أليس أن حرب بهذا القول، وبهذا البحث عن المشروعية، وبهذا الموضع الذي يختاره لنفسه في إعطاء المشروعية، وتحديد هوية هذه المشروعية وصفتها للمثقف والمفكر، أليس هو بهذا الحال يظهر وحسب موازينه ومعاييره الفكرية والنقدية، وكأنه يختار موقف المثقف، ويتلبس صورته، وهي الصورة التي أطاح بها، وتبرأ منها، وصب...

وجد الناقد اللبناني علي حرب أن حديثه النقدي الصارم عن المثقف لا تكتمل فصوله، من دون الإشارة إلى المفكر الذي يمثل عنده صورة مغايرة لصورة المثقف، وعده نموذجا بديلا ومفضلا عنه، مكونا بذلك نظرية يكاد ينفرد بها في المفارقة بين المثقف والمفكر.

في هذه النظرية ارتكز حرب على فكرتين تفسيريتين هما: الممنوع والممتنع، الممنوع يكون متصلا بالخارج، والممتنع يكون متصلا بالداخل، رابطا المثقف حصرا وتعيينا بفكرة الممنوع، ورابطا المفكر حصرا وتعيينا بفكرة الممتنع.

وحسب شرحه لهذه النظرية ضبطا وتحديدا، يرى حرب أن المثقف بوصفه يدافع عن الحقوق، ويناضل من أجل الحريات، فإنه يمارس نقده على جبهة الممنوع، أي ما يمنع من خارج، سواء بسبب المحرمات والضغوطات الاجتماعية، أو من قبل السلطات المختلفة السياسية أو الدينية وحتى الأكاديمية.

أما المفكر بخلاف المثقف أو عكسه، فهو يركز نقده على جبهة الممتنع، ولهذا فهو يهتم في نظر حرب بتفكيك العوائق الذاتية للفكر، كما تتمثل في عادات الذهن، وقوالب الفهم، وأنظمة المعرفة، وآليات الخطاب، على نحو يتيح للمفكر أن يبتكر ويجدد سواء في حقول التفكير وأصعدة الفهم، أو في شكل التفكير ونمط التعاطي مع المفاهيم، فهو في النهاية صانع أفكار، أو مبتكر مفاهيم، أو خالق بيئات مفهومية.

ويقترب حرب من جهة المشروعية، ويرى أن مشروعية المثقف تتحدد في أن ينطق بالحقيقة ويدافع عن الحقوق والمصالح والحريات، أما مشروعية المفكر فهي تتحدد في القيام بنقد المثقف، خاصة بعد أن فقد هذا الأخير أسلحته، وأصبح يشكل وجها من وجوه المشكلة، ومظهرا من مظاهر الأزمة في حياة المجتمع، وعلى مستوى دورة الثقافة والفكر.

وما يدعونا لاستعمال تسمية النظرية في هذا المورد، هو تمسك حرب بهذه الفكرة، وقولبتها بطريقة نسقية، وتقصده تكرار الحديث عنها، ولفت الانتباه لها، فقد تعامل معها كما لو أنها من أفكاره المهمة التي يسعى لتسليط الضوء عليها، أو أنها من أفكاره المبتكرة التي يريد إشاعتها والتعريف بها انتسابا إليه، أو أنها من أفكاره الدالة على طريقته المثمرة في التفكير وهو الوصف المحبب له.

وتأكيدا لهذه الملاحظة في جواز استعمال تسمية النظرية، أن حرب ظل يفرد فقرة مستقلة بعنوان (المثقف والمفكر) في جميع المرات التي تحدث فيها عن هذه القضية قبضا وبسطا، فقد أشار إليها في كتابه (الممنوع والممتنع.. نقد الذات المفكرة) الصادرة سنة 1995م، وجاء الحديث عنها في المقدمة الطويلة التي تجاوزت حسب قول حرب مألوف المقدمات، وأراد من هذه المقدمة أن يشرح ما سماه استراتيجيته في القراءة، وطريقته في التفكير أو في التعامل مع الأفكار، متكلما فيها عن فهمه ومفهومه لبعض العناوين الكبرى في خطابه النقدي، مثل: النص والنقد والحقيقة والفلسفة والحداثة، محاولا أن يوضح من خلال ذلك المفاهيم التي استثمرها، أو التي أعاد تعريفها وصوغها، أو التي استخدمها لأول مرة، ومن هذه المفاهيم وفي مقدمتها: الممنوع والممتنع، المثقف والمفكر وغيرهما.

كما أشار حرب إلى هذه القضية في كتابه المثير للجدل (أوهام النخبة أو نقد المثقف) الصادر سنة 1996م، أشار لها هذه المرة متوسعا، متناولا نظريته بسطا وليس قبضا بخلاف المرات التي قبلها وبعدها، بطريقة كما لو أنها تمثل النص الرئيس للنظرية، وجدد الإشار إليها كذلك في كتابه (الماهية والعلاقة.. نحو منطق تحويلي) الصادر سنة 1998م.

هذه بعض الأعمال التي وقفت عليها، ولعل حرب أشار لهذه الفكرة في أماكن أخرى، وسيظل يشير إليها في أعمال لاحقة على ما أظن، لكونها تعد من أمهات أفكاره، ما دام يرى أن مشروعية المفكر تتحدد في القيام بنقد المثقف.

ليس هذا تمام القول، بل هو خلاصته حول نظرية الناقد علي حرب في المفارقة بين المثقف والمفكر، مع ملاحظة أن حرب لا يرى نفسه صاحب نظرية ولا صاحب أطروحة ولا حتى صاحب مشروع فكري أو نقدي.

فهذا الوصف على تنوع أنساقه ليس فقط لا يقبل به حرب، بل ويعترض عليه بشدة، وهو الذي طالما نقد أصحاب النظريات وأصحاب الأطروحات وأصحاب المشاريع الفكرية، واعتبر ذاته ناقدا يعمل على تفكيك النظريات، وفضح ألاعيبها، وكشف زيفها، وتسفيه أحلامها، وتعرية خداعها، وتقويض إدعاءاتها، وهي الكلمات والعبارات التي تتكرر في قاموسه النقدي وتتواتر، ويكفيه كما يقول عن نفسه أن يفكر بطريقة مثمرة، بطرح سؤال أو إثارة سجال أو فهم مأزق أو فتح منفذ، لا أن يكون صاحب نظرية أو صاحب أطروحة.

هذه هي خلاصة القول حول نظرية علي حرب في المفارقة بين المثقف والمفكر، وبقي الحديث عن جانب النقاش.

نقد ونقاش

نظرية الناقد اللبناني علي حرب في المفارقة بين المثقف والمفكر، ما هي إلا واحدة من النظريات في هذا الشأن، ولها قدر من الفضل في أنها فتحت هامشا من النقاش النقدي، وحركت جدلا فكريا حول هذه القضية في المجال العربي المعاصر، وحالها حال جميع النظريات الأخرى التي يمكن الاتفاق معها أو الاختلاف جزئيا أو كليا.

أمام هذه النظرية فحصا وتأملا ونقاشا، يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:

أولا: أعاد حرب الحديث عن هذه النظرية مرات عدة، لكنه لم ينبه إلى ذلك، ولم يشر في جميع هذه المرات إلى أنه بصدد قضية ذكرها من قبل وكرر الحديث عنها، وهذا الأمر لم يحدث بالتأكيد نتيجة غفلة منه ولا نسيانا أو عدم التفات، وإنما حصل بدراية منه ومعرفة، وهو الناقد الصارم الذي لا تنقصه النباهة ولا الذكاء.

ووجه الملاحظة، أن في جميع هذه المرات ظلت النظرية كما هي بلا تجديد ولا تحديث ولا تطوير، أي أن تكرار الحديث عن هذه النظرية لم يكن بداعي التجديد أو التحديث أو التطوير، لا من ناحية الشكل والبيان، ولا من ناحية المعنى والمضمون، وإنما هو تكرار واجترار.

ولعل هذا الأمر حصل بداعي تحريك النظرية أو اقتضاء المناسبة، مع ذلك فإنه لا يعد مقبولا، بل ولا يمكن التسامح معه في الموازين النقدية عند حرب، وهي الموازين المعروفة بالصرامة والشدة، والتي لا تخلو من قسوة وإسراف.

ثانيا: إن الفارق الذي وضعه حرب في الفصل بين المثقف والمفكر، لا أظن أنه يمثل حدا مقنعا يمكن الاتفاق عليه، ولا يصدق عليه وصف الحد المنطقي الكاشف عن هوية الشيء بحده وحدوده، فليس المثقف مثقفا لأنه يدافع عن الحقوق ويناضل من أجل الحريات ويقف في جبهة الممنوع، كما ليس المفكر مفكرا لأنه يركز اهتمامه على الممتنعات داخل الفكر ويتجه نحو أفكاره بالنقد والفحص!

وتأكيدا لهذا الرأي، نرى أن هناك من يشتغل على جبهة الفكر ويكون الفكر شاغله وهمه ويصدق عليه وصف المثقف، ولا يصدق عليه وصف المفكر، وهناك من يصدق عليه وصف المفكر وصفا ثابتا وراسخا وينخرط في الشأن العام ويدافع عن الحقوق ويناضل من أجل الحريات، وهكذا تتعدد الحالات، وتتنوع المفارقات الكاشفة عن اختلال الفارق في الفصل بين المثقف والمفكر.

كما أن النماذج والصور الفعلية لا تصلح أن تكون برهانا دالا على ما ذهب إليه حرب، ولا المعاني والصور الذهنية تشير إلى ذلك، الأمر الذي يعني أن ما طرحه حرب هو أقرب إلى ذوقه، وأميل إلى استحسانه، وأقصى ما يمكن أن يقال عنه أنه رأي ينسب إلى صاحبه، ويحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب، لكنه ليس ثابتا ولا برهان عليه.

ثالثا: بقصد أو بدون قصد وضع حرب المفكر في صدام مع المثقف وفي تناقض وتخاصم، فهما بالنسبة إليه يمثلان صورتين متغايرتين، يفترقان من جهة المشروعية ويتعارضان، فكل منهما له مشروعيته المغايرة.

فمشروعية المثقف في نظر حرب هي أن ينطق بالحقيقة ويدافع عن الحقوق والمصالح والحريات، أما المفكر فمشروعيته تتحدد في القيام بنقد المثقف، مستدلا على ذلك بهذا الشاهد: فحين يقول المثقف للناس أريد تحريركم من قيودكم، يأتي المفكر ويلفت الناس إلى وجه الخداع في هذا الشعار قائلا: من يريد تحرير غيره مآل إرادته وقوله السيطرة عليه.

واقتراب حرب من فكرة المشروعية والتأسيس لمثل هذه المشروعية، إنما جاء ليباعد بين المثقف والمفكر، ويضع حدا يفارق بينهما، وأساسا هل هناك حاجة للبحث عن فكرة المشروعية في مثل هذا المورد! وهل حقا هذه هي مشروعية المثقف، وهذه هي مشروعية المفكر!

لا أظن أن هذه المشروعية بصورتيها هي موضع اتفاق أو تصلح أن تكون موضع اتفاق، بل هي أقرب إلى جانب الاختلاف وأبعد من جانب الاتفاق، وإذا كانت المشروعية بهذا الحال فلا يصدق عليها وصف المشروعية، لأن هذا الوصف لا يأتي عادة إلا في الموارد التي يمكن الاتفاق عليها، ويغلب فيها جانب الاتفاق على جانب الاختلاف.

فهل حقا أن مشروعية المفكر تتحدد بنقد المثقف وحسب الصورة المذكورة، وكأن دور المفكر أن يتعقب المثقف ويلاحقه لكشف خداعه وزيفه وألاعيبه، وتخطئة أقواله وأعماله، وتسفيه أحلامه وشعاراته، يا لها من مشروعية هشة وضحلة!

ثم أليس أن حرب بهذا القول، وبهذا البحث عن المشروعية، وبهذا الموضع الذي يختاره لنفسه في إعطاء المشروعية، وتحديد هوية هذه المشروعية وصفتها للمثقف والمفكر، أليس هو بهذا الحال يظهر وحسب موازينه ومعاييره الفكرية والنقدية، وكأنه يختار موقف المثقف، ويتلبس صورته، وهي الصورة التي أطاح بها، وتبرأ منها، وصب عليها جام غضبه ونقده!

وحين يصور حرب أن مشروعية المفكر تتحدد في نقد المثقف، فكأنه يضع المفكر في صدام مع المثقف أو أنه يفتعل صداما بينهما، ولا يخلو الأمر من تحريض وتحريض مستمر توحي به فكرة المشروعية، فلا مشروعية للمفكر إذا لم ينهض بنقد المثقف.

وحتى يحافظ المفكر على هذه المشروعية يجب عليه المداومة على هذا الفعل النقدي بنقد المثقف، فهو بالنسبة إليه في منزلة الواجب الذي لا يجوز إسقاطه أو التسويف فيه أو التخلي عنه حفاظا على المشروعية وتمسكا بها.

وما دامت هذه هي مشروعية المفكر فعلى المثقف أن يحتاط لنفسه لكونه في حالة رصد وتعقب، وعليه الاستعداد للدفاع عن نفسه أمام نقد المفكر، النقد الذي يحول المثقف إلى ساحة معركة ومواجهة، تخيم عليها أجواء الصدام أو تنزع إلى الصدام، الأمر الذي يعني أن نظرية حرب هي نظرية صدامية تضع المفكر في صدام مع المثقف.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة

http://www.almilad.org

اضف تعليق