حينما يبتعد عالم الأشخاص عن منظومة القيم ولا يحكمونها في واقعهم فإن هذا العالم (الأشخاص) يتحول إلى أشبه شيء بغابة مليئة بالصراعات غير المنضبطة والتي تشتعل لنوازع شريرة وغرائز وأهواء شيطانية. وهذا يؤدي إلى انهيار تام في المنظومة الاجتماعية وتضمحل إمكانات خروج هذا الجمع من مآزقه وأزماته...

إن أخطر ما يصيب المجتمعات الإنسانية من آفات، هو حينما يفقد أبناء هذه المجتمعات فاعليتهم، وتتوقف عوامل الدفع الحضاري لديهم، فتنتشر أفكار الكسل والخمول والتبرير، وتسيطر على مجريات حياتهم. فتموت في مهدها كل جذوة فكرة، تتطلع للخروج من هذه القدرية الفكرية والاجتماعية المقيتة. وتسود في الوسط العام كل الكوابح والعقبات، التي تحول دون الانطلاق وتحقيق مفهوم الشهود الحضاري. ويستولي عليهم التقليد الأبله لواقع تاريخي أو في تجربة مجتمعية محددة.

 وفي هذا الظرف يفقد المجتمع القدرة على استثارة الطاقات الداخلية وكوامن الحياة فيها وحينذاك يتحول المجتمع إلى كيان هامشي في كل شيء فغذاؤه واقتصاده يستورد من الخارج، ومعايير قيمه الاجتماعية والعامة، مقتبسة من النماذج الفكرية الأخرى، وكيانه الاجتماعي ليست محددة هويته بل تصطرع في داخله شتى الهويات والنظريات.

‎ولعل جذر غياب الفاعلية في المحيط الاجتماعي، وتوقف عوامل الدفع والحفز الحضارية، هو عدم انتظام العلاقة بين (عالم الأفكار) ونقصد بذلك منظومة القيم العليا والأفكار التي تساهم بشكل فعال في صياغة السلوك الخاص والعام و(عالم الأشخاص)، من حيث مدى التزام هذا العالم بمتطلبات المنظومة القيمية. وهذا الاضطراب أو عدم الانتظام، لا يقف عند حدود معينة، وإنما ينعكس بشكل طبيعي على منهج التعامل مع (عالم الأشياء)، ونظرة واحدة إلى الأزمات الكبرى التي يعانيها العالم العربي والإسلامي، نكتشف مدى الخلل المتوفر في علاقة هذه العوامل مع بعضها البعض، وكيفية تأثير كل عالم أو حقل على العوالم أو الحقول الأخرى.

‎فحينما يبتعد عالم الأشخاص عن منظومة القيم ولا يحكمونها في واقعهم فإن هذا العالم (الأشخاص) يتحول إلى أشبه شيء بغابة مليئة بالصراعات غير المنضبطة والتي تشتعل لنوازع شريرة وغرائز وأهواء شيطانية. وهذا بطبيعة الحال، يؤدي إلى انهيار تام في المنظومة الاجتماعية وتضمحل إمكانات خروج هذا الجمع من مآزقه وأزماته.

 والأنكى من ذلك أن حالة الانهيار، لا تصيب الأشخاص فقط، وإنما تتعدى ذلك وتصل إلى الطريقة المستخدمة للتعامل مع عالم الأشياء، فتتحول التنمية إلى المزيد من الاستيراد الشره لمنتجات الحضارة الحديثة، ويصبح معيار التفاضل الاجتماعي، ليس الكسب الحسن والصالح، بل هو التفاخر بالأموال والممتلكات، فتبدأ المادة تطغى عل كل شيء، وتصبح هي معيار كل مسألة في الكيان الاجتماعي.

 فالإنسان بأمواله حتى ولو كان سيئ الأخلاق وعديم الضمير فالمآزق الاجتماعية العامة، التي تعانيها غالبية شعوبنا، هي من جراء اضطراب العلاقة بين العوالم الثلاثة (الأفكار والأشخاص والأشياء) وإن تجاوز هذه المآزق، لا يتم إلا بتنظيم هذه العلاقة بين هذه العوالم.

‎فلحظة الانهيار الحضاري الذي أصاب الواقع العربي والإسلامي بدأ من تلك اللحظة التاريخية التي اضطربت فيها العلاقة بين الأمة ومنظومتها العقدية والفكرية، كما أن فترات الازدهار والشهود الحضاري لهذه الأمة تحقق حينما اتسقت العلاقة بين عالم الأشخاص وعالم الأفكار والقيم.

‎فنقطة البداية هي تنظيم العلاقة بين (عالم الأشخاص) والمنظومة القيمية أو (عالم الأفكار)، بحيث تكون تصرفات الأشخاص ومواقفهم نابعة من تلك المنظومة ومؤدية إلى تثبيتها في المحيط العام. وهذا يتطلب الأمور التالية:

‎1- ضرورة وجود المنهج السليم الذي يربط عالم الأشخاص بعالم الأفكار. لأن في الكثير من الأحيان، أن ما ينقص الشعوب والمجتمعات، ليس الإمكانات المادية، للخروج من حالات التخلف التاريخية، بقدر ما هو غياب ذلك المنهج الواضح الذي يوفر الفهم الصحيح لهذه المجتمعات. فالمنهج الواضح، عبارة عن ذلك السبيل المعروفة بداياته ونهاياته والتي يسير المجتمع على هداه لبلوغ غاياته وأهدافه. ولعل ما ينقص تجربتنا العربية الحديثة في عملية النهوض، هو غياب هذا المنهج، الذي يجمع كل الطاقات في سبيل أهداف محددة وغايات معينة وكما يبدو أن هذا هو السبب في تراجع التجربة العربية وعدم وصولها إلى أهدافها وتطلعاتها.

 والمنهج الواضح يعني أيضاً إنهاء حالة الوهم، التي ترى في جملة المبادئ العامة، أنها هي البرامج والخطط والوسائل الموصلة إلى الأهداف والغايات. إن مجرد الاحتفاظ بالمبادئ العامة، لا يعني توفر المنهج، الذي ينقل هذه المبادئ من عالم المثُل إلى عالم الواقع. وإنما بحاجة إلى بذل جهود نوعية مكثفة لصناعة ذلك المنهج الذي يأخذ بيد الناس، للوصول بهم إلى ما يجب أن يكون ليتم تحقيق ما تقتضيه جملة المبادئ والقيم العامة.

‎2- ملاحظة ظروف الزمان والمكان في فهم عالم الأفكار: لأن الكثير من الجهود الثقافية والفكرية المتوفرة في الساحة والتي تتطلع لإخراج الراهن من مآزقه هو وفي أغلبها إما منتج دون مراعاة لظروف الزمان وفقه المرحلة، أو دون مراعاة لظـروف المكان وفق الواقع، لذلك أصبحت هذه الجهود تتجاذب الكثير من الشعوب دون أن تتجاوز مآزقها الذاتية. لذلك نحن بحاجة إلى تلك الجهود الثقافية والفكرية، التي تلحظ ظروف المكان كما تأخذ بعين الاعتبار ظروف الزمان وبهذا يتم تجاوز حالة التكديس والأسر، التي أصابت الكثير من الجهود الثقافية العربية، بفعل الفصام النكد بين الزمان والمكان في الإنتاج الثقافي والفكري.

‎3- إعادة بناء عالم الأفكار: إذ من البداهة القول أن عصور التخلف والانحطاط، أوجدت جملة من الأفكار والقناعات الثقافية التي تبرر واقع التخلف. لذا فإن إعادة بناء عالم الأفكار وتنقية الواقع الفكري والثقافي، من تلك الأفكار التي يعتبرها المفكر (مالك بن نبي) بأنها أفكار ميتة أو قاتلة، أي لا تستطيع أن تعيد الفاعلية والحيوية إلى الجسم الاجتماعي أو تزيد الوضع الاجتماعي تشتتاً وضعفاً، من جراء الوافد الفكري. من هنا فإن إعادة بناء عالم الأفكار يعني:

‎4- إعادة النظر في مناهج التثقيف وأهداف اكتساب الثقافة والعلم، في ضوء هدف مركزي، هو صناعة الإنسان الجديد وفق ثوابت الشريعة وتطورات العصر.

‎5- إدراك الأولويات الوطنية في البناء الاجتماعي، ونبذ حالات التقليد الأعمى لتجارب الغير، وغرس روح الإبداع والابتكار الذي هو الطريق الأمثل لتمثل الأفكار الإنسانية الصالحة.

‎6- الانفصال النفسي والاجتماعي عن رواسب ثقافة التخلف والتأخر والاتصال الفعال بأسباب الحياة الكريمة.

‎وبهذه العناصر تستطيع المجتمعات العربية والإسلامية التي فقدت فاعليتها، وتوقفت عوامل الدفع الحضاري عن العمل، أن تعيد لها الفاعلية، وتوقظ عوامل الدفع الحضاري، وتدفعها إلى قلب الفعل الحضاري.

اضف تعليق