الرؤية الحضارية هي ادراك الاشياء وإبصارها وفهمها والتعامل معها من خلال منظومة قيم (اخلاقية، سياسية، اقتصادية الخ) حافة بالمركب الحضاري وعناصره الخمسة (الانسان، الارض، الزمن، العلم، العمل). القيم هي مؤشرات السلوك الحاكمة على تصرفات الانسان فردا او مجتمعا او دولة في مختلف مجالات الحياة...
ماذا نقصد حين نقول: ننظر الى هذا الامر برؤية حضارية؟ او نقول: نتصرف برؤية حضارية؟ او دولة حضارية؟ وهكذا. ماذا نعني بمصطلح «الرؤية الحضارية». الرؤية الحضارية هي ادراك الاشياء وإبصارها وفهمها والتعامل معها من خلال منظومة قيم (اخلاقية، سياسية، اقتصادية الخ) حافة بالمركب الحضاري وعناصره الخمسة (الانسان، الارض، الزمن، العلم، العمل). القيم هي مؤشرات السلوك الحاكمة على تصرفات الانسان فردا او مجتمعا او دولة في مختلف مجالات الحياة. الدولة الحضارية هي تلك الدولة القائمة على اساس هذه المنظومة القيمية في دستورها وتشريعاتها وقوانينها ومواقفها وسياساتها ونمط الحياة الذي توفره لمواطنيها وعلاقاتها الدولية. كل رؤية موصوفة من قبل مدعيها بانها «حضارية» غير مشتملة على عناصر التعريف السابق هي رؤية غير تامة وناقصة حضاريا. يحاول بعض الناس اطلاق صفة الحضارية على افكارهم او تصرفاتهم دون ان يشتمل ذلك على كل عناصر التعريف المذكورة. وقد يكون هذا جهلا او خداعا كما يفعل البعض في اطلاق صفة «الديموقراطية» على افكارهم او تصرفاتهم دون ان يشتمل ذلك على كل عناصر الديموقراطية ويكون هذا جهلا او خداعا.
قد تختلف الرؤى الحضارية باختلاف منظومات القيم، لكن هذا لا يقدح في وصفها بانها حضارية ما دامت تشتمل على العناصر المذكورة في التعريف. يسعى الدين السماوي وشرائعه الثلاث المعروفة، كما يسعى الفلاسفة والمفكرون الى بناء رؤية حضارية خاصة بهم شاملة لعناصر التعريف المذكورة بهدف التوصل الى افضل استثمار لعناصر المركب الحضاري المذكورة من وجهة نظر صاحب الرؤية.
والهدف المشترك لاصحاب الرؤى الحضارية هو تحقيق السعادة للانسان الذي يختلف مفهومها باختلاف نفس الرؤى الحضارية فيما بينها. ومن هنا نقول ان مفهوم السعادة نسبي، نسبة الى الرؤية الحضارية التي تعرّفها. لكن اختلاف الرؤى الحضارية في تعريف السعادة لا يمنع من وجود نقاط مشتركة بينها قد تمثل العامل الجامع الاعظم بينها. وهذا الجامع المشترك الاعظم قد يوفر ارضية التعايش السلمي بين اصحاب الرؤى الحضارية المختلفة.
وصف الدولة
اهم استخدام لمصطلح الحضارية هو ما يأتي وصفا للدولة، فنقول الدولة الحضارية. تكون الدولة حضارية حين تقوم على اساس منظومة قيم عليا في دستورها وتشريعاتها وقوانينها ومواقفها وعلاقاتها. الخ.تكون الدولة حضارية حين توفر متطلبات الاستثمار الافضل لعناصر المركب الحضاري بما فيها العلم الحديث الذي بسببه نضيف صفة اخرى الى الدولة وهي «الحديثة».
على مدى التاريخ حاول المفكرون التوصل الى هذا الادراك الحضاري للحياة، وقدموا مساهمات مهمة في هذا المجال. وفي احيان كثيرة جاء ادراكهم منقوصا حيث ركزوا على بعض جوانب الرؤية الحضارية ولم تسعفهم القدرة البشرية الناقصة على تقديم الرؤية الكاملة التي تحيط بكل جوانب الحياة. ولا نلومهم على ذلك، فقد بذلوا كل ما في وسعهم لتحقيق ذلك. ضرب القران لنا مثلا رمزيا في محاولات التوصل الى الرؤية الحضارية الكاملة في قصة ابراهيم عليه السلام.
«وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. ًفَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.»
من بين كل محاولات طرح «رؤية حضارية كاملة» يقف القران الكريم شامخا ليقدم رؤية حضارية احسبها الرؤية الوحيدة الكاملة ، مصداقا لقوله:»الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا». والذي افهمه من هذه الاية بقرينة غيرها من الايات ان الدين الكامل/ الاسلام هو الرؤية الحضارية الكاملة التي تقوم على اساسين كبيرين هما: توحيد الله واستخلاف الانسان. ويرى القران ان هذين الاساسين وبالتالي الرؤية الحضارية المنبثقة منهما كفيلان بتحقيق السعادة للانسان ليس في الدنيا فقط، وانما في الدنيا والاخرة ايضا.
وبناء على هذه الرؤية يرفض القران الشرك بالله، وعبودية الانسان لاخيه الانسان. وتلخص هذا الموقف شهادة «لا اله الاّ الله». فالله وحده هو المثل الاعلى المطلق، والمعبود الاوحد. وهذه الشهادة تنفي شرعية عبودية الانسان لاخيه الانسان. ويشمل هذا الموقف الجوانب العقائدية والعبادية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للانسان. وتكون نتيجة ذلك اطلاق يد الانسان في استثمار الطبيعة وثرواتها والاستمتاع بها عن طريق العلم والعمل. ويكون هذا هو منطلق بناء الحضارة على اساس منظومة القيم الحافة بالمركب الحضاري التي جاء بها الاسلام. وهذه هي «الرؤية الحضارية» التي يقدمها الاسلام للانسان. لا يفترض ان كل المسلمين مدركون للرؤية الحضارية التي جاء بها الاسلام، او انهم كلهم ملتزمون بها، ولهذا لا يصح اتخاذ المسلمين دليلا على معرفة الصفة الحضارية القيمية للاسلام. فقد وقع سوء الفهم او سوء التطبيق او الانحراف او التحريف لهذه الصفة في وقت مبكر من تاريخ الاسلام، بل منذ زمن النبي محمد (ص) الذي نبه على ذلك. لذا لا يمكن افتراض ان التاريخ الاسلامي مجسد لمنظومة القيم الحضارية للاسلام. يمكن التقاط تطبيقات رائعة مجسدة لهذه القيم هنا وهناك، لكن نجد الكثير من المتناقضات هنا وهناك.
فيلسوف اجتماعي
بالضبط كما لا يصح اعتبار سقوط الاتحاد السوفييتي دليلا على خطأ كل افكار كارل ماركس بوصفه فيلسوفا ومفكرا اجتماعيا واقتصاديا حيث يبقى الرجل مصدرا لكثير من المعارف الصحيحة. كذلك الامر بالنسبة للاسلام، مع الفوارق في التشبيه، فاخطاء المسلمين ليست دليلا على خطأ الاسلام الذي مازال مصدرا مهما للمعارف الحضارية.
من المهم ان اؤكد في نهاية هذا المقال ان اقصاء الرؤية الحضارية القرانية عن سعي المجتمع نحو التقدم والتحضر يحرم المجتمع من امكانية الاستفادة من القيم العليا المختزنة في هذه الرؤية والتي يمكن ان تشكل روافع للنهضة ومؤشرات السلوك القويم للفرد والمجتمع والدولة.
اضف تعليق