منذ أن دفن المرحوم أحمد الجلبي في الصحن الكاظمي الشريف؛ وعاصفة الرأي والرأي الآخر تموج في أجواء الانترنت بين مادح موافق، وهم نادرة لا تذكر، وذام معترض، منتقد وصل به الأمر لأن يتطاول حتى على مقام المرجعية الدينية، وهم الأغلبية الفائقة. لقد شغل العراقيون أنفسهم بهذا الأمر إلى درجة أنه طغى على كل حديث آخر، ولا زالت غلواؤه تتوقد وقدوره تفور وتداعياته تتواثب في كل مكان لدرجة انه تسبب بشطر بيت الأغلبية المشطور على نفسه.
كان الجلبي رجلا مثيرا للجدل في حياته وفي مماته، وقد كان له أحد أبرز الأدوار في إسقاط نظام صدام، ولا غرابة أن تتوقد مثل هذه النار لتشعل الحرائق في سيرته، بل الغرابة كل الغرابة لو كانوا قد سكتوا ولم يثوروا ويثيروا هذه الزوابع الرعدية.
وبالأمس مات الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، وهو الآخر رجل مثير للجدل يتلاقى مع الجلبي في نقاط كثيرة ساخنة، وإن كانت مختلفة الاتجاه ومتضادة مع توجهات الجلبي، ولاسيما وأنه كان أحد أزلام صدام ومن المخلصين لهذه العبودية وله مئات القصائد وعدة دواوين شعرية في مدح صدام، وكان يفتخر بولائه لصدام من على منابر الفضائيات العربية حتى في أشد الأيام دموية في العراق دون أن يلتفت إلى آثار صدام التي لا زالت تعصف بالعراقيين إلى اليوم.
لكن المثير للانتباه، المثير للدهشة، المثير للعجب، المثير للغرابة أن أهل الوسط والجنوب الذين أسهم الجلبي في خلاصهم من صدام؛ الذي سامهم سوء العذاب وصادر حتى كرامتهم وحريتهم وأمنهم وأملاكهم، كانوا أكثر قسوة عليه من غيرهم، بل كادوا يتفردون بنقدهم المرير له، ولكنهم في ذات الوقت بين ساكت ومادح وباك ومؤبن لعبد الرزاق عبد الواحد، الذي بقي يمجد بصدام حتى آخر لحظات عمره، وبقي يبكيه كلما سمع اسمه.
فهل من مفارقة أكبر من هذه المفارقة؟ هل من مفارقة أكبر من أن يمدح الرجل مادح جلاده وشاعر قاتله، ويطعن بمن أسهم بخلاصه من هذا الجلاد؟
إن فشل السياسيين العراقيين في استيعاب روح الشعب، وعجزهم عن تحقيق أحلامه المؤجلة وإسهامهم فيما وقع له من نكبات بشكل مباشر وغير مباشر، واهتمامهم بأنفسهم ومصالحهم وأحزابهم مع إهمالهم لمتطلبات الشعب، هو الذي أثار تلك الزوابع ضد الجلبي؛ الذي كان واحدا من هؤلاء السياسيين، وإن كانت الثورة على الجلبي وليدة كل طبقات الشعب، فكانت آراء مختلفة متباينة، فإن من اهتم بموت عبد الرزاق عبد الواحد هم الشعراء والأدباء والبعثيين الذين بقوا على ولائهم لصدام ولذا جاءت رؤاهم متقاربة وآراؤهم مادحة مؤبنة.
وسيبقى شعب العراق على مر التاريخ شعبا مثيرا للجدل هو الآخر، وربما هو مصداق لسؤال المرحوم علي الوردي: "هل العراقيون يختلفون عن غيرهم من الشعوب؟"، فهل حقا أننا نختلف عن شعوب الله كلها؟ أم أننا نحتاج إلى إعادة النظر في مناهج تربيتنا ونظم قيمنا ومحددات ولائنا وموجبات تكتلنا، لكي نلحق بشعوب الله الأخرى ولا نختلف أو نتخلف عنها.!
اضف تعليق