نحن نريد أن نعيش حياة كريمة مرفَّهة ولكن لن نسمح لحالات الاستهلاك المجاني أن تسيطر علينا وتسلب منا حياتنا القائمة على التوازن والاعتدال، وإلا فنحن لا نحتاج مطلقا إلى رفاهية منفلتة، بلا حدود، يتسابق فيها الجمع نحو الاستهلاك دون حدود...
هناك من يتهمنا بأننا متخلفون، عندما نقول للناس يجب أن تحترسوا من قراصنة العصر المادي، ونقصد بهم أولك الذين يروجون لكل ما هو دنيوي سريع الزوال، ويحاولون إقصاء القيم والأخلاق والمعنويات التي تساعد الناس على بناء قيم وضوابط تحكم سلوكهم وتصرفاتهم وعلاقاتهم مع بعضهم، فالأمانة مثلا في عرف قراصنة العصر المادي باتت من القيم القديمة التي لا يحتاجها الناس.
كذلك وفق رؤيتهم لم تعد هناك أهمية للأخلاق، بل القيم المهمة تكمن في ترويج السلع التي ينتجونها، والثقافات التي يطرحونها عبر المنصات الإلكترونية، أو وسائل الترويج الإلكتروني، لبث السلوكيات التي تدعهم منتجاتهم، حتى المظاهر الشكلية صاروا يعتمدون عليها بشكل كبير لسحب الشباب تحت الهيمنة المادية.
الآن يخوض العالم الإنساني المتوازن، صراعا شديدا مع الطرف المادي (الشركات والأفراد الأثرياء)، وهذا الصراع في الحقيقة غير متكافئ لأن الماديين وهم الذي يمتلكون الشركات والثروات الكبيرة على مستوى عالمي، هؤلاء لديهم كل الوسائل التي تمكنهم من شن حربهم على القيم المعنوية، لتسحب البشرية كلها وتضعها تحت هيمنة العصر المادي.
والآن هل يختلف معي أحد إذا قلت إن النزعة الاستهلاكية باتت مهيمنة علينا جميعا، وأنها أخذت تدمر الأذواق، وتستدرج الجميع إلى حافة الإسراف من دون بصيرة أو تأنٍّ أو تفكير؟
هل أصبحنا مجتمعا استهلاكيا؟
نعم نحن أصبحنا مجتمعًا استهلاكيا من نمط غريب، أو نمط فريد من نوعه، وإلا ما معنى هذه الهجمة (من كل الأعمار) على الاستهلاك بلا تفكير ولا تبصّر، فالكل يريد أن يشتري الشيء الذي اشتراه صاحبه في العمل، أو جاره، أو حتى لو كان غريبا في الشارع أو الحديقة العامة، المهم انه يشتري ما اشتراه الآخرون.
والبعض الآخر يذهب بعيدا فيصرّ على أن يقتني نفس المادة أو الشيء ولكن من بدرجة أحدث وأغلى سعرا ويأتي بها ويستعرضها أمام الجميع كي يُشار له بأنه يمتلك الموبايل الأغلى، أو السيارة الفارهة الأكثر سعرا.
لم يمضِ وقت طويل على تلك الأيام التي كنا نخاف فيها من الحسد، فكنا نخفي أي شيء جديد نشتريه، وبعضنا كان لا يرتدي القميص أو الحذاء الجديد حتى لا يحسده الآخرون فيُصاب بمرض أو وعكة أو يتعرض لمشكلة، أما اقتناء السيارة فلابد أن يرافقها قربان عن الحسد، كأن نشتري خروفا ونذبحه وفي أقل الاحتمالات نشتري دجاجة ونذبحها ونضع دمها على قشر السيارة، أم أن العراقيين نسوا هذه الأمور التي تمسكوا بها طويلا.
نحن بالطبع لسنا نقف أمام التطور والتقدم والرفاهية، لكن ليس إلى الحد الذي بلغت فيه الأمور إلى الهيمنة الاستهلاكية المطلقة على مجتمعنا والمجتمعات الأخرى، هل جربتم مثلا وزرتم مطعم (المندي السعيد) في زيارة عائلية للترويح، والتغيير وتناول وجبة طعام يستحقها العراقيون حتما، ولكن في الحقيقة (وليجرب ذلك أي من القراء) ويذهب إلى أحد المطاعم، أنا متأكد أنه لن يعثر على طاولة فارغة.
لا نحتاج لحياة بلا قيم
ولهذا يضطر أن ينتظر وقوفا إلى أن تفرغ إحدى الطاولات من جلاسها، هكذا وصلت هيمنة الاستهلاك على العراقيين، ليس في المطاعم وحدها، جرّب أن تدخل أحد المولات، سوف ترى العجب العجاب، والغريب أن معظم الناس تشتري ما يفوق حاجتها، وما يفيض عن حاجتها الفعلية، لماذا؟، هل حصلتم على أموالكم بلا تعب؟. أم هو تأثير قراصنة العصر المادي عليكم؟، هل أثّر هؤلاء المروجون إلى هذا الحد على عقول الناس؟.
خذ السيارات مثلا أو حتى الدراجات النارية، أو أية مواد أخرى، أكرر أنا لا أعارض الرفاهية المعتدلة، أنا مع أن يرفَّه العراقيون بطريقة متواصلة ولكن بشرط أن تكون معتدلة وصحيحة، وليست فوضوية تنم عن جوع مزمن واستهلاك يشبه السباق من دون حدود أو قوانين، نعم لقد أصبحنا نتسابق على الاستهلاك كأننا نعيش الأيام الأخيرة من حياتنا.
هذا أمر غير مقبول قطعا، لأنه غير صحيح، ولا يعبر عن حقيقة المجتمع العراقي ولا عن ثقافته وأصالته، وتميزه بالاعتدال والامتلاء وعدم الرغبة بالتسابق المجاني تجاه حالات الاستهلاك غير المنظَّم، كما أننا لا نريد أن نبتعد عن قيمنا الأصيلة التي نعيش بوجودها حياة تتميز بالتعاون والتفاعل والتفاؤل أيضا.
نحن نريد أن نعيش حياة كريمة مرفَّهة ولكن لن نسمح لحالات الاستهلاك المجاني أن تسيطر علينا وتسلب منا حياتنا القائمة على التوازن والاعتدال، وإلا فنحن لا نحتاج مطلقا إلى رفاهية منفلتة، بلا حدود، يتسابق فيها الجمع نحو الاستهلاك دون حدود.
اضف تعليق