أن لا يروج هذا الحزب للتعصب الحزبي والحزبية بمعنى انه الأفضل والأكفأ ويتحول حاله حال أي مؤسسة مجتمع أهلي وعند ذاك يصبح الانتماء له ثانويا لان الإسلام عالج قضايا المجتمع بطرق يؤجر فيها المرء ويثاب باعتبارها ضمن واجباته في الحياة الإسلامية. إن كان ذلك الحزب يدعو الى إشاعة التناحر...

هناك غائيات رئيسية في الإسلام وأهمها غائية الإنسان نفسه في هذا العالم، وهي غائية مرتبطة بالله (خالق هذا الكون ومن فيه) بلحاظ إن العلاقة بين الإنسان والآخر والكون علاقة تراتبية على طبيعة علاقته بالله (1) بل هناك آلاف الأدلة على ذلك.

فهل اشتقت أهداف مثل هذا الحزب من هذه الغائية أم من أهداف أخرى (قد تكون محترمة ومفيدة مثل رفع المستوى الاقتصادي للفقراء)، وقد تكون أهداف حزبية ومصلحية (مثل زيادة الحصول على المناصب والتوسع بالامتيازات السلطوية وتسقيط المناوئين).

فإذا كانت الأهداف مصلحيه وفئوية وفيها مفاسد فان تجنب الدخول في هذا الحزب سيكون تقربا الى الله باعتبارها غائية مصيرية للإنسان المسلم، وان كانت الأهداف اجتماعية مفيدة فإننا أمام حالتين:

الأولى: أن لا يروج هذا الحزب للتعصب الحزبي والحزبية بمعنى انه الأفضل والأكفأ ويتحول حاله حال أي مؤسسة مجتمع أهلي وعند ذاك يصبح الانتماء له ثانويا لان الإسلام عالج قضايا المجتمع بطرق يؤجر فيها المرء ويثاب باعتبارها ضمن واجباته في الحياة الإسلامية.

والثانية: إن كان ذلك الحزب يدعو الى التعصبية الحزبية وإشاعة ثقافة التناحر والعداء، فان هذه من المفاسد التي نهى عن إشاعتها الشارع المقدس.

إن مناقشة هذه الاطاريح تقودنا الى التعمق في فلسفة السلطة في الإسلام وقطيعتها مع فلسفة السلطة في الفكر السياسي الغربي حيث تتمحور فلسفة الحكم في الإسلام على حاكمية الله بينما لا تخرج فلسفة السلطة في الفكر السياسي الغربي عن حاكمية الإنسان سواء كان فردا (ملكا أو رئيسا)، أو جماعة (حزبا أو تنظيما سياسيا) أو شعبا (برلمانا)، وبالتالي فان الرؤية السياسية وما يشتق منها من برامج وأهداف هي تعبير عن الفلسفة التي تنطلق منها.

فالسيد حسن الشيرازي حينما تقاطع مع مشاريع سياسية كان لأسباب أهمها إنها لم تمثل فلسفة الحكم الإسلامي والتي مدارها (الله – الإنسان)، بل استعارت معظم متبنياتها من النظريات السياسية الغربية والتي مدارها (الإنسان – الإنسان)، والإشكالية الأخطر إنها قدمت هذا الخليط المتناقض بصياغة إسلامية.

لقد حذر السيد حسن الشيرازي من التأسيس على مثل هذه المشاريع السياسية والتي ربما تكون أكثر انسجاما مع المشهد السياسي الدولي، لكنها تظل تحمل التناقضات وتخلق الإشكاليات داخل المجتمع الإسلامي، والسبب هو في فلسفة الحياة لدى المسلم وهي فلسفة غير مادية بل روحية، صحيح إن المسلم يريد أن يؤمن قوته ويحصل على عمل يناسبه ومستوى معيشي يلبي احتياجاته، لكنه لا يريد أن تتعارض هذه المتطلبات مع اطر حياته الإسلامية وضوابطها ونمطها.

وقد يضطر القائمون على هذه المشاريع الى تغيير الكثير من توجهات خطابهم السياسي حينما يمارسون عمليا فكرهم السياسي أو يصلون الى سدة الحكم، لا لتقصير منهم بل لان المقدمات المشوشة تقود الى نتائج مرتبكة، وهذا ما نبه إليه السيد الشيرازي قبل أكثر من أربعة عقود، فالكثير من الإشكاليات بدأت تستفحل والكثير من الأزمات بدت مزمنة.

وبالطبع فنحن لا نشير الى أزمات التطبيق والتنفيذ والأداء بل نشير الى أزمات التنظير لدى الأحزاب والتنظيمات الإسلامية التي لم تلتزم بنظرية الحكم الإسلامي بصورتها التامة، أما نظرية نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، فهي نظرية مرفوضة بنص إلهي قراني (2).

هل هناك مبررات لتأسيس نظريات خارج النمط الإلهي الإسلامي؟

بالطبع يمتلك هؤلاء المؤسسون مئات المبررات حول عدم إمكانية تنفيذ نظام الحكم الإسلامي بصيغته القرآنية، وبحسب الأنموذج النبوي والأمامي والمرجعي، والمبررات كثيرة جدا الى الحد الذي بدأنا نقرأ إن الإمام المهدي سيشكل جمهورية، وسيكون نظامها الاقتصادي اشتراكيا و...و...، وبالطبع لسنا بمعرض نقد الجمهورية أو الديمقراطية أو الرأسمالية أو الاشتراكية، لكن السؤال ما الضير في أن نقول إن الإمام سوف يحكم بحكم الله والإسلام؟!!

إن الرؤية السياسية للسيد الشيرازي هي رؤية مشتقة ومجسدة للرسالة الإسلامية، أي إنها:

- ليست رؤية تأويلية.

- ليست رؤية اجتهادية.

بل إنها رؤية تطبيقية للرسالة الإسلامية، وبالمقابل فإنها ليست رؤية جامدة ومتحجرة، لأنها مشتقة ومجسدة لرسالة الإسلام، وهي رسالة حيوية ومتنامية ومتكيفة مع المتغيرات، أما صياغة الأهداف وبناء البرامج السياسية فهي تحتمل الاجتهاد وتستدعي الإبداع والمرونة.

أبعاد الرؤية السياسية عند السيد حسن الشيرازي:

إن أهم متبنيات الرؤية السياسية للسيد الشيرازي هي (3):

1- إن الإسلام دين وحياة.

منذ مطلع القرن العشرين تبلورت الكثير من النظريات والأفكار والمشاريع حول الإسلام السياسي، وبالضد كانت هناك الأطروحة الشيوعية حول استئصال الدين من الحياة، والأطروحة العلمانية حول فصل الدين عن السياسة.

وقد استطاعت مشاريع الإسلام السياسي من أن تنقل الإسلام الى حلبة الصراع السياسي، لكنها لم تنقل الإسلام الى الحياة، لذا ظلت حبيسة حلبة السياسة وأصبح الهدف هو الحكم الإسلامي لا المسلم ولا المجتمع الإسلامي بتبرير إن الحكم هو مفتاح التغيير، بينما النظرية القرآنية على الضد من هذا الطرح تماما.

لقد انطلقت الرؤية السياسية للسيد الشيرازي من إن الإسلام هو دين وحياة (والواو التي بينهما ليست لتعداد المكونات بل للإشارة الى امتداد الإسلام عبر الدين والحياة).

فالدين في الإسلام هو نمط حياة اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، والحياة في الإسلام هي نمط روحي رفيع ومتميز من الحياة الدينية والأخلاقية، وبالتالي فان كل واجب ديني فيه بعد سياسي (يمكن أن يفعل ويمكن أن يعطل بحسب الإيمان والوعي).

وبالمقابل فان كل عمل سياسي فيه بعد ديني (عند تعطيله يدخل المكلف في المحذور أو الخروج عن حدود الشرع).

فالسيد الشيرازي في حقيقة الأمر لم يبتدع نظرية سياسية إسلامية، بل قام بتحويل الرسالة الإسلامية الى رؤية سياسية إسلامية بصدق وأمانة وإخلاص وفهم عميق.

انه لم ينقل الإسلام الى السياسة، بل فعل الجانب السياسي في الإسلام، أي انه وبتعبير المناقلة نقل الإسلام الى الحياة.

هذه الرؤية هي جوهر الإسلام (أن تعيش الإسلام)، وهذا ما فعله السيد الشيرازي طوال حياته، وهو أن يحيا بالإسلام وفيه ويدعو إليه، يجاهد الطغاة ويؤسس الحوزات ويبني المدارس والجوامع والحسينيات، في بيروت كما في دمشق، وفي الكويت كما في البحرين، يبلغ ويرسل المبلغين الى قارات العالم وأطرافه، يؤلف ويدرس، وينقطع الى ربه، وينفث آهات نفسه شعرا عذبا، حلواه العمل الصالح، وديدنه العمل في سبيل الله، لكن في كل موقف وعمل وبين كل سطرين مما يكتب أو يقول تجده يجمع الدين بالحياة، بتنوعها وثراء أبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بلا ضجيج إعلامي ولا شعارات سياسية طنانة.

2- حاكمية الله.

إن حاكمية الله ثبتتها النصوص القرآنية والسنن الكونية.

3- تسلسل الحاكمية في الإسلام الله –النبي– الإمام:

وهؤلاء بالنص المعرف (وهو النص المعرف باسم وهوية المنصوص عليه)، أما (رواة الحديث / الفقهاء) فهؤلاء ينص عليهم بالنص المحدد (النص الذي يحددهم بالشرائط والمميزات التي تعينهم)، وهذه الحاكمية وظيفتها تنظيم حياة المسلم وفقا للأحكام الإلهية.

4- الإسلام ثورة وإصلاح:

هذا المتبنى تجلى واضحا في النتاج الفكري السياسي للسيد الشيرازي، فالثورة لديه هي إصلاح، ومن الضروري أن تنطلق من دوافع الإصلاح وترتكز على أهدافه وغاياته وإلا فإنها سوف تنقلب الى محاولة لتغيير الحكم والوصول الى مركز القرار.

وبالمقابل فان كل إصلاح لا يحمل محركات الثورية وروحها سوف يأسن في مستنقعات التسويف والمماطلة والمداهنة.

وسواء كان الواقع يتطلب ثورة أو إصلاحا فان كل عمل بهذا الاتجاه يجب أن يكون منبثقا من غائية الإنسان وولاية الله عليه، وهذا المتبنى في الرؤية السياسية للسيد الشيرازي هو استلهام عميق لثورية الإمام الحسين عليه السلام ومنهجه الإصلاحي، وقد كان اهتمام الشيرازي بالثورة الحسينية وبالشعائر الحسينية اهتماما كبيرا.

إن الرؤية السياسية تعد اليوم جزء مهما وحيويا من المنهج الموضوعي للفكر السياسي، وكلما كانت خصائص الرؤية السياسية ايجابية ومتميزة كلما كانت أكفأ في بناء الأهداف والبرامج السياسية على أسس تنظيرية متينة.

وحينما نتأمل خصائص الرؤية السياسية لدى السيد الشيرازي نجد إنها:

1- منسجمة ومتناغمة مع الرسالة (الإسلام) ومع محتواها الداخلي.

2- إنها واضحة وبسيطة وسهلة التوصيل.

3- قادرة على دفع الحاضر الى التوجه المستقبلي (أي إنها خارج إطارات الأهداف والبرامج).

4- قادرة على بناء الأهداف والبرامج وفقا للمتغيرات.

حينما تتصف الرؤية السياسية بهذه الخصائص فان ذلك يجعلها تحوز هوية الرؤية الإستراتيجية كما يرى الباحثون في هذا المضمار(4).

* مقتطف من كتاب: (آية الله السيد الشهيد حسن الشيرازي الإمام المفكر والمصلح الثائر مؤسس الحوزة الزينبية-قراءة في فكره ومنهجه السياسي والإصلاحي) للكاتب الراحل رسول الحجامي

................................................

(1) قال أمير المؤمنين عليه السلام: من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله له أمر دنياه. ومن كان له من نفسه واعظ كان عليه من الله حافظ. (نهج البلاغة ج4 ص21).

(2) وهذا الرفض ثابت في المستوى العام وهو رسالات الانبياء باعتبارها كل واحد يجب الايمان به، كما يؤكد على ذلك قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) (النساء-150).

وفي المستوى التفصيلي لرسالة كل نبي فلا يجوز الايمان التبعيضي سواء للمسلمين وغيرهم كما يبين ذلك قوله تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة -85).

(3) نورد هنا جانبا من متبنيات الرؤية السياسية وسوف نتوسع في عرض البعض منها في المباحث القادمة من هذا الباب.

(4) Thompson & Strickland، "Strategic Management "، McGraw،Boston، 2003.

اضف تعليق