غير الزاهد غالبا ما يطمع بالحرام، لأنه يكون منفتحا على الخيارات السيئة كافة، أما حين يكون شاكرا للنعم فإنه يكون مكتفيا عفيفا قنوعا تجاه الماديات وبالنتيجة يكون زاهدا في الحرام، لأن غير الزاهد يكون حريصا على الدنيا مستعجلا في الكسب وعنده الحرص على المزيد من المكاسب والمكاسب...
(فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ)
كل منا له آمال في حياته، ومنذ صغره يتربى على هذه الآمال، وبها ينمو ويتقدم في العمر، فبعضٌ يحقق هذه الآمال او بعضها، وبعضٌ يفشل في ذلك، فلماذا هناك من يحقق الآمال، وهناك من يفشل في تحقيقها، وبعضٌ يتصور إنه قد حقق الآمال التي ترسخت في اعماق ذهنه والتصقت بأفكاره، فعندما يصل إلى المنعطف الأخير من حياته، يكتشف إن هذه الآمال لم تكن آمالا حقيقية بل مجردة أوهام؟
لم تكن تلك الآمال التي كان يسعى لتحقيقها أو يستهدفها في حياته حقيقية، فكيف للإنسان أن يحقق آماله ويحولها الى أهداف حقيقية ولا يقع في فخ الآمال الوهمية، الآمال المضلِّلة، الآمال التي تنتشر بين الناس كآمال، ولكنها هي في الواقع مجرد أحلام وأمانٍ يتمنى الناس أن يصلوا إليها وبعضها لا قيمة لها، لأنها مجرد أمانٍ وأحلام مادية محضة ليس فيها أي مضمون يرتبط بالإنسان، وبوجوده، وبحقيقته، كغاية سامية أساسية في الحياة.
إن الآمال الدنيوية والمادية في معظمها هي آمال كاذبة، وخادعة، ومضلّلة، وأيضا هي تدميرية للإنسان، يقول الإمام علي (عليه السلام): (وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ وَيُنْسِي الذِّكْرَ فَأَكْذِبُوا الْأَمَلَ فَإِنَّهُ غُرُورٌ وَصَاحِبُهُ مَغْرُورٌ).(1) هذه الآمال الضيقة والفئوية، دنيوية قصيرة الأجل، قليلة المحتوى ضيّقة الهدف وفاقدة للمضمون.
الانجذاب الشديد للأمل الكاذب
الآمال الكاذبة، حيث يصل الإنسان بالنتيجة إلى مرحلة معينة، فيكتشف إنها لم تحقق له ذلك الإشباع وذلك الظمأ المخفي في قلبه، ذلك الشعور الذي يُشبعهُ، ويُشبع تعطشه الروحي والنفسي، ويلهِم عقله إلهاما فيرفع عنه الحجب، لكن غرور الدنيا وزبرجها وصخبها، يوقع بالإنسان في فخ الآمال الواهمة.
فالعقل هنا ينحجب كما يقول الإمام علي (عليه السلام)، فالأمل المادي القصير المدى الدنيوي المحض سوف يُسهي العقل (2) ويحجب عنه رؤية الواقع، ويكون غير واعٍ وغير مدرِك لوهم هذا الشيء الذي يقع في تضليله بسبب انجذابه الشديد للأمل الكاذب. وينسيه كذلك العِبَر والتجارب التي مرّ بها الآخرون، مثل أولئك الذين تكون آمالهم سلطوية، فلم يتذكروا ولم يعتبروا من أولئك الذين بحثوا عن السلطة ووصلوا إليها ثم أخفقوا إخفاقا شديدا، لذلك فأكذبوا هذا الأمل الزائف واذهبوا وراء الأهداف الحقيقية.
ولا يأخذكم الغرور الدنيوي والسلطوي، والمادي، فتتضخم ذاتك وتكون معجبا بنفسك، بما تمتلكه من سيارات وحشم وخدم وقصور وسلطات تجعلك مغرورا ساهيا، وغير مدرك لضلال وتضليل هذه الآمال الكاذبة.
(يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) الحديد 14.
كيف نصل إلى الآمال الحقيقية؟
الإمام علي (عليه السلام) وضع لنا قواعد من خلال مفهوم الزهد، نستطيع من خلالها أن نحقق الأهداف الصحيحة والآمال الحقيقية في الحياة التي توصلنا إلى غاياتنا الإنسانية الكبيرة والعظمى، ونحقق وجودنا الأساسي في الحياة عندما نصل إلى المنعطف الأخير من عمرنا في الحياة.
فكيف نحقق أهدافنا هذه وما هي القواعد التي تتكئ عليها سلوكياتنا في الحياة؟
القاعدة الأولى: الشكر يجعل الآمال حقيقية
خاصة الشكر لله سبحانه وتعالى لأنه لا شكر إذا لم يكن لله سبحانه وتعالى، لصاحب النعمة الذي منَّ علينا بالخلق وبالوجود والنِعَم الكبيرة والحرية والتفكير والإدراك والعقل والفهم والإنسانية، وهذه النِعَم الكبيرة التي تحيط بنا.
فالشكر قاعدة أساسية من أجل بناء الزهد وتحقيق الانطلاقة الصحيحة في حياتنا، لأن الشكر يعطيك القدرة على تفهّم النعم الموجودة حولك، فمعظم الناس تكون آمالهم كاذبة وواهمة لأنهم لا يشكرون النعم، ولا يقدرون النعم الموجودة التي حولهم، بل يزدرون ويكفرون بالنعم، فيعتبر أحدهم هذه النعم الموجودة عنده ومنها نعمة الصحة والعافية أمرا عاديّا، فقد تكون أمواله قليلة، ولكن صحته جيدة لذلك هو لا يدرك نعمة الصحة والعافية، ولا يدرك نعمة العقل الموجود عنه، ولا نعمة الكمال الجسماني الذي يتمتع به، بالإضافة إلى نعمة الأولاد والزوجة ونعمة الحياة التي يعيشها.
فيبحث عن آمال أكبر وهي آمال وهمية، وهنا لا يشكر الإنسان ربه، وعندما لا يشكر ربه فإنه في الواقع يدخل في عالم الكفر بالنعمة والجزع وعدم تقدير النِعَم التي توجد حول الإنسان، فالشكر لله سبحانه وتعالى يضبط سلوك الإنسان تجاه الماديات، ويجعله واعيا وفاهما للرغبة الحقيقية ويضبطها ضبطا صحيحا سليما، والزهد هو الذي يرتبط بعملية الشكر ارتباطا وثيقا لأنه الشكر لله سبحانه وتعالى ينتج القدرة على مواجهة الماديات، فيكون الإنسان زاهدا بالآمال الكاذبة والآمال القصيرة والماديات الضيّقة، حيث تتوسع آفاقه بتوسع رؤيته وعظم أهدافه.
فالشكر يضبط سلوك الإنسان من خلال توجيه العيش نحو الحياة الزاهدة القادرة على فهم الإنسان للنِعَم الموجودة حوله.
عن الإمام علي (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ الزَّهَادَةُ قِصَرُ الْأَمَلِ وَالشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ وَالتَّوَرُّعُ عِنْدَ الْمَحَارِمِ فَإِنْ عَزَبَ ذَلِكَ عَنْكُمْ فَلَا يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبْرَكُمْ وَلَا تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَجٍ مُسْفِرَةٍ ظَاهِرَةٍ وَكُتُبٍ بَارِزَةِ الْعُذْرِ وَاضِحَةٍ).(3) هنا الإنسان الذي يريد أن يدخل في طريق الزهد لابد أن يكون شاكرا للنعم منضبطا تجاه الحرام، ومتورعا عن الوقوع في المحارم ويكون صبورا في الانزلاق لارتكاب الحرام لأنه بالنتيجة يغلب الإنسان في عملية عدم الرضى والقناعة والنِعَم التي لديه.
(ولا تنسوا عند النعم شكركم) لأن الإنسان قد ينسى هذه النعم الموجودة حوله، فيغرق في عالم الماديات، ويصبح مغرورا طاغيا ولا يقدر تلك النعم، وهذا سوف يقوده إلى طريق الطغيان والهلاك، ويسحبه إلى طريق الكفر بالنعم، أما الشكر فيمنع اتجاه الإنسان نحو الماديات ويجعله عارفا وفاهما للنعم الحقيقية التي عنده.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (أشكَر الناس أقنعَهم، وأكفرَهم للنعم أجشعَهم)(4) فالإنسان الذي يكون طماعا جشِعا وميّالا للمال والسلطة فهو كفور بالنعم الموجودة حوله، والإنسان الذي يصل إلى السلطة لابد أن يكون شاكرا ويقدِّر النعم التي عنده، ويساعد الناس ويقف معهم ولا يؤذيهم، فالسلطة هي لخدمة الناس، فلا يجوز أن يكون صاحب السلطة طماعا في الحصول على الأموال، فعندما يرزقه الله سبحانه وتعالى الرزق الوفير لابد أن يقدّر هذه النعمة ويساعد الناس ولا يكون طاغية، ويستفيد من الأموال وحده فقط. بل يخدم الناس والمجتمع من خلال تأسيس وبناء المؤسسات الخيرية ولمساعدة الفقراء، ونشر العلم والمعرفة فيما بين الناس.
القاعدة الثانية: الزهد في الحرام
إن الإنسان الذي يكون شاكرا لله، سوف يكون زاهدا بالحرام، وتطبيق الزهد بمعناه الصحيح يبدأ من الزهد في الحرام، لأنه الإنسان غير الزاهد غالبا ما يطمع بالحرام، لأنه يكون منفتحا على الخيارات السيئة كافة عندما لا يكون زاهدا، أما حين يكون شاكرا للنعم فإنه يكون مكتفيا عفيفا قنوعا تجاه الماديات وبالنتيجة يكون زاهدا في الحرام، وعنه (عليه السلام): (وَلَا زُهْدَ كَالزُّهْدِ فِي الْحَرَامِ)،(5) لأن الإنسان غير الزاهد، يكون حريصا على الدنيا، مستعجلا في الكسب، وعنده الحرص على المزيد من المكاسب والمكاسب.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (الزاهد في الدنيا من لم يغلب الحرام صبره، ولم يشغل الحلال شكره)(6)، وهكذا فإن الشكر هو طريق الحلال وعدم الكفران بالنعمة، أما عدم الزهد في الدنيا فهو طريق الانحراف حين يفقد الإنسان صبره.
إذا كان الإنسان لا يمتلك القدرة على الشكر، وعنده تطلعات في الحياة، وعنده آمال، فلابد أن يكون صبورا ولا يتعجّل الأمور، فالصبر يمسك نفس الإنسان عن الحرام، وكثير من الروايات التي تصل إلينا تؤكد إن معنى الصبر هو الصبر عن الحرام، لأن أسوأ شيء هو أن يسقط أو يقع الإنسان في الحرام، وإذا ارتكب الحرام الأول يقوده إلى الحرام الثاني وإلى الحرام الثالث، وهكذا يصبح غارقا في أوحال الحرام، وهذه مشكلة خطيرة بالنسبة للإنسان غير المنتبه او المهمل.
وعن الامام محمد الباقر (عليه السلام): (الصبر صبران: صبر على البلاء، حسن جميل، وأفضل الصبرين الورع عن المحارم).(7)
فلابد له أن يكون صبورا شكورا زاهدا في الدنيا، ويسيطر على نفسه ويعيش في نعمة الحلال، وما ألذّها من نعمة.
القاعدة الثالثة: إدارة الشهوات واحتوائها
إن إدارة الشهوات واحتوائها والسيطرة عليها، وكبح جماح هذه الشهوات، والسيطرة عليها من أهم العوامل التي تؤدي أو تحقق مفهوم الزهد في الحياة، فالشهوات لها منزلقات كثيرة ذات طابع مادي، مثل شهوة الأموال، شهوة الجنس، شهوة الطعام، شهوة الانتقام، شهوة التملك، فهناك شهوات كثيرة يواجهها الإنسان في مسيرة الحياة، فلابد أن يتجنب منزلقات هذه الشهوات ويديرها ويتحكم فيها، ويكون عقله هو الحاكم وصبره هو المنهج.
عندما يأتيه شيء يرغب به لابد أن يتوقف وينظر مليّا فيه، فإذا أردت أن تتناول طعاما ما، فقبل أن تتناوله لابد أن تنظر وتفكر قليلا ومليّا لمدة عشر أو عشرين ثانية، ثم بعد ذلك ستعرف أن هذا الطعام مضرّ لك فتتجنبه، وإذا أعطاك أحدهم مالا، وفي هذا المال شبهة فساد أو حرام، وأغراك بهذا المال، عليك أن تصبر قليلا وتتحكم بشهوة المال مدة عشرين أو ثلاثين ثانية وتفكر قليلا، وحينئذ عقلك هو الذي يتحكم ويدير شهواتك.
لا تتعجّل في اتباع الشهوات والذهاب وراءها لأنها تطيح بالإنسان وتُسقطه، فتجعله أسفل السافلين، فهذه الشهوات ليس لها منطق عقلاني، وليس فيها رؤية منطقية، بل هي شهوة جامحة، والذي يتحكم بهذه الشهوة وهذه الغريزة هو العقل، وبصيرته وفهمه للمنزلقات وتفكره بالعواقب الخطيرة التي يمكن للشهوات أن توصِله لها.
التقوى تنتج عن التفكّر
وعن الإمام علي (عليه السلام) في حديث طويل اقتطعنا منه هذا المقطع يقول: (فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ وَأَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ وَأَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ وَأَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ وَظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ) (8)، فالتقوى تأتي من التفكّر، لأن الإنسان يتّقي ويقي نفسه من الوقوع في الحرام، عندما يعرف إن العواقب خطيرة (ذي لبّ) يعني تعمّق، فاللب هو العمق الموجود عند الإنسان، ولا يجب أن ينظر إلى الظواهر، فيشغله التفكّر عن ادراكه وفهمه لواقع الحياة.
لا يصح أن يتوقف الإنسان عن التفكّر بعمق، في كل القضايا الموجودة حوله، وأن لا يكون سطحيا، فالأناس السطحيون تحيط بهم المشاكل، وبعضهم لديه مشاكل كثيرة في حياته، لدرجة أنه يواجه في كل يوم عشرين مشكلة أو اكثر، ذلك لأنه سطحي في تفكيره ولا يفكر بعمق أو في اللبّ.
أيها الإنسان، إن الله سبحانه وتعالى قد أعطاك العقل، ففكّرْ قبل أن تفعل أي شيء، فكّر واستفد من عقلِك، وتوقَّ من المشكلات والأزمات والمحرّمات، فالتفكّر المستمر بالعواقب يجعل الانسان قادرا على أن يصل إلى مرتبة عالية من التقدم، عبر تحديد المشكلات واستيعابها.
إدارة الشهوات بمنهج الزهد
(وظلف الزهد شهواته)، يعني الزهد احتوى شهوات الإنسان، فأصبح مسيطرا على شهواته وجعلها تسير وفق المنطق العقلي الصحيح، فأصبح يدير شهواته بالأسلوب الصحيح، على سبيل المثال عند تحدث أمطار كثيرة وفيضانات كبيرة فماذا يفعل الإنسان العاقل؟، يتقي، ويحاول أن يحتوي هذه المياه الجامحة الكبيرة في قنوات تقود هذا الماء إلى خزانات أو إلى سدود أو إلى أنهار أخرى، بالتالي ستكون مياه الأمطار الكبيرة مفيدة وغير مضرّة، فهذا الماء يكون مفيدا وليس مضرّا وهذه هي نتيجة التفكّر العقلاني حين يعرض الإنسان شهواته ويتحكم بها، ويمنعها ويضعها في القنوات الصحيحة ويمنعها عن الجماح.
حينئذ فإن هذا الإنسان يتحكم بشهواته ويديرها ويوجهها الاتجاه الصحيح، وتكون نافعة ومفيدة وغير مضرّة له، (وظلف) يعني غطّاها أو منعها أو كفّها عن طريق الزهد، لأن منهجية الزهد تمنع هذه الشهوات من أن تكون مضرّة بالإنسان، والشهوات بطبيعتها تحجب الإنسان عن الفهم، لأنها شهوات عمياء غير عقلانية، تحجب الإنسان عن الفهم، وعن المعرفة، وتقود الإنسان نحو مستنقعات خطيرة.
أما الزهد فهو يوصِّل الإنسان إلى العمق، ويجعل هذه الشهوات في منطلق صحيح نحو مدخلات صحيحة وفي إدارة سليمة، فتصل إلى الغايات الناجعة.
عن الإمام علي (عليه السلام): (كيف يصل إلى حقيقة الزهد من لم يُمِتْ شهوته)،(9) بمعنى تكون شهوته ميتة لصالح حياة نفسه، وتكون حياته مضمونة بدرجة أقوى، وهنا يستطيع الإنسان أن يدرك الشهوة من خلال الزهد، فهؤلاء الذين ليس عندهم زهد في الدنيا، وعندهم حرص شديد عليها وجشع وطمع شديد في الدنيا، وشهواتهم منفلتة، فهؤلاء ليس عندهم إدراك للذة هذه الشهوات، فتكون لا قيمة لها.
على سبيل المثال، الشخص الذي يأكل الطعام الكثير، بالنتيجة سوف يفقد لذة هذا الطعام، ويصبح عبئا عليه، أما الإنسان الذي يأكل الطعام القليل فإنه يلتذّ به، ونقصد الإنسان الذي يأكل ما يحتاجه من الطعام، فيأكل بقدر حاجته، ولا يعبر حدّ الحاجة، هذا الشخص يلتذّ بالطعام ويصبح طيبا لذيذا هنيئا مريئا في نفسه وفي داخله.
كذلك الحال مع الشهوات، فعندما الإنسان يستفيد منها بطريقة صحيحة، سوف يدرك لذّة هذه الشهوات، وعندما تكون هذه الشهوات جامحة ومتمردة ومنفلتة، فإنه لا يدرك لذه هذه الشهوات، بل ستلاحظ أنه سيصبح مدمنا على أشياء أخرى، لأنه لا يشبع، فهذه الشهوات المنفلتة لا تُشبِع الإنسان، لأنها لم توضَع للإشباع، وإنما وُضِعَت كوسيلة في حياة الإنسان لتحقيق حاجات معينة.
الزاهد يربح الدنيا
لذلك فإن إدراك اللذة يتحقق عن طريق الزهد، فالإنسان الذي يكون زاهدا في الدنيا هو الذي يربح الدنيا، وهو الذي يدركها، أما الذي يركض وراء الدنيا لا يربحها، بل يخسرها ويخسر الآخرة أيضا، هذا المضمون يذكره الإمام علي (عليه السلام) في هذا المقطع: (أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الْآخِرَةِ فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَلَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وَأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ وَالْمَتْجَرِ الرَّابِحِ أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللَّهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ)،(10) حيث حصلوا على الدنيا والآخرة، ووصلوا الى اللذة الحقيقية في الدنيا.
إن الإنسان الذي قلبه طيّب ونفسه مطمئنة، عندما يأكل الطعام يشعر به هنيئا، وعندما يحصل على المال الحلال يحصل عليه بسعادة وراحة واطمئنان ورخاء، هذه هي اللذة الحقيقية، فالإنسان الزاهد في الدنيا هو الذي يعمل بمنهج الزهد ومنهج الاعتدال، الزهد هو منهج الاعتدال في الحياة، حيث لا افراط ولا تفريط. كما نقلنا سابقا عن الإمام علي (عليه السلام): (فَكُلُّ تَقْصِيرٍ بِهِ مُضِرٌّ وَكُلُّ إِفْرَاطٍ لَهُ مُفْسِدٌ)،(11) والحد بينهما هو الاعتدال والزهد هو منطق الاعتدال وهو الذي يقود الإنسان نحو الاعتدال والسير في الطريق المستقيم وإيصال الإنسان إلى الغايات الصحيحة والسليمة في الحياة.
هذا هو منطق الزهد، فعندما يسير في حياته بطريقة معتدلة، فانه يسير في الطريق المستقيم ويصل إلى غايته، وهذا هو معنى الزهد الذي هو اللذة الحقيقية في الدنيا التي تتكامل فيها اللذة المعنوية واللذة المادية.
القاعدة الرابعة: التحكّم بالأشياء
المقصود بالأشياء هي كل الماديات الموجودة حولنا، كالسيارة أو البيت أو الأثاث، أو الأجهزة الكهربائية والتكنولوجية، هي كل الأشياء الموجودة في حياتنا والتي نحب ونتطلع إلى امتلاكها، دائما نحب أن يكون لدينا أحسن موبايل، وأحسن تلفاز، وأرقى سيارة، وبيت فخم، هذه الأشياء الموجودة حولنا تشكل تطلعات للكثير من الناس بأن يمتلكوها.
بعض الناس عندما يمتلكها، فلا يكفيه ما امتلكه بل يريد أن يمتلك أكثر فأكثر، بالنتيجة عندما يفقد الإنسان القدرة على التحكم بهذه الأشياء، وفق منطق الزهد والاعتدال، فإن الأشياء تهيمن عليه ويكون عبدا لها، لذلك فإن معظم الناس اليوم يعيشون في عالم الأشياء.
الإنسان يخرج من بيته للعمل، ويذهب لكسب المال لكي يمتلك الأشياء، والكثير من هذه الأشياء لا يحتاجها، عندما يذهب إلى السوق أو الى (السوبر ماركت) ويملأ عربة السلع بالمشتريات المختلفة، فهو يملأها بأشياء كثير غير مفيدة بل قد تكون مضرّة، ويقوم بذلك لأنه يوجد عنده حب بحرص لامتلاك هذه الأشياء بعد أن أصبحت مسيطرة عليه.
الأشياء أصبحت تتملك هذا الإنسان، تملكا كبيرا ومهيمنة عليه، فلذلك إن أكبر خطأ يرتكبه الإنسان هو أن يصبح خاضعا لعالم الأشياء، لأن عالم الأشياء يحجبه عن عالم الأفكار وعن التفكير والتعقّل، ويحجبه عن عالم المعنويات، ويحجبه أيضا عن عالم الأخلاق والقيم، وعندما يصبح عالم الأشياء مسيطر على الإنسان ويصبح عبدا لهذا العالم، فإنه بالنتيجة يفقد قدرته على التحكم بنفسه.
عالم التكديس
فيذهب في بعض الأحيان نحو الحرام ولا يتورع عن القيام بذلك، فيكون حسودا وحريصا وبخيلا، فعندما يتحكم عالم الأشياء بالإنسان ويصبح عبدا له، سوف يخرج من العوالم الأخرى، وبالتالي الخروج من العالم الإلهي، ويصبح ذليلا وعبدا لهذه الأشياء المادية التي يتصور بأنه يمتلكها، ولكن في الحقيقة هي التي تمتلكه وتسيطر عليه.
وهذا مرض كبير جدا، يعبر عن ظاهرة الإدمان على الأشياء خصوصا مع التطور التكنولوجي الحالي، ولهذا أصبحت الحياة معقدة جدا بسبب وفرة الأشياء الكثيرة، حتى أصبحنا نعيش عالم التكديس، وثقافة التخزين لأشياء لا نحتاجها.
في بعض الأحيان هناك من يبدل الأثاث مع أنه أثاث صالح، وسبب ذلك هو الهوس الشديد الذي أصبنا تجاه عالم الأشياء، وهذا يقود الإنسان إلى أمراض ثانية، والإدمان الموجود في قضايا التسوق وامتلاك الأشياء والماديات سوف يقودنا إلى أشياء أخرى خطيرة تلقي الإنسان في الحرام والرذيلة. فما هو الحل؟
الزهد يحجِّم عالم الأشياء
والحل هو في الزهد لأنه ينظّم حياة الإنسان مع عالم الأشياء، فالزهد يجعلك تسيطر على عالم الأشياء، وتتحكم بالأشياء بحسب حاجتك لها، ولا تشتري أكثر مما تحتاج، فإذا كانت عندك سيارة فارهة مرت عليها خمس سنوات وهي لا تزال جيدة عليك أن لا تشترِ سيارة أخرى، فالزهد يجعلك مسيطرا متعقلا، ويقول لك إنك لا تحتاج إلى سيارة جديدة، فسيارتك الموجودة لديك تكفيك.
الزهد يعلم الإنسان على التحكم بعالم الأشياء، ويجعلك أكبر من عالم الأشياء، ويقودك إلى عوالم القيم والأخلاق والمعنويات والتفكّر والأفكار.
عن الإمام علي (عليه السلام) يقول: (الزهد أن لا تطلب المفقود حتى يُعدم الموجود)،(12) هذا هو معنى الزهد، وهو لا يعني أنك لا يجب ان تمتلك شيئا، لا يعني إنك تعيش متقشفا، فالتقشف لا علاقة له بالزهد، فهذا التفسير خاطئ، الزهد يعني أن تحصل على الأشياء بقدر حاجتك، وأن لا تطلب الأشياء حتى تفقدها.
فالشيء الموجود عندك لا تطلب غيره، إذا كنت تمتلك سيارة واحدة فيكفي أنك تمتلكها، ولا تذهب نحو شراء سيارة أخرى، وتبرر ذلك بالقول واحدة مخصصة للسفر، وأخرى مخصصة للحركة داخل المدينة، هذا الكلام خاطئ، لأنه يجعلك تسير في متوالية مستمرة من القضايا والمشكلات والأزمات التي تجعل عالم الأشياء مسيطرا عليك.
هذا ليس مرضا فرديا، وإنما هو مرض اجتماعي عام يصبح سلوكا جمعيا، فعندما يقوم أحد الأفراد بعمل معين، فإن الآخرين يقلّدونه في ذلك، ويذهبون وراءه لأنهم يعيشون في عالم الأشياء بعيدا عن التفكّر والتعقّل، فينغمسون في هذا الهمّ والغم، القلق والاكتئاب، وبالنتيجة يكونون مستعبدين من قبل عالم الأشياء.
والبحث في موضوع الزهد والتحكم في عالم الأشياء سيكون له تتمة..
اضف تعليق