العدالة الأميركية تبدو عوراء في عالم تحكمه القوة وليس الحق أو الشرف، وأبرز دليل على غياب الحكمة والعدالة هو أن يكون شخص مثل ترامب رئيساً لأكبر قوة عسكرية واقتصادية عالمية، وأن يحاكم على مكالمة هاتفية ثم يصبح بريئاً ورئيساً للمرة الثانية...

عندما يفوز شخص للمرة الثانية في انتخابات رئاسية في بلد (ديمقراطي) وهو مطلوب قضائياً، في الداخل والخارج، ومتهم بعدم الاتزان السلوكي والنفسي والافتقار لمؤهلات الزعامة فإن الانتخابات المزعومة تعد مهزلة والديمقراطية خدعة كبيرة، ولكن في المقابل من يستطيع أن ينكر أن أصوات الناخبين حقيقية، ولا يوجد تزوير أو تلاعب فيها، وهذه نتائج ديمقراطية القطيع!؟

 الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصف محاكمته، في مجلس الشيوخ في نهاية ولايته الأولى عام ٢٠٢٠ بأنها (خدعة) لكنه لم يوضح مَن يخدع مَن في تلك المحاكمة التي تعد الثالثة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، منذ نحو مائتي عام، فمن جورج واشنطن أول رئيس أميركي(1789-1797)، إلى الرئيس الأميركي الحالي الذي يحمل الرقم السابع والأربعين، لم يعزل أي رئيس أميركي من منصبه على الإطلاق، وتعرض ثلاثة رؤساء فقط لإجراءات عزل فشلت في حالتين، ولم تصل إلى نهاية المسار في الحالة الحالية، وذلك ربما هو ما دعا ترامب إلى وصف المحاكمة بالخداع لأن نهايتها كانت معروفة مسبقاً، وهي البراءة، وأن كل ما يجري هو مسرحية ديمقراطية!

  الرئيس الأميركي سبق ان وجهت إليه تهمة التحدث هاتفياً مع الرئيس الأوكراني حول التحقيق في قضية فساد مزعومة في تلك البلاد لنجل منافسه الديمقراطي في الانتخابات السابقة الرئيس (جو بايدن)، وقد فسرت تلك المكالمة من قبل منافسي ترامب بأنها محاولة لابتزاز أوكرانيا في مقابل تسقيط منافسه الأقوى، وعندما عرضت في الكونغرس حيثيات القضية ووثائقها، ومن ضمنها تسجيل المكالمة نفسها، وجد أغلب النواب أن ما ارتكبه الرئيس يمثل انتهاكاً للدستور وتهديداً للأمن القومي، ومن ثم فهو يستحق المحاكمة، وربما العزل من منصبه، وقد جرى تحويل القضية، إلى مجلس الشيوخ الذي يضم مائة عضو، أغلبهم من الحزب الجمهوري، وذلك ما جعل نتيجة التصويت في النهاية محسومة لصالح الرئيس، مهما طالت المحاكمة! 

 القضية كلها تدور حول مكالمة ترامب مع زميله الأوكراني، ولو جرت هذه المحادثة الهاتفية في أي بلد آخر غير أميركا، لكانت من أسرار الدولة ولا أحد يعرف عن مضمونها شيئاً، ولا يتعرض الرئيس لأي نوع من المساءلة ولا يطلع عليها الرأي العام أو يهتم بها، ولكن النظام الأميركي يشترط على الرئيس تسجيل أية مكالمة خارجية، وأن يحضر وقت المكالمة اثنان من أعضاء الكونغرس أحدهما جمهوري والآخر ديمقراطي، وهو ما يبدو ظاهراً قمة في الشفافية السياسية والحرص على الأمن والمصالح القومية، لكنه من جانب آخر يثلم من صلاحيات الرئيس ويضعف من موقفه، ويمكن أن يستخدم ضده من قبل المغرضين المناوئين، وذلك هو جوهر تلك القضية .

الرئيس ترامب حوكم وفق الدستور الأميركي على مكالمة هاتفية مشكوك في محتواها، ولكنه لم ولن يحاكم على ما هو أشد خطراً على الأمن القومي الأميركي، وعلى العالم كله، عندما يستهدف دولاً أخرى، ويهدد بإعلان الحرب ضدها، ويستخدم وسائل القتل والتدمير ضد الشعوب بحجة الدفاع عن المصالح الأميركية، أو فرض الهيمنة على الشعوب بقوة السلاح المتطور!

 هناك رؤساء أميركيين سابقين اتهموا أو حوكموا على أعمال تعد تافهة مقارنة بالحرب والغزو والإبادة، مثل الرئيس الديمقراطي أندرو جونسون (1808-1875) الذي اتهم بمخالفة القانون على خلفية إزاحته وزير الحرب الأميركي من منصبه، وهو القرار الذي لم يكن يحق له كرئيس أن يتخذه في أعقاب الحرب الأهلية، وجرى سحب الثقة منه من قبل مجلس النواب، ولكن تمت تبرئته في مجلس الشيوخ بفارق صوت واحد!

  الرئيس الجمهوري ريتشارد نكسون اتهم بالتجسس على مقر الحزب الديمقراطي في ما يعرف بقضية (ووترغيت) وقد أجبر على الاستقالة عام 1974، أما الرئيس كلنتون فقد واجه قضية تحرش معيبة، حيث قام مجلس النواب الأميركي بإقالته في كانون الأول 1998، بتهم الكذب في الحلف وعرقلة سير القانون على خلفية علاقته الجنسية ب(مونيكا لوينسكي) المتدربة في البيت الأبيض، لكنه بُرئ من قبل مجلس الشيوخ في شباط 1999 وأكمل ولايته الرئاسية!

  لكن من الغريب أن هناك رؤساء قادوا الجيوش وارتكبوا المجازر ضد البشر في دول بعيدة مثل اليابان وفيتنام وكوريا وافغانستان والعراق لم يسألهم الكونغرس عن جرائمهم ولم يحاكموا ولم يعزلوا، فهل مكالمة ترامب أو تحرش كلنتون أو تجسس نكسون اكثر خطورة من استخدام القنابل الذرية ضد الشعب الياباني أو اليورانيوم المنضب ضد الشعب العراقي!

 العدالة الأميركية تبدو عوراء في عالم تحكمه القوة وليس الحق أو الشرف، وأبرز دليل على غياب الحكمة والعدالة هو أن يكون شخص مثل ترامب رئيساً لأكبر قوة عسكرية واقتصادية عالمية، وأن يحاكم على مكالمة هاتفية ثم يصبح بريئاً ورئيساً للمرة الثانية!

اضف تعليق