هل انقلبت معادلات المادية التاريخية؟ إنها نهايات حرب اوروسيا مملكة قلب العالم في الجغرافيا السياسية، في ظل هيمنة التاجر الامريكي او الترامبية الجديدة التي ستحول تلك الحرب بالتقادم من حرب خشنة الى تبادل منافع اقتصادية بين فرقاء الحرب في مملكة قلب العالم...
1- تمهيد:
غدت ملامح التدخل الامريكي بتسوية الحرب في اوروسيا مملكة قلب العالم كما تسمى في الجغرافيا السياسية, قائمة وبشكل مبكر على تدوير زوايا الفكر الجيوسياسي الامريكي باستقطاب روسيا وبمعزل عن اوروبا والصين وعلى اسس نفعية تجارية، وهو أمر ستحصد اميركا نتائجه كتفضيل اول first best في السياسة الخارجية الامريكية و اعادة تشكيل مراكز القوة في العالم .
اذ تسعى الولايات المتحدة الامريكية في هذه الحقبة الى خلق الضد النوعي ازاء الاتحاد الاوروبي في الحرب الاوكرانية والصين معاً، عن طريق جعل الاعتراف بضم روسيا لنحو 20% من اراضي اوكرانيا كامر واقع واظهار روسيا بموقع المنتصر وتشكيلها (كقطب ثاني بارد) وتقييد اوروبا الاطلسية (الحليف الصديق الشديد البرودة ) والحذر من الصين القطب (الخصم) في دائرة الحرب التجارية الباردة.
وهي سياسة ترامبية جديدة Neo-Trumpism تقوم على الصداقات النفعية وتختلف عن مرحلة الحرب الباردة يوم ولد القطب الاخر في نهاية الحرب العالمية الثانية وهو الاتحاد السوفييتي تحت شعار ونستن تشيرشل ,,يا اعداء الشيوعية اتحدوا,,
فروسيا اليوم تمثل القطب الثاني و (الحليف البارد) للقطب الاول (اميركا) وليس (العدو) في سياسة الولايات المتحدة و المرغوب صناعته أمريكياً لكون السياسة الصينية هي قطب من نمط احادي (خصم) زاحف ناعم نحو المصالح الامريكية .
كما لم تؤد الصين دورا رئيسا في حرب اوكرانيا بمثابة (الحليف الاستراتيجي) في دعم روسيا في الحرب الروسية الاوكرانية الا نفعياً تجارياً ماركنتالياً من خلال نمط نفعي آخر، اذ تعايشت الصين على النفط الروسي الرخيص وصرفت منتجاتها بشكل مذهل الى اسواق روسيا الاتحادية و بشكل استغلالي لم يسبق له مثيل، وحتى مبادرة (بريكس) وعملتها المفترضة كانت مناورة فارغة لم تحقق شيء في مؤتمر قزان الاخير وافشلتها الصين من خلال محاولة تسييد عملتها على النظام النقدي القادم كما سنرى لاحقاً.
2- طريق الحرير الرقمي ومصير عملة بريكس:
في الايام القليلة الماضية تداولت الحقائق، خبرية صادمة عن قيام بنك الشعب الصيني (البنك المركزي الصيني) وبشكل مفاجئ من خلال ما نشرته مجلة الإيكونوميست اللندنية The Economist في قيام الصين بطرح عملتها الرقمية بشكل مفاجئ اذ اشارت التوجهات المتداولة في المجلة اللندنية بالنص ((ان نظام تسوية اليوان الرقمي عبر الحدود سيتم ربطه بالكامل مع الدول العشر في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) وستة دول في الشرق الأوسط، مما يعني أن 38% من حجم التجارة العالمية سيتجاوز نظام SWIFT الذي يهيمن عليه الدولار الأمريكي ويدخل مباشرة إلى "لحظة اليوان الرقمي". هذه اللعبة المالية، التي أطلقت عليها مجلة The Economist اسم "معركة بريتون وودز 2.0 المتقدمة"، لتعيد كتابة الشيفرة الأساسية للاقتصاد العالمي باستخدام تقنية سلسلة الكتل Chainblockفي حين لا يزال نظام SWIFT يعاني من تأخيرات تتراوح بين 3 إلى 5 أيام في المدفوعات العابرة للحدود، حيث سيتمكن الجسر الرقمي الذي طورته الصين من تقليص سرعة التسوية إلى 7 ثوانٍ فقط.
ففي أول اختبار بين هونغ كونغ وأبوظبي، قامت شركة بسداد دفعة لمورد في الشرق الأوسط عبر اليوان الرقمي. لم تعد الأموال تمر عبر ستة بنوك وسيطة، بل تم استلامها فورًا عبر دفتر الأستاذ الموزع، وانخفضت رسوم المعاملات بنسبة 98%. فهذه القدرة على تنفيذ "المدفوعات البرقية" جعلت النظام التقليدي، الذي يهيمن عليه الدولار، يبدو فجأة بدائيًا ومتأخرًا.
وان ما يثير قلق الغرب أكثر هو "الخندق التقني" الذي بنته الصين حول عملتها الرقمية. فالتقنية القائمة على سلسلة الكتل التي يعتمد عليها اليوان الرقمي لا تتيح فقط تتبع جميع المعاملات، بل تطبق أيضًا قواعد مكافحة غسيل الأموال تلقائيًا.
وفي مشروع "دولتان، منطقتان صناعيتان" بين الصين وإندونيسيا، استخدم بنك الصين الصناعي اليوان الرقمي لإكمال أول دفعة عابرة للحدود، حيث استغرقت العملية 8 ثوانٍ فقط من تأكيد الطلب إلى وصول الأموال، مما جعلها أسرع 100 مرة مقارنة بالطرق التقليدية .
هذا التفوق التقني دفع 23 بنكًا مركزيًا حول العالم للانضمام إلى اختبارات الجسر الرقمي، حيث خفض تجار الطاقة في الشرق الأوسط تكاليف التسوية بنسبة 75%.، لذا فان إعادة تشكيل السيادة المالية يكمن في التأثير العميق لهذه الثورة التكنولوجية في إعادة تشكيل مفهوم السيادة المالية.
وبينما كانت الولايات المتحدة تحاول فرض عقوبات على إيران عبر SWIFT، كانت الصين قد أنشأت بالفعل حلقة مغلقة من المدفوعات باليوان في جنوب شرق آسيا، وتُظهر البيانات أن حجم التسوية العابرة للحدود باليوان لدول آسيان تجاوز 5.8 تريليون يوان في عام 2024، بزيادة 120% عن العام 2021.
كما أدرجت ماليزيا وسنغافورة وستة دول أخرى عملة اليوان ضمن احتياطياتها من العملات الأجنبية، وأكملت تايلاند أول تسوية نفطية باستخدام اليوان الرقمي. هذه الموجة من "إزالة الدولرة" دفعت بنك التسويات الدولية إلى التصريح: "الصين تعيد تعريف قواعد اللعبة في عصر العملات الرقمية".
فاليوان الرقمي ليس مجرد أداة دفع، بل هو أيضًا حامل تكنولوجي لمبادرة الحزام والطريق. في مشاريع مثل سكة حديد الصين-لاوس والقطار السريع بين جاكرتا وباندونغ، كما تم دمج اليوان الرقمي بشكل عميق مع ملاحة "بايدو" والاتصالات الكمّية، مما ساهم في بناء "طريق الحرير الرقمي".
وعندما بدأت الشركات الأوروبية في استخدام اليوان الرقمي لتسوية شحناتها عبر الطريق القطبي، كانت الصين قد رفعت كفاءة التجارة باستخدام تقنية سلسلة الكتل Blockchain بنسبة 400%.، فهذه الاستراتيجية الافتراضية-الواقعية جعلت هيمنة الدولار تواجه تهديدًا منهجيًا لأول مرة.
ويبقى التساؤل، من يسيطر على الاقتصاد العالمي اليوم؟
ويلحظ ان 87% من دول العالم أكملت تكيفها مع نظام اليوان الرقمي، وتجاوزت عمليات الدفع العابرة للحدود 1.2 تريليون دولار أمريكي. وبينما لا تزال الولايات المتحدة تناقش ما إذا كانت العملات الرقمية تشكل تهديدًا لمكانة الدولار، كانت الصين قد أنشأت بصمت شبكة مدفوعات رقمية تغطي 200 دولة. هذه الثورة المالية الصامتة ليست مجرد قضية تتعلق بالسيادة النقدية، بل هي التي ستحدد من سيسيطر على شريان الاقتصاد العالمي في المستقبل….. انتهى النص)).
وما نراه ان السبب في تأخير اطلاق عملة (بريكس) في مؤتمر قزان الاخير، يأتي بسبب رغبة بكين في الهيمنة النقدية بعملتها الرقمية وهي الاكثر يسراً في المعاملات مع بلدان العالم والهيمنة على نظام عملة بريكس لاحقاً ومتى ما شاءت ان تظهر هذه العملة… وفي كل الاحوال ستجربها الصين بشكل محدود ومع عدد من الشركاء التجاريين، ويمكن ان نطلق عليها بدايات حرب العملات الرقمية الناعمة ضد هيمنة الدولار، ولكنها منحت اشارة ليكون القطب الثاني الروسي الصديق البارد للقطب الاول في العالم، ان لايدور في فلك العملة الصينية الرقمية كعملة احتياطية دولية وفض الجدل بشان عملة بريكس عبر الهيمنة النقدية الصينية .
3- اميركا و صناعة القطب الصديق البارد .
يلحظ ان روسيا ستصبح القطب الثنائي الصاعد الذي بدات اميركا بصناعته لمرحلة ما بعد حرب اوكرانيا والذي ستولد منه تعاون مشترك في تقاسم جغرافيا المحيط المتجمد الشمالي، وتقييد اوروبا وقبول تقاسم ثروات اوكرانيا وشمال العالم بشكل مشترك مع روسيا (القطب البارد) … ما هو الا نمط امبريالي بطراز آخر من طرازات الجغرافيا السياسية الجديدة التي لم تعد تهتم بشؤون العالم الاخرى عبر ماكنة المنظمات الدولية على غرار ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما عرج عليها الكاتب الاستراتيجي ناجي الغزي في مقال مهم عنونه: هل سيغير ترامب النظام المالي العالمي بكون مؤسسات بريتون وودز (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) امست منابر فارغة مستنزفة للموارد ونتاج من نتاجات الحرب الباردة و انتهى دورها عبر اخر حرب، الحرب الروسية -الاوكرانية .
4-تعويضات الحرب :الرابحون والخاسرون والمعادلة الصفرية.
تعد الاموال الروسية المجمدة في الجهازين المصرفيين لدى بلدان الاتحاد اوروبي وأميركا مرهونة بانتهاء الحرب والتسوية السلمية بين روسيا واوكرانيا. لذا يفترض( من الناحية القانونية) ان تطلق تلك الاموال عند اول تسوية بين اوكرانيا وروسيا عند فض النزاع .
وان امارات التسوية في ظل الترامبية الجدية Neo-Trumpism” ستجعل السلوك المالي الاوروبي يتبع ما تقوم به الولايات المتحدة من تصرف حيال أموال روسيا المجمدة حاليا لدى الجهاز المصرفي الامريكي، والتي تزيد على 300 مليار دولار وبمبلغ اقل من حيث القيمة في اوروبا وباجمالي يزيد على 500 مليار دولار. و لكي يتم اعتراف مجلس الاطلسي بضم روسيا لاراضي محيط أوكرانيا رسميا و البالغة نسبتها 20% من ارض أوكرانيا بما في ذلك التعويض عن الموجودات التي فقدتها اوكرانيا بسب القضم اوالضم والتدمير الروسي لاراضي تلك البلاد، فينبغي ان تعوض روسيا أوكرانيا عن الدمار الحاصل في مناطق اوكرانيا الاخرى من خارج جغرافيا النزاع المباشر ((كثمن للتسوية التاريخية )) وهي اشبه بتعويضات الحرب العادلة fair war compensation .وبغية ان لا تقع اوكرانيا في نطاق المعادلة الصفرية Zero Sum Game في خسارة الارض مع روسيا وسيناريو خسارة اتفاق استثمار المعادن الثمينة الاجباري مع اميركا ، فان سيناريو مصادرة الاموال الروسية لتودع في صندوق تعويضات اعادة اعمار اوكرانيا ،هو الحل الاطلسي الامثل لايقاف الحرب وتشغيل الشركات الاوروبية في حملة الاعمار كتعويض عن مشاركتهم غير المباشرة في الحرب.
5- الخلاصة: ولادة عالم ماركنتالي لما بعد الامبريالية: هل انقلبت معادلات المادية التاريخية؟
إنها نهايات حرب (اوروسيا) مملكة قلب العالم في الجغرافيا السياسية، في ظل هيمنة التاجر الامريكي او الترامبية الجديدة التي ستحول تلك الحرب بالتقادم من حرب خشنة الى تبادل منافع اقتصادية بين فرقاء الحرب في مملكة قلب العالم، وان الثمن لايقاف فوهات المدافع في ارض المملكة اوروسيا ربما سيتم على النحو الاتي:
- جعل روسيا من خلال قضم اجزاء من اوكرانيا دولة قطبية عالمية صديقة لاميركا في تقاسم المنطقة القطبية الشمالية. وان ابلغ ما كتب في هذا الشان هو ما قدمه الكاتب والمفكر الاستراتيجي فارس أل سلمان في مقال كان عنوانه: صراع وجودي على الموارد وطرق التجارة قبل اسابيع مضت بهذا الشان والذي اوضح الصراع على موارد القارة القطبية الشمالية وسيناريو تقاسمها.
-انها روسيا التي ستصبح القطب الثنائي الصديق البارد غير الخصم للولايات المتحدة الأمريكية الذي بدات اميركا بصنعه لمرحلة ما بعد حرب اوكرانيا والذي ستولد تعاون مشترك معه لتقاسم المحيط المتجمد الشمالي و تقييد تمدد اوروبا وقبول تقاسم ثروات اوكرانيا وشمال العالم بشكل مشترك ومواجهة الصين بالحروب التجارية … يأتي كنمط ماركنتالي امبريالي imperial mercantile وهو طراز آخر من طرازات ولادة الجغرافية السياسية الجديدة في عالم القوة الراهن .
وهكذا فمثلما خرجت الولايات المتحدة الأمريكية كقوة منتصرة في الحرب العالمية الثانية ، كذلك ستخرج المنتصر في ورقة السلام في حرب اوكرانيا ،بانتزاع موارد اوكرانيا الطبيعية المعدنية الاستراتيجية لمصلحتها ، والهيمنة على الموجودات الروسية في بناء اوكرانيا وبرضا روسيا وسعادة اوروبا في الوقت نفسه ،كتعويضات للحرب ضمن ورقة التسوية بعد تقاسم موارد المحيط المتجمد الشمالي مع روسيا كما نوهنا ،والتلويح الامريكي بالهيمنة على ايسلندا و كندا والتمدد في اطراف جنوب القارة الامريكية قبل مواجهة الصين الخصم التجاري والتكنولوجي الدائم …انه عالم ماركنتالي او تجاري شديد القومية مدعم بالقوة العسكرية والتكنولوجية الرقمية في وصف مرحلة الترامبية الجديدة لما بعد الامبريالية.
ليبقى شعارها القديم الجديد هو ..اينما تصل الرايات (اساطيل الحرب) تصل التجارة…!! الراية والتجارة تسيران معاً -Trade and the flag move together
اضف تعليق