إسرائيل لعبت أوراقها بنجاح عدة مرات على مدى الشهور القليلة الماضية، فإنها قد تكون عرضة للتصرف على نحو يفوق قدراتها، لكن لا ينبغي أن تبتلع واشنطن ذلك الطعم. يتعيَّن على الولايات المتحدة أن توضح أنها لن تشارك أو تدعم ضربة إسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية أو لبنيتها التحتية...
باكتسابها جرأة أكبر بعد نجاحاتها العملياتية الأخيرة، تفكر إسرائيل في كيفية الرد على وابل الصواريخ البالستية التي أطلقتها عليها إيران في 1 تشرين الأول/أكتوبر. ينبغي على إدارة بايدن أن تفعل كل ما في وسعها لحثها على توجيه ردٍ مدروس بعناية يسمح بتخفيف حدة التوتر.
بعد عام من هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 في جنوب إسرائيل، يقف الشرق الأوسط على حافة حرب شاملة. منذ أطلقت إسرائيل ردها العسكري في قطاع غزة، تحاول إدارة بايدن التوسط للتوصل إلى وقف لإطلاق النار هناك وإدارة مخاطر تصعيد إقليمي. لكن عدم التوصل إلى اتفاق بشأن قطاع غزة أشعل الأعمال القتالية في أماكن أخرى، واليوم تواجه جهود الاحتواء الإقليمي مخاطر جسيمة. فبالنظر إلى شعورها بجرأة أكبر نتيجة انتصاراتها العملياتية على طهران والمجموعات المدعومة من إيران في “محور المقاومة“، أرسلت إسرائيل قواتها إلى لبنان، وتفكر الآن بكيفية الرد على الهجوم الإيراني بالصواريخ البالستية في 1 تشرين الأول/أكتوبر.
كما حدث في هجوم مماثل في نيسان/أبريل، خففت الدفاعات الجوية الإسرائيلية، بدعم من الولايات المتحدة ودول أخرى، من أثر ذلك الهجوم. لكن على عكس ما حدث في نيسان/أبريل، عندما ضغطت الولايات المتحدة على إسرائيل لإبقاء ردها منضبطاً ومن ثم خفض التصعيد، فإن مسؤولي البيت الأبيض عبّروا هذه المرة عن دعمهم لرد انتقامي ”حاد" لكن ”متناسب“. يقول الرئيس جو بايدن إن الرد الانتقامي ينبغي أن يستبعد ضرب المنشآت النووية الإيرانية، لكن ضربات كبيرة أخرى لإيران من شأنها أيضاً أن ترفع حدة التصعيد. ولذلك، ينبغي على الولايات المتحدة أن تستعمل كل نفوذها للحث على توجيه ردٍ مدروس يسمح بتخفيف حدة التوترات.
تعود مخاوف الولايات المتحدة من اندلاع حرب شاملة في الشرق الأوسط إلى المراحل الأولى من الرد الإسرائيلي على هجوم حماس. إذ عبَّرت إدارة بايدن عن عدم موافقتها على الخطط الحربية التي دفع بها القادة الإسرائيليون، بما في ذلك وزير الدفاع يوآف غالانت، الذي سعى إلى التأكيد على صراع إسرائيل مع حزب الله، أقوى شركاء إيران الإقليميين. رغم أن إسرائيل ركزت على مهاجمة حماس، فإن مقاتلين آخرين في “محور المقاومة” فتحوا جبهات جديدة لتشتيت الأصول العسكرية الإسرائيلية عن قطاع غزة. وكان أكثر هؤلاء أهمية على حدود إسرائيل الشمالية، حيث بدأ حزب الله تبادلاً لإطلاق النار منذ سنة شهدت نزوح عشرات الآلاف من الجانبين. كما انضم أنصار الله في اليمن (المعروفون أيضاً بالحوثيين) إلى الصراع، وكذلك فعلت مجموعات مسلحة عراقية تجد في الدعم الأميركي لإسرائيل مبرراً لمهاجمة القوات الأميركية في العراق، والأردن وسورية. وأوضحت جميع مجموعات “المحور” أن حملتها ستستمر ما لم يتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة. أرسلت الولايات المتحدة، من جهتها، مجموعات مرافقة لحاملات طائرات إلى البحر الأبيض المتوسط لردع إيران والميليشيات المتحالفة معها، بينما سعت من وراء الكواليس إلى تخفيف حدة الأعمال العدائية.
لقد غيرت نجاحات إسرائيل العملياتية الأخيرة تفكير واشنطن إلى حد ما؛ إذ يرى المسؤولون الأميركيون أن إسرائيل تتصرف بحرية مناورة أكبر بعد تصديها لهجوم إيراني كبير بالمسيرات والصواريخ في نيسان/أبريل. ويبدو أن إخفاق طهران في توجيه ضربة حقيقية حينذاك فتح الباب لحكومة نتنياهو للمغامرة بهجمات أكثر جرأة – إذ قتلت قائد حركة حماس إسماعيل هنية في طهران في يوم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، واستعملت معدات اتصالات مفخخة للقضاء على البنية القيادية في حزب الله، فقتلت حسن نصر الله، الذي يقود الحزب منذ مدة طويلة، وأطلقت أخيراً توغلات برية في لبنان. وقد كانت الخسائر البشرية جراء هذا العمل الأخير جسيمة بالنسبة لمجتمع يعاني أصلاً على مدى سنوات من أزمة سياسية واقتصادية، إذ قُتل أكثر من ألف لبناني وهُجِّر مئات الآلاف. رغم تقلص قوة حزب الله على نحو جدي، فإنه رغم ذلك قد يجد طريقة للرد.
لقد قوضت الإنجازات الإسرائيلية الأخيرة دعوات أصوات في إدارة بايدن حذرت من مخاطر التصعيد. يعبر المسؤولون الأميركيون عن تفاجئهم بنطاق وتعقيد بعض العمليات الإسرائيلية وغياب ردٍ ذي معنى من قبل إيران وحلفائها. رغم ضربات إسرائيل لحزب الله، حليف إيران الرئيسي، بدأت الإدارة بالتوافق على وجهة النظر القائلة إن حرباً شاملة باتت غير مرجحة على نحو متزايد، إذ يتساءل بعض المسؤولين عما إذا كانت إيران ستردُّ بقوة فعلاً على انتكاساتها.
على هذه الخلفية، بدا بعض المسؤولين الأميركيين منجذبين على نحو متزايد إلى المنطق العسكري الإسرائيلي، إذ قال مسؤول رفيع إن حملة إسرائيل في لبنان قد تشكل فرصة تطرأ مرة كل جيل لإعادة تشكيل المنطقة. ففي الوقت الذي قوَّض فيه وابل الصواريخ البالستية التي أطلقتها إيران على إسرائيل في 1 تشرين الأول/أكتوبر الشعور بأن إيران ستقف مكتوفة الأيدي، فإنه في الواقع غذَّى مشاعر الصقور في واشنطن.
واجهت طهران، من جهتها، خياراً بين عدم القيام بشيء وتلاشي قدرتها على الردع أو الرد والمخاطرة بهجوم إسرائيلي أكبر في وقت أُضعف فيه حزب الله على نحو كبير. في مواجهة ضغوط داخلية هائلة ومن شركاء هائجين في جميع أنحاء المنطقة، يبدو أن إيران شعرت بأنها ملزمة بالرد. في النهاية، فإن وابل الصواريخ التي أطلقتها كان أكبر من مثيله في نيسان/أبريل. كما منحت طهران لحلفاء إسرائيل وقتاً أقل للاستعداد مما كانت قد فعلت في نيسان/أبريل، إذ بعثت برسائل بشأن ما سيحدث قبل بضع ساعات فحسب، وليس قبل أيام. لكن إذا كانت إيران قد أرادت أن تعيد الضربات ترسيخ درجة من الردع، فإنها أخفقت في فعل ذلك. إذ لم يقتصر الأمر فقط على قيام إسرائيل والولايات المتحدة، إضافة إلى شركاء أوروبيين آخرين، بإسقاط معظم الصواريخ، والحد من الأضرار واقتصار القتلى على شخص واحد (فلسطيني في مدينة أريحا في الضفة الغربية)، بل قوبلت الضربات الإيرانية بإدانة دولية وفتحت الباب على ردٍ إسرائيلي أقوى.
يبدو أن ما من شك في أن إسرائيل ستشن هجوماً آخر على إيران، لكن السؤال هو ما إذا كانت نيتها استعراض قدراتها – كما فعلت في نيسان/أبريل عندما استهدفت أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية في أصفهان، قرب منشأة نووية إيرانية – أو السعي لتحقيق أهداف إستراتيجية أكبر، ربما بمباركة واشنطن، بل حتى بمساعدتها. ترى أصوات بارزة في إسرائيل، وداعميها في الولايات المتحدة أن اللحظة مواتية لشن مثل تلك الضربة، وتشجيع إسرائيل على توجيه ضربة قاتلة بمهاجمة البرنامج النووي الإيراني أو حتى إسقاط النظام. يحث هؤلاء الأشخاص واشنطن على نزع القيود التي يعتقدون أنها منعت إسرائيل من استغلال تفوقها على مدى السنة الماضية.
بينما تشير تعليقات بايدن بشأن التناسبية وبأن ضربة للمنشآت النووية الإيرانية غير مقبولة تشير إلى أن البيت الأبيض ليس مستعداً للمضي إلى ذلك الحد، ما يزال هناك مبرر للقلق. يتمثل أحد مصادر القلق في أن الإدارة الأميركية المعجبة بالكفاءة التكتيكية الإسرائيلية، المقيدة بالسياسات الداخلية، والتي تشعر بالتوتر حيال الانتخابات الرئاسية القادمة في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر، ستعطي الضوء الأخضر لرد إسرائيلي كبير. قد تقول واشنطن لنفسها إن إيران كانت قد أظهرت القيود المفروضة على قدراتها في نيسان/أبريل وفي 1 تشرين الأول/أكتوبر، وبالنظر إلى القيود المفروضة على حزب الله وتعبئة القوات الأميركية في جميع أنحاء المنطقة، فإن مخاطر التصعيد يمكن إدارتها. مصدر آخر للمخاوف هو أن توجه إسرائيل ضربة كبيرة حتى دون موافقة أميركية صريحة. فمع الدعم الأميركي، أو بدونه، تشمل الخيارات عمليات تهدف إلى تدمير البنية التحتية الحيوية وزعزعة استقرار النظام الإيراني، وهو موضوع ألمح إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في رسالة مباشرة للشعب الإيراني في 30 أيلول/سبتمبر.
لكن التصعيد سيكون خطأ، وأولئك الذين يدعون إلى المزيد لا يدركون الفكرة من هجوم 1 تشرين الأول/أكتوبر، وهي أن طهران لا تريد حرباً، ولا هي غافلة عن المخاطر التي تواجهها. كان يتعين عليها فهم المخاطرة التي تقوم بها عند إطلاق تلك الصواريخ على إسرائيل. لكن مهما كانت حدة التداعيات المتوقعة، يبدو أن استمرار عدم قيام طهران بأي رد قوض مصداقيتها لدى قاعدة دعمها المحلية ولدى شركائها الإقليميين. فمهما فعلت إيران التي تشعر بأنها محاصرة ومهددة رداً على هجوم كبير، فإنه لا يمكن أن يوازي القوة العسكرية للولايات المتحدة وإسرائيل، لكن من شبه المؤكد أن يسبب دماراً كبيراً ويدفع إلى مزيد من التصعيد. ومن المرجح أن تردَّ إيران وشركاؤها الإقليميون على إسرائيل، ربما بصليات أكبر من الصواريخ البالستية التي لا تستهدف المنشآت العسكرية، بل المدن. كما يمكن أن يضربوا الأصول الأميركية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بما في ذلك الطواقم العسكرية الأميركية الموجودة هناك. كما يمكن أن يستهدفوا البنية التحتية للنفط والغاز في المنطقة. وليس من المرجح أن تسبب ضربة إسرائيلية انتكاسة لبرنامج إيران النووي إلا مؤقتاً، في حين من المؤكد أن تؤدي مثل تلك الضربة إلى زيادة تصميم طهران على الحصول على الرادع الأكبر.
بالنظر إلى أن إسرائيل لعبت أوراقها بنجاح عدة مرات على مدى الشهور القليلة الماضية، فإنها قد تكون عرضة للتصرف على نحو يفوق قدراتها، لكن لا ينبغي أن تبتلع واشنطن ذلك الطعم. يتعيَّن على الولايات المتحدة أن توضح أنها لن تشارك أو تدعم ضربة إسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية أو لبنيتها التحتية. كما ينبغي أن تستعمل النطاق الكامل لنفوذها لمنع إسرائيل من الذهاب بمفردها في هذا الاتجاه. قد ترى إسرائيل أن هذا القرار يخصها وحدها، لكن من المرجح أن تجرَّ التداعيات الولايات المتحدة، ومن المحتَّم أن تصل إلى جميع أنحاء المنطقة وإلى خارجها أيضاً. يخاطر اتخاذ مثل تلك القرارات في لحظة من الانتصار العسكري بتجاهل الأخطار التي ما تزال موجودة ويمكن أن تدفع الشرق الأوسط إلى حرب شاملة أو حروب استنزاف أطول أمداً. مهما كان ما تقوله الولايات المتحدة علناً، يتعيَّن على كبار مسؤوليها أن يقولوا لإسرائيل إن ردها يجب أن يكون مدروساً.
وبالمقابل، يمكن أن تمتنع إيران عن الرد، ما يترك إسرائيل منتصرة. وعندها سيتعين على واشنطن دفع إسرائيل نحو خفض التصعيد في قطاع غزة ولبنان. وما يزال أضمن مسار لتحقيق تلك الغاية وقف إطلاق النار واتفاق بشأن الرهائن في قطاع غزة – والذي لا يشكل ضرورة إنسانية فحسب، بل الطريق الأمثل للتوصل إلى اتفاق على الحدود الإسرائيلية–اللبنانية. وإذا لم يتحقق ذلك، ينبغي أن تسعى الولايات المتحدة إلى تخفيف كثافة وطموحات حملة إسرائيل في لبنان، والتي يمكن أن تتسع بسهولة وتغرق إسرائيل بطرق كارثية عليها وعلى لبنان.
اضف تعليق