الصدقة تقوّي النسيج الاجتماعي وتخفض الفاصل الطبقي، وتزيد أواصر المحبة بين شرائح المجتمع وطبقاته، وتقوم بزيادة رصيد التجار والأثرياء ومطلق المتصدقين من رأس المال الاجتماعي، مما ينتج توفير المناخ الآمن للأنشطة الاقتصادية، فينعكس إيجابياً على زيادة الإنتاج والإنتاجية. واعتبر بعض علماء التنمية الاندماج والتماسك الاجتماعي والتضامن والثقة من...
وتشير النصوص العلوية إلى الوجه الاقتصادي للصدقة ومردوداتها المادية، وليس الغيبية فقط، على المتصدقين:
قال الإمام علي (عليه السلام): (إِذَا أَمْلَقْتُمْ فَتَاجِرُوا اللَّهَ بِالصَّدَقَةِ)(1)، والنص صريح في أن الصدقة تجارة مع الله تعالى: تعطي مقداراً وتأخذ الأكثر منه، وليست عطاءً مجرداً، والظاهر أن المردود مادي دنيوي وليس أخروياً فقط(2)، وتدل عليه قرينة قوله: (أَمْلَقْتُمْ) وأنه ذكر الصدقة كمفتاح لحل هذه المعضلة! ولذلك أيضاً: قال (عليه السلام): (الصَّدَقَةَ تَزِيدُ صَاحِبَهَا كَثْرَةً)(3)، والظاهر أن المراد (كثرة في الأموال)، كما أنها تزيده كثرة في الجاه والمقام والمنزلة والثواب كذلك.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إِنَّ الصَّدَقَةَ تَزِيدُ صَاحِبَهَا كَثْرَةً فَتَصَدَّقُوا يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ)(4).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (الْبِرُّ وَالصَّدَقَةُ يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ، وَيَزِيدَانِ فِي الْعُمُرِ، وَيَدْفَعَانِ تِسْعِينَ مِيتَةَ السَّوْءِ)(5)، والرواية صريحة في المردود المادي ـ المالي للصدقة، إذ أي معنى لنفي الفقر غير ذلك؟
وقال (عليه السلام): (عَلَيْكُمْ بِصَنَائِعِ الْإِحْسَانِ، وَحُسْنِ الْبِرِّ بِذَوِي الرَّحِمِ وَالْجِيرَانِ، فَإِنَّهُمَا يَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ وَيَعْمُرَانِ الدِّيَارَ)(6).
وتفتح لنا الشريعة الإسلامية عبر هذه الأحاديث باباً من أبواب التنمية البشرية والتنمية الاقتصادية في وقت واحد، وهو باب التجارة مع الله تعالى، إضافة إلى أنها تشكل معَلماً بارزاً من معالم السياسة المالية والإسلامية.
دور الصدقة في التنمية الاقتصادية والبشرية
(والصدقة التي تشكل السياسة المالية التوسعية الإسلامية، تمتلك تأثيراً مباشراً على مستوى اقتصاديات الرفاه، وفي احتواء الفقر والتخفيف من ضراوته أو حتى القضاء عليه، فيما إذا تحولت إلى ثقافة عامة في المجتمع، وتنوعت إلى قسميها الرئيسيين: إعطاء الشبكة وإعطاء السمكة(7)، كما سيأتي.
كما أن لها تأثيراً غير مباشر لكنه أساسي واستراتيجي على التنمية البشرية والاقتصادية، بل والشاملة، فإن الصدقة تقوّي النسيج الاجتماعي وتخفض الفاصل الطبقي، وتزيد أواصر المحبة بين شرائح المجتمع وطبقاته، وتقوم بزيادة رصيد التجار والأثرياء ومطلق المتصدقين من رأس المال الاجتماعي، مما ينتج توفير المناخ الآمن للأنشطة الاقتصادية، فينعكس إيجابياً على زيادة الإنتاج والإنتاجية.
وقد اعتبر بعض علماء التنمية الاندماج والتماسك الاجتماعي والتضامن والثقة من عناصر رأس المال الاجتماعي، وذلك هو المناخ الآمن المستقر الذي يحتاجه الإنتاج والاستثمار، وتتكفل به إلى حد بعيد، الصدقة.
الغنى والفقر بعد العرض على الله
هذا كله إضافة إلى البُعد الغيبي، فإن الرزق بيد الله، قال تعالى: (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ)(8)، وقال الإمام علي (عليه السلام): (الْغِنَى وَالْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ)(9)، وإذا رأى الله تعالى من عبده الإنفاق رغم حاجته، فإنه سيفتح له باباً إلى الرزق من حيث يحتسب أو من حيث لا يحتسب. ولكن يحتمل في الحديث السابق احتمالان:
الأول: أن المقصود أن غنى زيد وفقره، أمره بيد الله تعالى، بمعنى أن أفعال الشخص، كتجارته واستثماره، ليست علة تامة لِغناه، ولذا نرى كثيراً من الأغنياء رغم شدة نشاطه واحتياطه، يخسر ويفتقر، لعوامل شتى خارجة عن إرادته، وهكذا يكون (غناه) بعد العرض على الله تعالى وإذنه، وكذلك الغنى إذ كثيراً ما يصبح الفرد غنياً لا لعامل يرتبط بإرادته كإرث يصله من حيث لا يحتسب، أو كتضخم يرفع قيمة ممتلكاته، أو غير ذلك(10).
والحاصل: أن هذا الحديث صغرى لكبرى قوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(11).
الثاني: ما استظهره بعض العلماء وعدد من شراح نهج البلاغة، قال بعض العلماء: (معنى هذا الحديث هو أن من كانت له حسنات فهو غني ومن لم تكن له حسنات يوم القيامة فهو فقير ولا يرتبط بمسألة الاقتصاد والثروة) أي بعد عرض العباد على الله تعالى وحسابه لهم ونجاح هذا وسقوط ذاك يظهر من هو الغني ومن هو الفقير، أو يتحقق مصداق هذا وذاك، قال ابن أبي الحديد: (أي لا يعد الغني غنياً في الحقيقة إلا من حصل له ثواب الآخرة الذي لا ينقطع أبداً، ولا يعد الفقير فقيراً إلا من لم يحصل له ذلك فإنه لا يزال شقياً معذباً، وذاك هو الفقر بالحقيقة، فأما غنى الدنيا وفقرها فأمران عرضيان زوالهما سريع وانقضاؤهما وشيك)(12).
وقال السيد الأستاذ الوالد (قدس سره) في شرحه لنهج البلاغة: (فمن رضي الله عنه كان غنياً، ومن سخط عليه كان فقيراً، أما الغنى والفقر في الدنيا فشيء زائل)(13).
وهذا العامل عامل فاعل سواء على مستوى الاقتصاد الجزئي، أم على مستوى الاقتصاد الكلي، إذ يشمل الأفراد والشركات والمؤسسات والحكومات.
إلى ذلك، فإن منهج الصدقة مع تعميمه وشيوعه، يعود بالفائدة على الإنسان نفسه، وذلك عندما تنعكس الظروف، فاليوم قد يتصدق هذا على ذاك، ثم تدور الأيام ليتصدق الثاني على الأول، فالصدقة إذن، في البعد الاستراتيجي، نوع أساسي وهام وشمولي من أنواع التكافل الاجتماعي)(14)،(15)، وبذلك تشكل الصدقة نوعاً من الادخار المستقبلي.
(والصدقة تُعدّ المكافئ الموازن للدفعات التحويلية "Transfer payment"، والتكافل والضمان الاجتماعي الحرّ، ولكن من نوعه المبتني على سواعد وأكتاف عامة الناس ومؤسسات المجتمع المدني، وهو أفضل بكثير من الدفعات التحويلية الحكومية والضمان الاجتماعي الذي تتكفل به الدول في هذا الزمن والذي تقتطعه من الناس عبر الضرائب.
كما أن (الطلب الكلي) سيزداد، بل قد يتضاعف مع زيادة الإنفاق الكلي للمداخيل والأرباح وهو المكافئ لحجم الصدقات الكلي، وزيادة الطلب الكلي تعني فيما تعني زيادة نسبة التشغيل والعمالة، وانخفاض نسبة البطالة، مما يعني توفير فرص عمل وتشغيل أعداد أكبر من الفقراء والطبقة المحرومة)(16).
وذلك كله إضافة إلى تصريح الإمام (عليه السلام) بأن البر والصدقة وصنائع الإحسان تزيد في الأعمار وتعمّر الديار، ولعل من الأسباب في زيادتهما العمر هو أنّ الصدقة تمنح الرضا والطمأنينة وسكون النفس وهدوء الأعصاب، فيكون الإنسان أبعد عن الأمراض النفسية(17) كالاكتئاب والأرق والاضطراب ثنائي القطب والوسوسة والوسواس القهري والماليخوليا والفصام أو الشيزوفيرينيا والإدمان والخرف، وعن أمثال الجلطة في القلب أو المخ، أما إعمار الصدقة للديار فلأنها تزيد الطلب الإجمالي من جهة، وتزيد التماسك الاجتماعي الذي يبتني عليه إعمار الديار من جهة أخرى.
أعطهم سمكة وامنحهم شبكة
والصدقة ـ كما سبق ـ على نوعين: فقد تعطيه سمكة، وقد تعطيه شبكة، ولا يغني أحدهما عن الآخر، فلا يصح الاقتصار على أحدهما فقط، و(أن تعطيه شبكة) يعني أن تمنحه الخبرة وتعلّمه التجارة والاستثمار، أو أن تعلّمه مهارة من المهارات كالبرمجة والمنتجة أو كالنِجارة والحِدادة أو النحت أو الرسم أو التطريز أو فنّ رعاية الحدائق أو الأطفال أو التمريض أو شبه ذلك، كما أن (إعطاءه شبكة) قد يكون بأن توفر له رأس المال ليتجر به، أو أجهزةً أو أدواتٍ ليعمل عليها، أو أرضاً ليزرعها، أو أن تستخدمه في شركتك أو تتوسط له ليجد فرصة عمل كريم.
ولكنّ (الشبكة) مهما كانت مهمة وضرورية، على المدى البعيد، فإنها لا تغني عن إعطاء (السمكة) على المستوى الآني والفوري؛ إذ أن الطبقة المحرومة كي تتعلم المهارة أو تتقن الحرفة أو التجارة، بحاجة، حتماً، إلى زمن لا بد أن توفر لها فيه السمكة لكي تحافظ على حياتها وصحتها، إضافة إلى أنه قد لا يمكن للكثيرين استخدام الشبكة، فلا بد من تكفلهم عبر منهج السمكة، وذلك كالكثير من كبار السن والمعوّقين والمرضى وغيرهم، إضافة إلى ذلك فإن ارتفاع البطالة على مستوى الاقتصاد الكلي قد يعني تسريح الملايين من العمال ليلتحقوا مضطرين بجيش العاطلين حتى وإن كانوا أكفاء وبأشد الطلب لفرصة العمل، وهنا يكون من الضروري توفير السمكة لهم.
نموذج الأوقاف الذُّرية وأراضي الفتوحات
ولعل من أهم الخطوات الاستراتيجية التي تجمع ما بين فوائد إعطاء الشبكة ومنافع إعطاء السمكة، الأوقاف العامة على الذرية والأقرباء والفقراء والأسرى والمدينين وغيرهم، ويرشدنا النص الآتي عن الإمام علي (عليه السلام) إلى ذلك، حيث إنه أوقف أراضيه الزراعية الشاسعة بالطريقة التالية:
ففي وصية له (عليه السلام) بما يُعمل في أمواله، وقد كتبها بعد منصرفه من صفين: (هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَالِهِ، ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، لِيُولِجَهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَيُعْطِيَهُ بِهِ الْأَمَنَةَ (مِنْهَا)، وإِنَّهُ يَقُومُ بِذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَأْكُلُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيُنْفِقُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنْ حَدَثَ بِحَسَنٍ حَدَثٌ، وَحُسَيْنٌ حَيٌّ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ، وَأَصْدَرَهُ مَصْدَرَهُ، وَإِنَّ لِابْنَيْ فَاطِمَةَ مِنْ صَدَقَةِ عَلِيٍّ مِثْلَ الَّذِي لِبَنِي عَلِيٍّ، وَإِنِّي إِنَّمَا جَعَلْتُ الْقِيَامَ بِذَلِكَ إِلَى ابْنَيْ فَاطِمَةَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَقُرْبَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)، وَتَكْرِيماً لِحُرْمَتِهِ، وَتَشْرِيفاً لِوُصْلَتِهِ، وَيَشْتَرِطُ عَلَى الَّذِي يَجْعَلُهُ إِلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ الْمَالَ عَلَى أُصُولِهِ، وَيُنْفِقَ مِنْ ثَمَرِهِ، حَيْثُ أُمِرَ بِهِ وَهُدِيَ لَهُ، وَأن لا يَبِيعَ مِنْ أَوْلَادِ نَخِيلِ هَذِهِ الْقُرَى وَدِيَّةً حَتَّى تُشْكِلَ أَرْضُهَا غِرَاسا)(18).
كما أن من الروائع الإسلامية التي تجمع بين منافع الشبكة والسمكة، أراضي الفتوحات(19)، حيث تُقَرُّ في أيدي أصحابها مع دفعهم خراجها لبيت مال المسلمين لأنها ملك لجميع المسلمين، فتشكل بذلك نوعاً من الاستثمار الدائم لصالح الأمة، وقد ذكر بعض المؤرخين أنه كتب سعد بن أبي وقاص بعد فتح العراق إلى عمر يستشيره، كما كتب لنفس الغرض أبو عبيدة بعد فتح الشام، فاستشار عمر الصحابة في ذلك، وذكر اليعقوبي أن الإمام علي (عليه السلام) عارض تقسيم الأرض بين المقاتلين، وقال لعمر: إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدها شيء، لكن نقرّها في أيديهم يعملونها فتكون لنا ولمن بعدنا(20)، وفي أرض العراق والشام وغيرهما من الأراضي المفتوحة كلام طويل(21).
والغريب في الأمر أن الكثير من المسلمين والمسيحيين وغيرهم، رغم إيمانهم بالله تعالى وبأنه الرازق المعطي المانع، إلا أنهم يغفلون عن جلاله وعظمته وقدرته ويتناسون موقع وأهمية وثمرات السياسة المالية الإسلامية (والثابتة لدى الأديان الأخرى أيضاً) التي تتجسد، فيما تتجسد، في أن الصدقة تجارة مع الرب الجليل الذي بيده مقادير الكون والحياة.
والمفارقة الكبرى هي أنه إذا كان الطرف الآخر ثريّاً فإن المستثمر والتاجر لا يدخر وسعاً في فتح باب التعاملات التجارية معه، بل وتقديم بعض الامتيازات له كي يوافق على أن يتخذه وكيلاً تجارياً له، أو أن يشتري منه ويبيع له، ولكن الطرف التجاري إذا كان هو الله تعالى "والذي اعتبر الصدقة على مستضعفي خلقه تجارة معه"، فإن المستثمر والتاجر يتهرب منها متذرعاً بأنها خسارة مالية!، غفلةً عن أنه تعالى صادق قادر كريم جواد، ولو رآك تتصدق على خلقه وعباده من غير أن تحصل على نتيجة مالية آنية ظاهرة لك، فإنه سيفتح لك أبواباً من الرزق، ويسخّر لك قلوب تجار وعملاء، ربما لم يكن ليخطر على بالك أبداً أنهم سيدقون بابك!.
وقد سميت الصدقة صدقة لأنها تكشف عن صدق الإنسان في تعامله مع الله تعالى، وصدق نيته والتزامه بالعقد الإلهي: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)(22)، وأيضاً تقيده بالأمر الإلهي والتزامه بشروطه: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)(23)، و: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفينَ فيهِ)(24)، و: (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ)(25).
وكما سبق فإنه كما تطرح الصدقة على مستوى الاقتصاد الجزئي، فإنها تطرح على مستوى الاقتصاد الكلي والسياسة المالية أيضاً، وما الضمان الاجتماعي والدفعات التحويلية إلا أنواع من الصدقة على المستوى الحكومي
إلى ذلك فإن الصدقة، بعبارة أخرى، هي نوع من أنواع خصخصة (الضمان الاجتماعي)، وكما فصّلناه في بحث الاقتصاد التبرعي(26)، فإن تكفل الناس ومؤسسات المجتمع المدني بالصدقات (الممنهجة) هو الأفضل من اضطلاع الحكومات بها، لأنها تشكل عاملاً من عوامل تمركز القدرة في أيدي الحكومة، كما تزيد من احتمالات الفساد الإداري والمالي لدى المسؤولين بدرجة كبيرة، وقد طرقنا هذا البحث وحلّلنا المعادلة بشكل أكثر عمقاً في كتاب (السلطات العشر والبرلمانات المتوازية).
الإنفاق التطوعي وحركة الأموال
وقال الإمام علي (عليه السلام): (اسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بِالصَّدَقَةِ)(27)، و: (إنّكُم إلى إنفاقِ ما اكتَسَبتُم أحوَجُ مِنكُم إلَى اكتِسابِ ما تَجمَعونَ)(28).
والحديث الأول: (اسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بِالصَّدَقَةِ)، يعقد العلاقة بين ظاهرتين اقتصاديتين، هما (بذل الصدقة) و(اكتساب الرزق)، وأن الأول سبب للثاني، فإن ظاهر الباء السببية، وأما السببية فهي غيبية ومادية: أما الغيبية فلأن الرزق بيد الله تعالى، وقد قرر منحه لمن ينفق مما آتاه الله عز وجل، وقد صرح بذلك في قوله سبحانه: (وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَاۚ سَيَجۡعَلُ ٱللَّهُ بَعۡدَ عُسۡرٖ يُسۡرٗا)(29).
وأما المادية فسيجد الباحث تفصيله في الكتاب السابق(30).
وأما الحديث الثاني: (إنّكُم إلى إنفاقِ ما اكتَسَبتُم أحوَجُ مِنكُم إلَى اكتِسابِ ما تَجمَعونَ)، فإنه يعقد المفاضلة بين (جمع الأموال واكتنازها) أو اكتسابها لجمعها من جهة، وبين (إنفاقها وبذلها أو تحريكها) من جهة أخرى.
فقه (اسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بِالصَّدَقَةِ)
ومن الممكن تفسير هذا الحديث على مستويين: مستوى اقتصادي ومستوى غيبي:
تفسير الرواية غيبيـاً
أما المستوى الغيبي، فذلك إذا ما استظهرنا أن المراد من الإنفاق في الحديث الإنفاق المجاني التطوعي دون مقابل، وأن المراد من (أحوج) الأحوجية الاخروية، بمعنى أن الإمام (عليه السلام) يريد أن يعرّفنا على أن (جمع الأموال واكتنازها) قليل النفع بالقياس إلى إنفاقها؛ فإن إنفاقها يورثكم الخلود، ويمنحكم رضى المعبود، ويعطيكم أجراً دون حدود، أما اكتنازها فإنه فلا يجدي إلا لسنواتٍ من العمر المحدود، على أن المال المكتنز لا ينفع صاحبه، عادة، حتى في الدنيا إلا في أدنى الحدود، إذ، وكما ورد في رواية أخرى عنه (صلوات الله عليه): (لِكُلِّ امْرِئٍ فِي مَالِهِ شَرِيكَانِ، الْوَارِثُ وَالْحَوَادِثُ)(31)، لأن المال المكتنَز (والذي يختلف عن المال المدخّر للطوارئ المحتملة احتمالاً عقلائياً وللحاجات الدورية العرفية) كثيراً ما تلتهمه الحوادث، كنقص قوّته الشرائية أو تعرّضه للسرقة أو الضياع أو التلف أو الإتلاف بحريق أو غيره، وأما إذا بقي فإنه سيموت عنه، ولو بعد حينٍ، صاحبه وينتقل منه إلى وارثه، فلا يكون هو المنتفع به، على أن وارثه إن أفسد تضاعف إثمه هو، حيث لم يؤدِّ حقوق الله والناس فيه في حياته، ثم أورثه من أفسد به، فكان شريكاً له في آثامه، وأما إذا أصلح وارثه انتفع الوارث به وتضرر هو، حيث تهرب عن أداء حقوقه الواجبة وعمل بها غيره، فكان المهنا لغيره والوزر والإثم عليه.
وغير خفي أن بعض الروايات ظاهرة في الإنفاق التطوعي، كما فيما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) إذ: (دَخَلَ عَلَيْهِ مَوْلًى لَهُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ أَنْفَقْتَ الْيَوْمَ شَيْئاً؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام): فَمِنْ أَيْنَ يُخْلِفُ اللَّهُ عَلَيْنَا، أَنْفِقْ وَلَوْ دِرْهَماً وَاحِداً)(32).
وعن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام): كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول في آخر خطبته: (طُوبَى لِمَنْ طَابَ خُلُقُهُ، وَطَهُرَتْ سَجِيَّتُهُ، وَصَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ، وَحَسُنَتْ عَلَانِيَتُهُ، وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَنْصَفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ)(33).
تفسير الرواية اقتصاديــاً
وأما على المستوى الاقتصادي، فان لقوله (عليه السلام): (اسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بِالصَّدَقَةِ)(34)، و: (الصَّدَقَةَ تَزِيدُ صَاحِبَهَا كَثْرَةً)(35) وجهان:
الأول: بناءً على أن المراد بالإنفاق الإنفاق التطوعي؛ تفيد الرواية أنه حتى اقتصادياً، فإن الإنفاق لصالح الإنسان تماماً، كما فصّلناه في فصل الاقتصاد التطوعي من الكتاب السابق فراجع(36).
الثاني: بناءً على أن الرواية غير خاصة بالإنفاق التطوعي، بل تشمل مختلف أنواع إنفاق الأموال وتحريكها، والتي تتقارب مع مضمون قوله (عليه السلام): (أَصْلُ الْأُمُورِ فِي الْإِنْفَاقِ، طَلَبُ الْحَلَالِ لِمَا يُنْفِقُ، وَالرِّفْقُ فِي الطَّلَبِ)(37)، و: (الدُّنْيَا بِالاتِّفَاقِ [بِالْإِنْفَاقِ] وَالْآخِرَةُ بِالاسْتِحْقَاقِ)(38)، تفيد المفاضلة بين تجميد الأموال والكنز، وبين تحريكها وهو الإنفاق، وذلك لأنك إذا أنفقتها في تحسين مزرعتك أو في توسعة تجارتك أو في تكثيف رأسمالك كان ذلك خيراً لك من تجميدها وكنزها، خاصة في هذه العصور وفي كثير من الدول، حيث أصبح انخفاض قيمة العملة ظاهرة عامة على امتداد العقود أحياناً، وفي غضون سنوات أحياناً، بل وربما خلال أشهر أو أسابيع أو أيام أحياناً أخرى(39)، ومن الثابت علمياً أن تحريك الأموال أفضل من تجميدها سواءً على مستوى الاقتصاد الجزئي أم على مستوى الاقتصاد الكلي:
أما على مستوى الاقتصاد الجزئي، فلما سبق من أن الاستثمار يأتي بعوائد، والأرباح إنما تأتي من الحركة الاقتصادية والاستثمار، عكس الكنز وتجميد الأموال الذي إن لم يؤدّ إلى تآكل قوتها الشرائية، كما يحدث ذلك كثيراً، فإنه لا يعمل على زيادتها وتنميتها.
وأما على مستوى الاقتصاد الكلي، فلقاعدة المضاعف الكينزية المعروفة، حيث يعمل ضخ مليار دولار مثلاً في الاقتصاد عمل خمسة أو عشرة مليارات دولار، أو أقل أو أكثر، حسب نسبة التموجات اللاحقة، إضافة إلى أن سرعة دوران النقود تعمل كما يعمل تضاعف كمية النقود، لأن الحركة الواحدة للنقد تقضي حاجة، وهذا يعني أن ألف دولار مثلاً لو تحركت حركة واحدة يومياً وقضت بذلك مائتي حاجة، على أساس معدل كل بضاعة خمسة دولارات، فإنها لو تحركت مرتين يومياً فإنها تقضي أربعمائة حاجة، حسب ذلك المعدل.
ولكن قد يقال: إن الحديث منصرف إلى الوجه الأول(40)، مع أن اللفظ صالح للمعنيين معاً، وأنّ الأمر تابع للقصد(41)، فتأمل، والله العالم.
اضف تعليق