قد تستخدم الولايات المتحدة الامريكية العرب لتنصيب (إسرائيل) ملكة على المنطقة. مقابل وعود مزعومة. ومن بعد تحقيق هذا الهدف، بمساعدة دول التطبيع، لتصل في النهاية إلى تهميشهم ورميهم إلى مزبلة التاريخ. العرب قد يكونون امام فخ آخر، يعتمد على طموحات (إسرائيلية) تعتمد على وعود مبنية على مصالح متغيرة...

من الثوابت في معظم الأدبيات أن التاريخ يميل إلى تكرار نفسه، رغم اختلاف الظروف والمتغيرات والأزمنة، مما يجعل دراسة التاريخ ذات أهمية كبيرة في فهم أحداث الحاضر واستشراف المستقبل. لذلك، يجب علينا التعلم من دروس التاريخ. اما (كارل ماركس) ذهب أبعد من ذلك، حيث وصف إعادة التاريخ بصورتين: الأولى كمأساة، والثانية كمهزلة. وفي تعبيره الشهير: "التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة، وفي المرة الثانية كمهزلة". هذا يعكس مدى ارتباط تكرار الأحداث بقدرة البشر على التعلم من دروس الماضي.

على الرغم من الخديعة التاريخية التي تعرض لها العرب على يد البريطانيين، والتي أدت إلى مآسي كبيرة ما زلنا نعيش تبعاتها اليوم؛ جراء اتفاقية (سايكس-بيكو) و(وعد بلفور). فإن التاريخ يبدو وكأنه يعيد نفسه في صور أكثر مأساوية. مقابل التطبيع ودعم حرب كيان العدو وحرب الابادة الجماعية بدءاً من غزة وليس انتهاءً بلبنان. "شرق أوسط جديد" مبني على التنمية والسلام كأساس لتفاعلاته، حيث يُفترض، وفق الوعود الأمريكية، أن يكون للعرب دور كشركاء في بنائه. كل هذا يشير إلى أننا ربما نكون أمام خديعة جديدة ستجعل العرب أمام مهزلة قد يعانون من تبعاتها لمئة عام قادمة.

المأساة

على مستوى العالم العربي، (أو منطق المشرق العربي)، شكلت ما يسمى (الثورة العربية الكبرى) ضد العثمانيين، مطلع القرن الماضي (1916م)، بقيادة ملك الحجاز (الشريف حسين بن علي)، وبدعم من الانجليز، احد اهم الاحداث في هذه المنطقة؛ جراء ما ترتب عليها من تبعات، رسمت المنطقة وتفاعلاتها إلى وقتنا الحاضر: تقسيم الأراضي العربية إلى دويلات، ترسيخ التشظي، سيطرة الاستعمار، اعطاء فلسطين إلى اليهود.

أما اليوم، فنحن نشهد أحداثاً كبيرة قد تؤدي إلى تطورات إقليمية جديدة. بعد مرور عام على عملية طوفان الأقصى، لا تزال الأوضاع في المنطقة تتصاعد بشكل مستمر، مما قد يسهم في نهاية المطاف في إعادة تشكيل التفاعلات الإقليمية، وربما يؤدي إلى تغييرات في الحدود السياسية التي رسمتها اتفاقية (سايكس-بيكو)، في ظل الحديث عن شرق اوسط جديد. 

الانجليز كان لهم اطماع استعمارية توسعية، لا يمكن تحقيقها، وصولاً إلى الهيمنة على المنطقة الا بطرد العثمانيين. وبعد اصطفاف الامبراطورية العثمانية إلى جانب دول المحور في الحرب العالمية الاولى ضد دول الحلفاء، الانجليز قرروا إنهاء سيطرة العثمانيين على هذه المنطقة الاستراتيجية. كان من ضمن اوراق المواجهة، ضرب الامبراطورية من الداخل؛ تواصلوا مع ملك الحجاز (الشريف حسين بن علي)، لتحقيق هذا الهدف، مقابل وعود (أو مكافئات)، ان يصبح ملكاً على منطقة المشرق العربي (الجزيرة العربية، إلى جانب بلاد الشام)، اما العراق يبقى تحت الانتداب البريطاني، (وعدن) محمية بريطانية. وبدلاً من أن يكون خليفة للمسلمين، طلب (بن علي) ان يتوج ملكاً على العرب. ومن اجل اكمال خديعتهم، وافق السير (مكماهون) على مطالب (الشريف حسين). وكما جاء في المراسلات الشهيرة تاريخياً (مراسلات حسين-مكماهون)، التي طمأن فيها المعتمد البريطاني في مصر (هنري مكماهون) ملك الحجاز (بن علي) حول موافقة الحكومة البريطانية على مطالبه. اما مسألة ترسيم الحدود لهذه المملكة، كما جاء في المراسلات، يجري التفاهم بشأنها بعد انتهاء الحرب (العالمية الأولى). وبعد الاتفاق، أشعل (الشريف بن علي) الثورة (شعبية ومسلحة) ضد الوجود العثماني في شبه الجزيرة العربية ودول بلاد الشام. 

وقت انشغال (بن علي) في قتال واستنزاف العثمانيين، كانت بريطانية تعقد اتفاقيات وتفاهمات مع دول استعمارية أخرى لتقاسم اراضي الدولة العثمانية، وتحديداً منطقة المشرق العربي (المزعومة للشريف). كانت أبرزها اتفاقية (سايكس-بيكو) بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية عام 1916م، و(وعد بلفور) 1917م الذي تكفَّل بتأسيس وطن لليهود على أرض فلسطين التاريخية. على الرغم من تحذيرات الأمير (فيصل) المتكررة لوالده (الشريف)، من عدم ثقته ببريطانيا، إلا أن والده كان دائماً ما يثق بوعودها التي ينقلها له (لورنس). ورغم حصوله على وثائق (سايكس-بيكو) وما جاء في (وعد بلفور) التي عُثر عليها الثوار البلاشفة الروس في مقر وزارة الخارجية 1917م، فبادر للاستفسار عن حقيقتها من حلفائه الانجليز فأخبروه بأن هذه "الاتفاقيات قديمة ولم تكن سوى حبر على ورق. فصدّقهم!

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وانتصار دول الحلفاء على دول المحور، كشفت بريطانيا عن مطامعها (وجهها الحقيقي). لم تفِ بأيٍ من وعودها (للشريف حسين)، بل طعنته طعنة استعمار وليس (حليف) بالطبع. لن يصبح (بن علي) ملكاً على الاراضي العربية، بل إنّهم (البريطانيين) كانوا في السر يدعمون منافسه (عبدالعزيز آل سعود) الذي فاز في نهاية الأمر وطرد (بن علي) من الحجاز. أما ابنه الأمير (فيصل بن الشريف حسين) أعلن تأسيس حكومة عربية في دمشق عام 1918م وأصبح ملكاً على سوريا، إلا أنه وبموجب اتفاقية (سايكس-بيكو) زحفت الجيوش الفرنسية باتجاه سوريا وطردت الملك (فيصل) من دمشق كما كان مخططاً (دمشق جزء من النفوذ الفرنسي). وفي عام 1921م وصل الأمير (فيصل) إلى العراق وتوج ملكاً عليها بوصاية من الانجليز. بقي (الشريف حسين) في الحجاز حتى عام 1924م، وكان يرفض جميع قرارات الانجليز التي وصفها بالخائنة، وقد اعترض على توطين اليهود هناك، وامتنع عن التوقيع على معاهدة فرساي.

تخلت بريطانيا عن (حليفها) الشريف، والوعود المزعومة له، ووجهت دعمها كله إلى (عبدالعزيز آل سعود)، الذي اجتاح الحجاز عام 1924م، ما اضطر الشريف العيش في منفاه في جزيرة قبرص عام 1925م حتى وفاته في دمشق 1931م. آمال وطموحات (الشريف حسين) لإرساء معالم دولة عربية فتية بقيادته اصطدمت بالمطامع البريطانية الاستعمارية في المنطقة. ولم يحصل على ما وُعد به رغم تضحياته، بل استخدمه البريطانيين للقضاء على العثمانيين لتحقيق مصالحهم وهيمنتهم على المنطقة. 

المهزلة 

كما كانت للبريطانيين مطامع في الهيمنة على منطقة المشرق العربي، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، ومنذ عقود، تتبع النهج ذاته؛ نظراً للأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة وتأثيراتها في التفاعلات الدولية. لم يتعلم العرب من مأساة (حسين بن علي) ودروس الماضي الأخرى. فالتاريخ يُعيد نفسه، رغم اختلاف الظروف والازمنة والمتغيرات. بعبارة أخرى، بعض الدول العربية قد تكون على موعد جديد اشبه بخديعة الانجليز (للشريف حسين بن علي)، لكن بأدوات وأهداف مختلفة تتناسب مع المتغيرات الحالية. 

الشريف (حسين بن علي) كان يسعى لاستقلال العرب وبناء دولة عربية موحدة، وقد دخل في تحالف مع بريطانيا بناءً على وعود كاذبة أدت في النهاية ليس التخلي عن تلك الوعود، بل إلى نفيه من الاراضي العربية. اليوم، قد تكون الوعود الامريكية للعرب، او الطمع بالمكاسب(المكافآت) من قبل بعض دول المشرق العربي، مقابل التطبيع (او التحالف) مع كيان العدو ودعم حربه على الشعبيين الفلسطيني واللبناني، قد يكون مصيرهم مثلما حصل مع ملك الحجاز (بن علي). معتمدين على وعود بتحقيق السلام والتنمية في المنطقة. 

في هذا الصدد، قد تستخدم الولايات المتحدة الامريكية العرب لتنصيب (إسرائيل) ملكة على المنطقة. مقابل وعود مزعومة. ومن بعد تحقيق هذا الهدف، بمساعدة دول التطبيع، لتصل في النهاية إلى تهميشهم ورميهم إلى مزبلة التاريخ. بصياغة أخرى، إن العرب قد يكونون امام فخ آخر، يعتمد على تطلعات وطموحات (إسرائيلية) تعتمد على وعود مبنية على مصالح متغيرة. ويوجد عدد من الشواهد التي تدعم هذه الرؤية؛ من طموحات ذاتية (حلم إسرائيل الكبرى) والدعم الغربي (الامريكي تحديداً). الطموحات المحلية المُعززة بالدعم الخارجي، يمكن ان يؤهلها لعب دور مهيمن على الإقليم، او على أقل تقدير ضابط اعلى للتفاعلات في المنطقة. فإن الخطر المترتب على تخلص (إسرائيل) من خصومها الإقليميين (محور المقاومة)، سيتتبعه طموحات اتجاه اراضي أخرى. وبعبارة بسيطة: هي الغول الذي سيلتهم المنطقة ودولها. 

باختصار، وعود السلام والاستقرار والتنمية، بما في ذلك إقامة دولة فلسطينية، كانت محور اتفاقيات التطبيع مع (إسرائيل)، ولكن السؤال الحقيقي هو: هل ستفي الولايات المتحدة بالتزاماتها تجاه العرب؟ التاريخ لا يبعث على التفاؤل. بالنظر إلى تجارب سابقة، مثل تملص البريطانيين من وعودهم للشريف (حسين بن علي) بعد الحرب العالمية الأولى، يبدو أن القوى الكبرى قد لا تفي دائماً بوعودها، خاصة عندما تتعارض مع مصالحها الاستراتيجية. قد تكون الولايات المتحدة، مثل البريطانيين من قبلها، أكثر استعداداً لحماية مصالحها الخاصة (وتحديداً الإسرائيلية)، حتى لو كان ذلك على حساب الوفاء بالالتزامات تجاه العرب.

ان الفخ (أو المهزلة القادمة) قد لا يقتصر على عدم الوفاء بالوعود (او الالتزامات) تجاه هذه الدول (العربية)، بل قد تجد نفسها فريسة قادمة للغول (الإسرائيلي) الذي يطمح إلى الهيمنة الكاملة على المنطقة. نظرياً، الدول، عند تشكيل التحالفات عليها ان تأخذ بالحسبان موازين القوى. يقول (راندال شويللر): "أن اللاعب الأضعف، من خلال الانضمام إلى لاعب قوي، يخلق فقط وضع يكون فيه الضحية التالية". بحسب هذا، يمكن تصور مستقبل الدول العربية (الضعيفة) المطبعة مع (إسرائيل)، والساندة لها في حربها؛ استناداً لإمكانياتها (السياسية والاقتصادية والعسكرية) الضعيفة يجعل منها الضحية التالية. 

إذن، قد يكرر التاريخ نفسه، لكن الأهداف والأطراف والأساليب مختلفة، والمحصلة قد تكون ذاتها: مصالح عربية مهملة في مواجهة التطلعات الأحادية. فالتطبيع مع (إسرائيل) مقابل وعود امريكية بالمكافئات، دون تقديم الضمانات الفعلية. وعلى غرار مأساة (ابن علي) قد تكون الدول المطبعة، والداعمة للكيان في المنطقة اما مهزلة جديدة. بصياغة أخرى، على غرار ما حصل مع (بن علي)، فإن دول التطبيع طمعاً بالمكاسب (الوعود بالمكافئات) التي تعتقد جنيها من مسايرة (إسرائيل)، قد تكون هي الضحية التالية. فهي، جراء مسايرتها هذه، تُساعد في إطعام الغول الذي سيلتهمها في نهاية المطاف. وهنا على الوحدات المطبعة، إعادة قراءة المشهد، والتفكير بجدية حول مستقبل سلوك هذا الغول اتجاهها، لاسيما بعد ان كشر عن انيابه بشكل جلي في هذه الحرب.

* أستاذ الدراسات الدولية-جامعة بغداد-كلية العلوم السياسية

Abdullah.r@ copolicy.uobaghdad.edu.iq

اضف تعليق