يمكن للمؤسسات الدينية الاستجابة لهذه التحديات وذلك من خلال التأطير والتنظير والطرح الحيوي والنشاط الإبداعي الذي يزيح الجمود، فهي بذلك في نفس الوقت الذي تحافظ على الأصالة تستحدث آلياتها وفقا لتحديات ومتطلبات العصر. إنَّ للمؤسسات الدينية مميزات تميزها عن سائر المهتمين بأمر الدين؛ وهي عبارة عن تعاملها المباشر...
ماهي التحديات التي تواجهها المجتمعات الاسلامية بسبب موجات الحداثة الثقافية والتكنلوجية؟ وكيف يمكن للمؤسسات الدينية الاستجابة لهذه التحديات وماهي الخطوات اللازمة لذلك؟
لا شك أن سرعة موجات الحداثة في مختلف مجالاتها الثقافية والتكنولوجية وغيرها قد أحدثت تحديات ينبغي التفكير في كيفية التعامل معها بصورة تحفظ الأصالة وتُحدِّث آليات المواجهة في آنٍ واحد، وذلك للحفاظ على ديناميكية المجتمعات المحافظة وحركتها وحيويتها.
وفي هذا الوادي هنالك أمران وهما بمثابة الوارد والصادر لابد من وضعهما في عين الإعتبار:
أولا: أساليب تلك التحديات. وثانيا: لغة مواجهة التحديات.
أي وبعبارة أخرى؛ فعل ورد فعل.
وفي هذا الصدد يمكن ذكر هذا المثال؛ في محاضرة لأحد العلماء المعاصرين؛ تحدَّث عن سياسة الاستعمار وأنها قائمة على قاعدة "فرِّق تَسد"...
وبعد الانتهاء من المحاضرة عَلَّق أحد المداخلين قائلًا: إن أصل الموضوع محل إشكال ولغة الخطاب ليست لغة العصر الحالي لأن سياسة الاستعمار اليوم تعتمد على الدولار ومتعلقاته وقاعدة "فرِّق تسد" لم تعد سارية...
في ذلك المثال البسيط نرى؛ أن التحدي هو الاستعمار وهو الفعل، لكن تفكيرنا في طريقة المواجهة هو رد الفعل؛ وهو التفكير التقليدي والتاريخي القديم وهو أنهم يحاولون أن يفرقونا ليسيطروا علينا ولابد من حفظ الوحدة وما شابه، هذا التفكير يولد بدوره حركة مواجهة خاطئة تؤدي إلى الضعف وفقدان القدرة على مواجهة التحديات من خلال عدم مواكبة التغييرات.
وقس على هذا سائر التحولات التي انتجتها موجات الحداثة الثقافية والتكنولوجية.. مما يسبب خلطا للأوراق وضياع البوصلة (argumentum ad hominem)، فنبتلى بمفاهيم مثل ما يسمّى بـ "تجديد الخطاب الديني" أو "الإصلاح الديني" أو "تنقيح النصوص الدينية" أو مصطلحات من هذا القبيل، وغالبًا ما تطرح تلك الأصوات من قِبل التيارات الدينية أو الحداثة الدينية، والهدف منها هو إظهار الدين بصورة تتناسب مع عقليات من لا يؤمن بالدين، أو تماشيًا مع الأطراف التي ترى الدين لا يواكب متطلبات هذا العصر.
في حين اننا لسنا بحاجة لكل تلك المفاهيم التي هي بعيدة كل البعد عن الدين والمجتمع الديني، والتي تحاول تمييع الدين أو تأسيس دين جديد يناسب الجو العام الحديث!
في حين ان كل ما نحتاجه هو فهم تلك التحديات والتغييرات التي طرأت عليها ثم دراسة التعامل المناسب معها.
ذلك لأنَّ المجتمع الديني والمحافظ لم يأتِ بشئ خارج عن إطار المبادئ الدينية والأسس الأخلاقية والقيم التي يؤمن بها فلا يحتاج أبدا إلى تغيير نهجه وإيمانه، وإنما كلُّ ما عليه هو أن يفهم الطرف الآخر وأسلحته ونوعية مواجهته، فيواجهه بنفس الأسلحة بكل ثبات وعزة وقوة وصلابة.
ومثالٌ آخر: إنَّ جميع العلوم تتطلب التحديث، ليس لأن أصل العلم صار قديمًا أو عديم الفائدة، وإنما العالم عالم متغيِّر، ففي زمن ما كان إرسال الرسائل عبر الحمام الزاجل، لكن حاجة العصر استدعت أن يفكر البشر في إيصال الرسائل بطرق أخرى، وكذلك بالنسبة لمفاهيم علمية قديمة تغيرت إلى مصطلحات حديثة وتغير اللفظ نفسه إلى منقول لفظي وغيره مثل: هيئة بطليموس، أو الأخلاط الأربعة، أو الجسد الأثيري ومفردات حديثة كالـ "DNA" والثقب الأسود وما شابه.. وهكذا الأمر بالنسبة للدين والمجتمع الديني والعلوم الدينية، حيث الدين هو الدين نفسه لكن الحاجات والضروريات الحادثة تتطلب أن نبحث عن طريقة لإيصال الدين بطريقة تناسب التطور والتقدم الحاصل، وهذه المواكبة هنا تعني استخدام الوسائل الحديثة دون أن نستبدل أحاديث أئمة الدين عليهم السلام بأقوال راسل أو نيتشه أو جون لوك وأمثالهم من الفلاسفة تحت عنوان التحديث والعصرنة، بل في نفس الوقت يمكن أن نبقى تقليديين وكلاسيكيين ولكن نواكب تطورات العصر من جانب يناسب أصالة الدين وبمواكبة تطورات العصر وبلغة يفهمها أبناء الزمان.
ومثال ذلك من جانب فقهي؛ ما فعله المجدد المعاصر الإمام السيد محمد المهدي الحسيني الشيرازي حيث بقي فقيهًا كلاسيكيًا حتى نهاية عمره الشريف إلا انه طرح بعض الأحكام المستحدثة من خلال تفكير بعيد المدى. فلم يسبق عصره وحسب وإنما العصور التي لم تأتِ بعد، من خلال طرح أحكام في علوم الفضاء والكون والاستنساخ البشري والحقوق والدعاوي والبيئة وما شابه، وفي نفس الوقت رأى في الفقه طريقًا للنجاة ووسيلة لإنقاذ البشر دون أي تنازل أو طلب المعونة من خارج المنظومة الدينية.
كل ذلك كان في وادي الحديث عن موجات الحداثة الثقافية، أما فيما يرتبط بالحداثة التكنولوجية؛ فلا يخفى أن التحديث التكنولوجي قد فرض نفسه بقوة -شئنا أم أبينا- وقد اكتسح حتى من لا يريد مواكبة هذا التطور مما جعل حتى كبار السن أو الجيل القديم الذي لم يتعلم فنون التقنية المعاصرة أن يجبر نفسه على التعامل مع أحدث الوسائل والتطبيقات الجديدة، وإلا سوف لن يستطيع العيش الطبيعي على هذا الكوكب!، ولذلك ترى حتى الأمي الذي لايكتب ويقرأ قد كيَّف نفسه مع التكنولوجيا وتلائم مع هذه الوسائل!
من هنا فإنَّ كل ما هو المطلوب في هذا المجال هو استبدال ما تبقى من وسائل قديمة بآليات جديدة، وذلك؛ مثل ما يفعله البعض من نشر الكتب الإلكترونية وتوفيرها في يد كل شخص عبر جهاز بحجم الكف بعدما كان البعض يحمل كتبه ويسافر بحثا عن المخطوطات والأسانيد..
أو مثل نشر الفكر الديني عبر وسائل التواصل الاجتماعي بمحتوى سريع عميق لا يتجاوز الثواني لمواجهة الأفكار التي تُغرَس في عقول الأجيال عبر التغذية الذهنية السريعة، فهذه اليوم لغة الإعلام الجديد.
ويوجد أيضا نقص شديد في صناعة المحتوى الذي يناسب الجيل الجديد، وعلى سبيل المثال؛ ينبغي السعي إلى صناعة ألعاب دينية يمكن انشاؤها بسهولة لمن لديه خبرة تكنولوجية، مثلا؛ في لعبة "الروبلوكس" (Roblox) العالمية المنتشرة والتي فيها جانب تجاري اقتصادي أيضا، فإنَّ المجتمع المحافظ لم يغص بعد في غمارها بقوة تكفي لتوفير البديل للأطفال بأسلوب ممتع ديني حديث وذلك رغم سهولته وإمكانيته فينبغي لفت النظر لذلك عبر المنبر الديني ليشمل التحديث جميع متطلبات الحياة ورفاهيتها بأساس ديني رصين حديث ومشوّق..
وهنا يمكن للمؤسسات الدينية الاستجابة لهذه التحديات وذلك من خلال التأطير والتنظير والطرح الحيوي والنشاط الإبداعي الذي يزيح الجمود، فهي بذلك في نفس الوقت الذي تحافظ على الأصالة تستحدث آلياتها وفقا لتحديات ومتطلبات العصر.
إنَّ للمؤسسات الدينية مميزات تميزها عن سائر المهتمين بأمر الدين؛ وهي عبارة عن تعاملها المباشر مع المجتمع واحتكاكها اليومي مما يعطيها فرصة التعرّف على ما يجري في أذهان وعقول العامة، وتفهم نبض الشارع والذي يؤدي في نهاية المطاف إلى فهم الرأي العام ومتطالباته واهتماماته، وبعبارة أخرى فإن لهذه المؤسسات دور الواسطة أو السفارة فيما بين الجمهور الديني وقاعدته.
اضف تعليق