بوصفها نتاجا لخلل مؤسسي طويل الأمد، فلا يمكن إصلاح أداء الموظف من دون إعادة هيكلة العلاقة بين الدولة وموظفيها، وهذا يحتاج الى تغييرات واصلاحات جذرية حقيقية...
يعيش الموظف في المؤسسات الحكومية نوع من التناقض، حتى أصبح هذا التناقض من المفارقات المألوفة في الواقع الوظيفي، والتناقض المقصود هنا هو عدم إنتاجية الموظف في القطاع العام بينما يؤدي اعمال إضافية ومهام جسيمة في القطاع الخاص او الاعمال المنزلية.
من الأشياء الملاحظة ومنذ عقود هو انخفاض إنتاجية الموظف، فنادرا ما تجد موظف يبذل جهود استثنائية، اذ غالبا ما يتقاعس او تقل همته في تأدية واجباته اليومية، حيث تشير هذه الحالة الى وجود عدم انتماء حقيقي للمؤسسة الحكومية، ويعدها "الموظف" مجرد مصدر لكسب العيش.
كثيرة هي النماذج التي تنظر الى الوظيفة الحكومية بانها تحصيل حاصل، والمصداق على ذلك هو مجيئه متأخرا يوميا، وبعد ذلك يتناول وجبة الإفطار التي تستغرق أكثر من نصف ساعة، وفي المعدل يتم تضييع أكثر من ساعة في الصباح قبل البدء بالعمل الرسمي وتمشية المعاملات المكدسة.
ولا ينتج الوضع الحالي للموظف دون مسببات، منها قلة الحافز المعنوي الذي يجعل الموظف يشعر بالانتماء الفعلي لهذه المؤسسة، ولم يأتي الحافز من دون التشجيع المستمر عبر المكافئات والدعم المباشر، وإشعار الموظف بانه رقم واحد في القسم او الشعبة او الوحدة، بينما البيئة الجافة جعل الموظف يتهرب عن أداء العمل اليومي.
وأحيانا كثيرة لا تتعلق قلة الإنتاجية بقدرة الموظف او كفاءته، بل يرتبط ذلك بنوعية الحافز، وكثيرا ما يكون الموظف الحكومي يعاني من نقص في المرتب الشهري، الذي يفقده الحماسة والرغبة للاستمرار في العمل، وهي بطبيعة الحال مشكلة عامة لم تتمكن الحكومات الماضية والحالية من معالجتها.
وفي ظل هذه الحالة يعمل الموظف بالقدر الذي يراه يقابل راتبه الشهري، محملا اللوم على عاتق الجهات الحكومية، بينما نجده يعمل ويجتهد في القطاع الخاص، لسببين الأول ارتفاع قيمة الراتب الشهري بنسبة معينة، وهو ما يشكل عامل قوة لدى مؤسسات القطاع الخاص ودافع ذاتي للموظف دون أي جهد رقابي.
اما السبب الآخر، فهو قوة العامل الرقابي في القطاع الخاص، وربما يضطر رب العمل الى النزل للميدان لمعرفة كيف تسير الأمور، وهو من يحدد بصورة مباشرة من يناسبه للعمل من غيره، فتجد العامل او الموظف يعمل بما يضمن البقاء في الوظيفة أطول قدر ممكن.
بينما في القطاع العام الموظف جل ما يخشاه عقوبة لفت النظر او النقل بأقصى الأحوال، وفي كلتا الحالتين لا تشكل العقوبة عامل ردع او ضغط لتجويد العمل او الاهتمام فيه بدرجة أكبر.
وفي القطاع الحكومي، لا يرتبط الجهد غالبا بنتيجة ملموسة، بل يتم امتصاصه داخل أنظمة إدارية تقليدية تمنح الأقدمية على حساب الكفاءة، وتكافئ الالتزام الشكلي بالحضور، لا الفعلي بالإنجاز، أما في القطاع الخاص أو النشاطات المنزلية، فالجهد يقابله مردود مباشر، مادي أو معنوي، يخلق شعورا بالإنصاف والرضا.
ومن أبرز العوامل التي تُغذي هذا التباين هو ضعف الرقابة المؤسسية، وغياب نظام للمساءلة الفعلية داخل الدوائر الحكومية، ما يجعل من التراخي في الأداء أمرا مقبولا وغير مُستنكر من قبل الجميع الذين يشتركون بنفس الصفة.
ولو نظرنا الى الظاهرة من بعد آخر، من حيث الزاوية الاقتصادية، فضعف الرواتب الحكومية، وتآكلها أمام التضخم وغلاء المعيشة، يضطران الموظف إلى البحث عن دخل بديل، وهنا قد لا يعود التراخي في الدوام الرسمي نتيجة كسل أو تهاون، بل هو انعكاس مباشر لأولويات اقتصادية يُعيد فيها الموظف ترتيب جهوده وفقًا لما يضمن له الحد الأدنى من العيش الكريم.
من الخطأ التعامل مع هذه الظاهرة بوصفها مشكلة فردية ناتجة عن ضعف أخلاقي، بل يجب النظر إليها بوصفها نتاجا لخلل مؤسسي طويل الأمد، فلا يمكن إصلاح أداء الموظف من دون إعادة هيكلة العلاقة بين الدولة وموظفيها.
اضف تعليق