رغم التشخيص لهذا الخطر القادم، ما زالت بعض الدول العربية، وبشكل أساسي (دول التطبيع) تدعم إسرائيل، التي هي قطعاً ستكون الفريسة القادمة لهذا الغول. الدول المطبعة، بدلاً من المميزات والوعود بالمكافئات التي تعتقد جنيها من هذه المسايرة لإسرائيل، قد تكون هي الضحية التالية. فهي، بحكم مسايرتها...
إن فصائل المقاومة الفلسطينية وحماس على وجه التحديد، ربما لن تشن عملية طوفان الأقصى لتحقيق السلام أو للدفع قدماً بما يُسمى (حل الدولتين)، او تحرير الاراضي الفلسطينية (من البحر الى النهر).
بشكل أساسي، يمكن الإشارة إلى ثلاثة دوافع: اولاً، إعادة القضية الفلسطينية إلى اجندة المجتمع الدولي والإقليمي (على الصعيدين الشعبي والرسمي) أي، لكي يتذكر العالم من حكومات وشعوب يوجد شعب اعزل يرضخ تحت سطوة استعمار فاشي (الاطول في العصر الحديث). وبنفس القدر من الأهمية، ثانياً، وقف التقدم نحو ما يُسمى بـالسلام الإقليمي، الذي يتجلى في اتفاقيات التطبيع بين دول المنطقة وإسرائيل، على حساب حقوق الشعب الفلسطيني. يُضاف إلى ذلك، ثالثاً، حالة التردي للأوضاع المأساوية والاقتصادية تحديداً، التي يعيشها قطاع غزة نتيجة الحصار الإسرائيلي منذ اكثر من 15 عام.
إن طوفان الأقصى في سياقها الزمني والمكاني، ردة فعل طبيعية لإفشال الخطط والمعادلات السياسية للمنطقة برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، والتي اوشكت الوصول إلى مراحلها النهائية. في جلها تتجلى لإعادة رسم معادلة جديدة (سياسية وأمنية) في المنطقة تكون إسرائيل هي الضابط الأعلى للتفاعلات (شرطي المنطقة)، على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، وبعض الأطراف الأخرى لاسيما أطراف محور المقاومة.
لكن عملية الطوفان اشبه بإعصار عصف كل ما تم التخطيط له، أو على أقل تقدير تعطيل هذه الترتيبات، وهذه العملية بحكم اهمية توقيتها، وما حققته من نتائج إلى الآن، تتعدى الجغرافية الفلسطينية، فإن لا غرابة حيال ردة الفعل الإسرائيلية والغربية، وبعض دول المنطقة حيالها، لاسيما التغاضي عن جرائم حرب الإبادة التي تستهدف سكان قطاع غزة (بتآمر وتغاضي عربي ودعم غربي). فهي من بين أسباب أخرى ضربت جميع تلك الجهود والمعادلات والخطط.
إذن، على صعيد تداعيات طوفان الأقصى؛ وعلى غرار التداعيات التي شهدها العالم بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، ومع فارق التشبيه، تُمثل الاولى نقطة انعطاف في تاريخ المنطقة. هنا يمكن الجزم، أن جل التفاعلات في المنطقة بعد 7 أكتوبر/ تشرين الاول 2023، ليست كما كانت قبلها على جميع الأصعدة، وكل شيء مرهون بنتائج هذه الحرب الصفرية؛ فإما أن تؤدي إلى هيمنة إسرائيلية (في حالة انتصارها) على الإقليم، أو بداية انهيار هذا الكيان (في حالة عدم تحقيقه أي شكل من اشكال الانتصار). وكل ذلك، له من التداعيات لن تقتصر على الإقليم فقط، بل ستمتد إلى النظام الدولي. وهذا معروف جيداً لدى صُناع قرار بعض الدول الغربية. هو ما يُفسر جزء من الاسباب التي تكمن وراء الدعم اللامحدود المقدم إلى إسرائيل.
على مستوى التداعيات الإقليمية: تُمثل عملية طوفان الأقصى أحلك لحظة في تاريخ دولة الاحتلال، منذ ما يسمى بحرب الاستقلال عام 1948. في هذه العملية، فقدت إسرائيل اهم ميزة كانت تتمتع بها منذ عقود طويلة (هيبة الردع الإسرائيلية) على المستويين الإقليمي والمحلي. في هذا السياق، جل التصورات الإقليمية عن إسرائيل كانت مبنية على تصور (القوة التي لا تقهر)، لكن اثبتت عملية الطوفان ضعف وهشاشة في هذه التصورات. إلى جانب ذلك، فقدان ثقة المستوطنين في الحكومة الإسرائيلية وجيشها، حيال الحماية الأمنية المطلقة لهم.
ومن اجل إعادة الصورة إلى ما قبل 7 اكتوبر 2023، وبعد اكثر من عشرة اشهر، شنت دولة الاحتلال حرباً ما زالت مستعرة إلى الآن، استهلكت مخزونات جيش الاحتلال (من المقذوفات والمتفجرات عدة مرات)، ومع كل الوسائل غير الأخلاقية، واللاإنسانية، وجرائم الإبادة، إذ لم يسلم أي شيء في قطاع غزة الا وتعرض للاستهداف. في مجملها (حرباً) صُنفت وفقاً للقوانين والاعراف الدولية على إنها ابادة جماعية.
هل من الممكن أن تصبح إسرائيل مهيمن إقليمي؟ هل تمتلك المقومات اللازمة للهيمنة؟ وما هي التبعات المترتبة على انتصار إسرائيل، وعلى وجه التحديد الدول التي طبعت مع الكيان وأخرى تتطلع للتطبيع؟
الجواب ببساطة: ان اي شكل من أشكال الانتصار الإسرائيلي سيؤدي إلى شهية جامحة للتوسع إلى أراضي وساحات خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، وصولاً إلى هيمنة إقليمية. بوجد عدد من الشواهد التي تدعم هذه الرؤية؛ من طموحات ذاتية (حلم إسرائيل الكبرى)، ورغبة بعض الأطراف الإقليمية، والدعم الغربي وتحديداً الأمريكي، إذن هذا الحلم يمكن ان يكون واقعياً بحكم الظروف المؤاتية (الخارجية والمحلية).
تُشكل البنية المحلية (المؤسساتية والمجتمعية، الاستخراج والتعبئة) والبنية الخارجية (الدولية والإقليمية) دوراً حاسماً لقوة الدول وتوظيفها في تطبيق سياستها الخارجية. بمعنى آخر، مدى قدرة الدولة على توظيف ذلك، وتحويلها إلى قوة فعلية، فهي مُحدد مهم في تحقيق التوجهات الخارجية لأي دولة، على مستوى البنية المحلية، تلجأ إلى وسائل التعبئة كالدعاية وتوظيف التهديد الخارجي والمساومة مع الفواعل المحليين، إي انها في هذا الجانب تستطيع استخراج وتعبئة الموارد (المادية والبشرية) من المجتمع المحلي او ما يسمى داخل الكيان (الجبهة الداخلية).
على مستوى البنية الخارجية، يتمتع الكيان بدعم غربي وامريكي مطلق، يتجلى بالدعم السياسي والاقتصادي والعسكري، مع دعم إقليمي من بعض دول المنطقة، لا سيما دول التطبيع. إذن مع الإمكانيات المحلية المُعزز بالدعم الخارجي، يمكن ان يؤهلها لعب دور المهيمن، او على أقل تقدير، ضابط اعلى للتفاعلات في المنطقة. بصياغة مختلفة: ان دمج كلتا البنيتين (المحلية والخارجية) يمكن ان يسهما في تكوين رؤية واضحة حيال إمكانية هذا الكيان وتطلعاته الإقليمية.
كان اول من تنبأ بهذا الخطر الرئيس التركي اردوغان بقوله: "اذا لم تتوقف إسرائيل فستطمع عاجلاً أو آجلاً في اراضي تركيا، فإن إسرائيل لا تهاجم غزة وحدها، بل تهاجمنا نحن أيضا، مستندة إلى أوهام الأرض الموعودة". أكثر من ذلك، وصف ما تقوم به فصائل المقاومة الفلسطينية، بالجبهة المتقدمة في الدفاع عن الأناضول، وبعبارة واضحة لا تقبل اللبس: "ان حماس تدافع عن الأناضول في خط متقدم". وعلى غرار تصريحات آخرين (من صُناع قرار وباحثين وأكاديميين) الكل يجمعون على الخطر المترتب في حال تحقيق إسرائيل النصر على قطاع غزة، ما سيستتبعه من طموحات اتجاه اراضي أخرى. وبعبارة بسيطة: هي الغول الذي سيلتهم المنطقة ودولها.
رغم التشخيص لهذا الخطر القادم، ما زالت بعض الدول العربية، وبشكل أساسي (دول التطبيع) تدعم إسرائيل، التي هي قطعاً ستكون الفريسة القادمة لهذا الغول. وبعبارة مختلفة: ان الدول المطبعة، بدلاً من المميزات والوعود بالمكافئات التي تعتقد جنيها من هذه المسايرة لإسرائيل، قد تكون هي الضحية التالية. فهي، بحكم مسايرتها هذه، تُساعد في إطعام الغول الذي سيلتهمها في نهاية المطاف. فالوحدات المطبعة، بدلاً من التفكير بجدية حول مستقبل سلوك هذا الغول اتجاهها، لاسيما وبعد ان كشر عن انيابه بشكل جلي في هذه الحرب، وبحكم العبارة الشهيرة (حليف اليوم قد يكون عدو الغد).
وفي هذا الصدد، فإن على الدول ان تأخذ بالحسبان عند تشكيل التحالفات، يقول راندال شويللر: "أن اللاعب الأضعف، من خلال الانضمام إلى لاعب قوي، يخلق فقط وضع يكون فيه الضحية التالية". وفق هذه الاطروحات والرؤى، يمكن تصور مستقبل الدول العربية (الضعيفة) المطبعة مع الكيان، والساندة له في حربه على غزة. بحكم اوضعها (السياسية والاقتصادية والعسكرية) يجعل من اصطفافها (أو مسايرتها) للغول (الطرف الأقوى)، اعتقاداً منها قد تكتسب الأمان او بعض المكاسب (فرص الربح)، إنها حتماً سوف ترتد سلباً على تلك الدول، ومن ثم احتمال ان تخسر بقائها في النهاية.
نظرياً، الاصطفافات (او التحالفات)، ذات دوافع متنوعة، غالباً ما تتحد في دافعين: اما ان تكون من أجل الأمن، او الربح (مشاركة الغنائم). لكنها في كلتا الحالتين، قد تنعكس سلباً على الدول الصغيرة (الضعيفة)، وهو نموذج لتأثير المسايرة السلبي. وهكذا المسايرة من خلال التحالفات بين قوى غير متكافئة تضع تكلفة كبيرة على عاتق القوى الأصغر أو الأضعف. بناء على هذا التصور (الدول المطبعة) بحكم إنها دول ضعيفة، ووفقاً لتصنيفات راندال شويللر لأنواع الدول، يمكن وصف (الدول المطبعة) بدول حملان (خراف)، وفي عالم من الحيوانات المفترسة والفريسة، يقول شويللر: "الحملان غالباً ما تكون هي الفريسة". بهذا، فإن الدول المطبعة وغيرها من دول المنطقة، تكون بصدد اطعام الغول الذي قد يلتهمها في أية لحظة، وتربط مصيرها ومستقبلها بنواياه المستقبلية وإحسانه المتغير.
عند الرجوع إلى السجل التاريخي، لا نواجه صعوبة في إيجاد شواهد نتكأ عليها في رؤيتنا حيال خطر مسايرة الغول الذي سيلتهم الجميع في النهاية. إذ يؤذن سلوك الدول المطبعة بتقوية إسرائيل إضافة إلى ما تمتلكه من إمكانيات، بكارثة على هذه الدول، من خلال تقوية طرف قد ينقلب عليهم في المستقبل. من الأمثلة التاريخية الواضحة؛ مسايرة السوفييت لألمانيا النازية قبل الحرب العالمية الثانية، فبدلاً من موازنة الصعود الألماني، طمع السوفييت بالمكاسب (فرص الربح) بعد ان وعدهم هتلر بمكافآت سخية، على غرار اقتسام أوربا بينهما. لكن ما الذي حصل؟ بمساندة السوفييت، بعد تخلص هتلر من خصومه الاوربيين، واحتلاله لفرنسا، بدلاً من الإيفاء بوعوده، وجه مقدراته العسكرية إلى الأراضي السوفيتية (الفريسة التالية)، هذا الوضع من المسايرة من اجل (الفرص او الأمن)، هو نموذج لتأثير مسايرة الطرف القوي، الذي يشبّهه (كنت والتز) بخرق قانون الجاذبية، فإن الشخص الذي يخرق قانون الجاذبية بالقفز من نافذة الطابق التاسع عشرة سيلاقي عقاب آني ومباشر".
نخلص من كل ذلك، ان عملية طوفان الأقصى، كانت ردة فعل طبيعي في سياقها الزماني والمكاني، وبنفس القدر من الأهمية، بعد أكثر من عشرة اشهر من الحرب في غزة والجبهات الساندة لها، وطالما لم تتضح إلى الآن أي معالم توضح كيفية نهاية هذه الجولة من الحرب، من يعض اصبعه اولاً بين الاطراف المتحاربة، يجعل من منطقة الشرق الاوسط متوقفة على قدم وساق انتظار ذلك الطرف الذي يصرخ اولاً، كون هذه المعركة هي من سوف تحدد شكل المعادلات الإقليمية القادمة. وعلى الرغم من عدم وجود أي بوادر او ملامح نصر إسرائيلي، لكن لو انتصرت في هذه الحرب، فإنها سوف تؤسس شهية افتراس جامحة اتجاه ساحات ودول أخرى، لا يسلم منها احد، حتى الدول المطبعة. التي تنتظر بفارغ الصبر النصر الإسرائيلي بغية مشاركة غنائم النصر.
استناداً إلى عبارة راندال شويللر: "في عالم الحيوانات المفترسة والفريسة، الدول الضعيفة (الحملان) غالباً ما تكون الفريسة". إذن، النصر الإسرائيلي سيحولها إلى الغول الذي سيلتهم المنطقة، والدول (المطبعة) الضحية التالية.
اضف تعليق